الأسرة المسلمة بين التفكك والترابط
إن الأسرة المسلمة تتعرض، منذ عشرات السنين، لمحاولات شديدة الخطورة؛ وذلك لنزعها عن عقيدتها ودينها، وكذلك هدم أهم مميزات تلك الأسرة المسلمة، ألا وهو الترابط والتلاحم الأسري فيما بينها، والتواصل الدائم والمستمر بين أفرادها، فقد سعت العلمانية، بكل ما أوتيت من قوة، إلى تفكيك روابط هذه الأسرة، عن طريق الكلمات البراقة، والمعاني المنمقة، والصفات الجذابة، وكل هذه الكلمات والمعاني والصفات إنما تنطوي على كوارث إنسانية، وقنابل موقوتة تنفجر بعد مدة من الزمن، فتجد الأسرة المسلمة ولم يتبق لها من إسلامها وقيمها ومبادئها ومميزاتها إلا الاسم فقط.
لقد أراد أولئك العلمانيون أن تصبح الأسرة المسلمة كالأسرة الغربية، والتي هي قائمة في الأساس على التفكك والتمرد على كل ما هو ثابت ومعروف، فالابن في الأسرة الغربية، وفي ظل العلمانية، ينتظر بفارغ الصبر ذلك الوقت الذي يبلغ فيه سن الثمانية عشر عامًا، أو دخول الجامعة؛ حتى يتحرر كلية من أسرته، فلا رقيب عليه ولا أحد يوجهه، وليست هناك قواعد ثابتة يمكن الرجوع إليها مثلًا، إنما هو حر في كل ما يفعل وما يريد، فليس من حق أبيه أو أمه منعه من شيء، أو أمره بشيء؛ بل لا سلطة لهما عليه، وهو حر تمامًا فيما يعتقد وما يؤمن به.
هذه هي الأسرة العلمانية، التي يحاول أولئك المدعون سحب الأسرة المسلمة إلى دركاتها، وإذا كان قوام هذه الأسرة العلمانية هو التفكك والتمرد، فإن قوام الأسرة المسلمة هو الترابط والتواصل والحوار.
الأسرة المسلمة هي الأسرة الممتدة، التي مع مرور الوقت تزداد وتنمو وتكبر، وتزيد أواصر الترابط بينها وبين غيرها من الأفراد الجدد الذين يدخلون فيها، سواء كان عن طريق النسب أو الولادة، فهي كلما زاد عددها زادت المحبة والترابط والتواصل، أما الأسرة العلمانية فهي الأسرة المحدودة جدًا، التي يختفي فيها التواصل والتراحم والترابط بين أفرادها، فيتحولون إلى أفراد مستقلين، لا يفكر أي أحد منهم في الآخر؛ بل يعيش كل فرد فيها همه الفردي، فتصبح هذه الأسرة كالكوز الأجوف، يعيش أفرادها بلا أدنى علاقات بينهم، ولا حتى التواصل في أدنى درجاته، كأنهم مثل النزلاء في الفندق، إن التقوا في طريق العودة أو الإياب ربما تبادلوا التحية، وأحيانًا يتنكرون لبعضهم.
إننا نتذكر جيدًا، منذ وقت ليس بالبعيد، كيف كان الآباء والأبناء، في الأسرة العربية والمسلمة خاصة، يجتمعون كل ليلة وفي الأمسيات يتبادلون الحديث، وكانوا يجتمعون كل يوم على الطعام في موعد محدد، وكان دائمًا للآباء والأمهات تواصل فعال مع الأبناء، وكان الابن دائمًا ما يلجأ إلى أبيه أو أمه، لأخذ النصيحة أو الاستشارة في أمر معين، أو حتى الفضفضة إليهما في أي أمر أهمه.
أما اليوم فهناك أنشطة كثيرة تشغل الأبناء عن التواصل مع آبائهم وأمهاتهم، فبعد المدرسة هناك الدروس الخصوصية، كما أن الآباء لا يجدون وقتًا كافيًا لهذا التواصل مع الأبناء؛ لانشغالهم هم أيضًا؛ بل أصبح تناول الأسرة للطعام مجتمعين من الماضي أيضًا، وهكذا أصبحت اللقاءات العائلية من الماضي، وتلاشى التواصل بين الآباء والأبناء.
في هذه المشكلة فإن اللوم الأشد هو على الآباء، فانشغال الأبناء بالدراسة لا يكون طوال الوقت، وإنما هناك انشغالات مع أصحابهم وعلى الشبكة العنكبوتية، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي يمكن أن يتم تحجيم انشغالات الأبناء غير المهمة وتقليصها في حدودها النافعة.
أما الآباء فإن انشغالهم كله إنما هو في مسالة جلب الرزق، وزيادة الدخل، وتحسين الوضع المعيشي، ولا ننكر أبدًا أن هذه من الأمور المهمة جدًا، لتوفير حياة كريمة له ولأبنائه، وتأمين مستقبلهم، لكن "مهمة الوالد لا تقتصر على أن يَنصَب من الصباح حتى المساء، أو أن يضرب في الأرض من أجل الحصول على ما ينفق على بيته، كما لا تقتصر مهمة الأم على ترتيب البيت وتنظيف الثياب وإعداد الطعام، فهذه المهام الكريمة، التي يقوم بها الآباء والأمهات، لا ينبغي أن تستغرق كل أوقاتهم وجهودهم؛ حيث إن ذلك لا يعد سوى أجزاء مهمة من مكونات البيئة التربوية الجديدة، أما العمل التربوي فإنه شيء آخر.
إننا ورثنا عن الأجيال السابقة مسألة إعطاء جل اهتمامنا للأمور التي ذكرناها، وإذا نظرنا إلى البرنامج اليومي للسواد الأعظم من الآباء، وجدنا أنهم يقضون ساعات طويلة خارج المنزل، وحين يعود الواحد منهم من عمله يعود منهكًا، وقد استنفذت طاقاته النفسية، وكثير منهم يعودون بعد أن يكون الأطفال الصغار قد استغرقوا في النوم، كما أن كثيرًا منهم يذهبون إلى أعمالهم قبل أن يستيقظ أبناؤهم.
ولا يصح أن نتجاهل صعوبة كسب العيش بالنسبة إلى معظم الناس، كما لا يصح أن نستهين بالثواب العظيم الذي ينتظر الكادحين في سبيل تحصيل لقمة العيش، لكن حين نعلم أن توجيهنا لأبنائنا وإشرافنا عليهم هو الأساس وهو المحور، فإننا سنبحث عن الوقت الذي نجلس فيه معهم" [دليل التربية الأسرية، عبد الكريم بكار، ص16-17].
إن الأبناء غير منشغلين أبدًا بنجاح الآباء في العمل، أو ترقيهم في المناصب، أو بكثرة انشغالهم، إن ما يحتاجه الأبناء هو الرعاية والاهتمام والحنان والاتصال والتواصل الدائم والفعال، إنهم يحتاجون هذا التواصل، والآباء يبخلون عليهم به، وهذا هو البخل الحقيقي، وليس البخل بالمال.
فلا بد من التواصل مع الأبناء ومشاركتهم العمل والمذاكرة؛ بل وحتى اللعب، ومشاطرتهم مشاعرهم ومشكلاتهم، ويجب أن يكون هذا التواصل والترابط بعيدًا عن جو العمل، فكثيرًا من الآباء يقضون أوقاتهم مع أبنائهم، وهم لا يكفون عن التحدث في الهواتف النقالة، أو مناقشة بعض أصحابهم في مشاكل العمل.
وهذا خطأ فادح يقع فيه الآباء؛ لأنه يصل إلى فهم وعقل الطفل أن وجود والده معه إنما هو وجود لا تأثير له ولا فاعلية، فهو عبارة عن آلة لجلب ودفع النقود، إن الآباء بهذه الأفعال إنما هم يهربون من مسئولياتهم الحقيقية.
وهناك مِن الآباء مَن يعوض أبناءه عن تخصيص وقت للتواصل والتفاعل والانسجام معهم بهدايا ونقود، وهؤلاء الآباء والأمهات دائمًا ما يعانون من أن الأبناء شديدو الأنانية والبحث عن الذات فقط، وفي الحقيقة فإن الطريقة التي تعامل بها الآباء والأمهات مع الأبناء هي التي أنتجت هؤلاء الأبناء الأنانيين.
وبالتالي يجب على الآباء والأمهات ألا يستخدموا المال أبدًا بدلًا عن العاطفة، فمهما أغدق الأب أو الأم على الابن من المال فإنه أبدًا لن يعوضه عن دقائق بسيطة يجلس فيها الوالد مع ولده يستمع إليه، ويبتسم في وجهه ويمسح على رأسه، ويشاطره أفكاره وأعماله، وحينها يلجأ الولد إلى أبيه أو أمه في أي أمر من الأمور، وحينها تعود الأسرة المسلمة المترابطة المتماسكة.