اشتري وقتك
الوقت ليس شيئًا يمكنك توقيفه حتى يتسنى لكي معرفة ما تفعلي به، ولا هو مثل المال يمكن ادخاره، أو تخزينه لوقت الحاجة، وإنما هو العمر الذي لا بدّ من أن ينقضي سواء استعملناه في خير أم في شر، أو تركناه حتى يمرّ وينتهي، إن الوقت لغز عجيب، كما هي الحياة، لا تشعر به إذا أردت ذلك، وتشعري به أيضًا إذا قررت أن تشعري به.
وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك (1).
والناظر في حال كثير منا اليوم، وكيف يقضون أوقاتهم؛ من تضييع وإهدار للوقت، يعلم أنهم محرومون من نعمة استغلال العمر، واغتنام الوقت؛ ولذا نراهم ينفقون أوقاتهم، ويهدرون أعمارهم فيما لا يعود عليهم بالنفع.
قال يحيى بن معاذ: الفوت أشد من الْمَوْت، لأن الفوت انقطاع عَنِ الحق والموت انقطاع عَنِ الخلق (2).
وقال ابن مسعود: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي (3).
يقول ابن الجوزي: رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا، إن طال الليل، فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق... إلى أن قال: فالله الله في مواسم العمر، والبدار البدار قبل الفوات، واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا: النفوس، فكأن قد حدا الحادي فلم يفهم صوته من وقع الندم مما راق لي (4).
لماذا نهتم بتنظيم الوقت؟
لقد اعتنى القرآن الكريم بموضوع الوقت عنايةً كبيرةً من وجوه عديدة، فمن ذلك أنه تعالى جعله نعمةً من النِّعَم التي سخَّرها للإنسان؛ فقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 33].
والزمن إنما هو الليل والنهار، ومن ذلك أنَّ الله تعالى أقسم ببعض الأوقات؛ وذلك لأهمية الوقت، فأقسم تعالى بالفجر وبالضُّحى وبالعصر وبالليل وبالنهار.
لقد قسَّم الله تعالى عمر الإنسان، فجعله سنين وشهورًا وأيامًا وساعات، وجعل في هذه الأوقات عبادات تضبط وقت المسلم؛ لتكون هي ميزان الوقت كله.
فميزان اليوم والليلة: الصلوات الخمس، وميزان الأسبوع: الجُمُعة، وميزان العام: رمضان، وميزان العمر: الحج، فمن ضيَّعَ ميزانه، فقد ضيَّع رأس ماله وربْحه معًا.
الوقت أثمن ما في الوجود، بل هو الوجود نفسه، الوقت هو عمر الإنسان وحياته كلها، لأن العمر محدد ولا يمكن زيادته بحال من الأحوال، ولأن الوقت مورد شديد الندرة، لأن الوقت مورد غير قابل للتخزين لأن اللحظة التي لا نستغلها تفنى، لأن الوقت مورد غير قابل للبدل أو التعويض، لأن الوقت يحاسب عليه المرء مرتان، فيسأل عن عمره ثم شبابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس، عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم» (5).
إن وقت الإنسان هو حياته وعمره، فمن أذهب وقته فيما لا ينفعه عند ربِّه، فقد أذهب حياته وعمره؛ لأن الدنيا لا تعمر إلا باستغلال الوقت، والدين لا يتمُّ ولا يكمل لصاحبه إلا باستغلال الوقت.
فما الذي أوصَلَ العلماء العظماء إلى مراتب العظمة، وجعلهم في منازل عالية من الحفظ والفهم والتفكير والإنتاج النافع لغيرهم في حياتهم وبعد مماتهم؟ إنه استغلال الوقت ومعرفة قيمة الزمن.
وما الذي بلغ ببعض العباد إلى الآفاق السامية من كثرة العبادة والدأب عليها، إلا استثمار الوقت وصرفه في هذا الجانب العظيم.
وفي عصرنا الحاضر نرى الكفار جعلوا للوقت أهمية كبيرة، ومن إدراكهم ذلك بنوا الحياة الحديثة بما أفرزَتْه عقولهم من النظريَّات، وما أنتجته من المخترعات، فقد كان بعض المخترعين يقضي عشرين ساعة في التفكير والبحث والإنتاج من غير كَلَلٍ ولا مَلَلٍ، وبعضهم يقرأ الصحيفة في أماكن الخلاء.
إذا أردتم أن تعرفوا الفرق بيننا وبينهم في هذا الجانب فتأمَّلوا ماذا نصنع في صالات الانتظار في المطارات والمستشفيات وغيرها، وماذا يصنعون هم لاستغلال الوقت.
إدارة الوقت تكمن في كون الوقت عامل رئيس ومؤثر في حياة الإنسان لارتباطه بأكثر من جانب، العبادات الدينية التي يقوم بها المسلم طوال حياته، طاعة لله تعالى، وإتباعًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وأعمال ومواعيد الحياة اليومية، وكل الآمال والتطلعات والأمنيات والتخطيط للمستقبل، فاستغلال الوقت في الحياة الدنيا، لتحقيق السعادة في الحياة الآخرة.
إن الوقت إذا لم يُقض بالخير قُضي بضده؛ وتلك مسألة لا ينازع فيها أحد، والأعداء ما فتئوا يكيدون لنا ويخططون لإشغالنا في الوقت الذي يستثمر فيه الأعداء أوقاتهم، ويحرصون كل الحرص على استغلال كل لحظة من لحظاته، ولا تظني أختي المسلمة أن شغل الوقت بالنافع لا يكون إلا للعاملات؛ فكل امرأة تشغل وقتها بما لديها من علم وقدرات، فهذه أشغلت نفسها بحفظها لكتاب الله، وتلك بطلب العلم، وأخرى بتعليمه، ورابعة بالدعوة إلى الله، وخامسة بمتابعة أحوال الفقراء والمساكين وجمع التبرعات لهم، وأخرى سخر الله لها بابًا إلى الخير وهو وجود أحد والديها الكبير في السن المحتاج لمساعدتها ومتابعتها فانشغلت به عن غيره؛ فكل ميسر لما خلق له .
ومن رحمة الله بكن يا أختي المسلمة أنكن مأجورات في أعمال المنزل وفي النوم وفي الأكل، وفي انشغالكن بأزواجكن، وفي تربيتكن لأولادكن ومتابعتكن لأحوالهم، بل في قضاء شهواتكن بالحلال، كل ذلك إذا ما تقربتن إلى الله به واحتسبتن الأجر والإعانة على الطاعة، ولكِ أن تجعلي لسانك رطبًا بذكر الله أثناء القيام ببعض أعمال المنزل، أو أي عمل يمكّنكِ من ذكر الله فتنالي بذلك أجر الذكر وأجر التقرب إلى الله بذلك العمل.
أختنا المسلمة:
تطمح كثير من النساء إلى استغلال الوقت ولكن تنقصها الهمة التي تعين على ذلك، فتسأل عن الأمور المعينة على استغلال الوقت فنقول:
- إن الخوف من الله وخشيته ومراقبته تدفع الإنسان لعمارة وقته بالطاعات والإقلاع عن المحرمات، فمن أسماء الله ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11]، وقوله: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
العلم والإحاطة والمراقبة تملأ القلب مراقبة لله في الحركات والسكنات، فإذا استشعر المؤمن أنه مراقب من قبل الله فحري به ألا يفتقده حيث أمره ولا يراه حيث نهاه.
- تذكر الموت، فإن الإنسان إذا تذكر الموت مع جهله بالزمان والمكان الذي سيفاجئه فيه كان ذلك أدعى لحرصه على حسن الخاتمة، وأن يتوفاه الله على طاعته، فيدفعه ذلك لشغل وقته بالصالحات.
- صحبة الصالحين ذوي العقول السليمة والهمم العالية والأوقات المستثمرة الذين نستطيع أن نصفهم بقولنا: من ذكركم الله رؤيتُه، وزاد في علمِكم منطقُه، وذكركم بالآخرة عملُه، الذين تحيا القلوب بذكرهم وإن كانوا أمواتًا، لا من تموت القلوب بمخالطتهم وهم أحياء.
- معرفة قيمة الوقت وأهميته، وأنه محاسب عليه، بل ومحتاج إليه، كل ذلك يدفعه إلى العمل.
- الحذر من التسويف وهو قول (سوف) فإنها أحد جنود الشيطان والسعي في المبادرة بإنجاز العمل قبل أن يحال بينه وبينه.
دعا أحد الأمراء رجلًا صالحًا إلى الطعام فاعتذر بأنه صائم، فقال الأمير: افطر وصم غدًا، فقال: وهل تضمن لي أن أعيش إلى الغد؟!
نعم -أخت العقيدة- فهل نضمن أن نعيش إلى الغد، بل هل نضمن أن نعيش إلى ما بعد هذه الحلقة؟!
أفكار لحفظ الوقت:
1- سجلي أعمالك: أحيانًا تكونين فارغة وتشعرين أن عندك أعمالًا تحتاج لإنجاز لكن لا تتذكرينها، فتفوت أوقات الفراغ دون الاستفادة منها، لذلك سجلي أعمالك لهذا الأسبوع في ورقة، وعلقيها في مكان بارز، مثلًا على المرآة في غرفتك، وكلما انتهيت من إنجاز عمل ضعي عليه إشارة، تأكدي لن يمر الأسبوع بإذن الله إلا وقد أنجزت جميع المهام المكتوبة في الورقة أو معظمها، وهذا أفضل من التعويل على الذاكرة حيث تمر الأيام ولم تنجزي ربع ما أردت.
2- اشتري وقتك:
وذلك بأن تستخدمي دائمًا الأشياء التي توفر وقتك، ولو اضطررت إلى شرائها، فكما لا يخفى عليك أن هناك كثيرًا من الأجهزة تعينك على القيام بعدة أعمال دعوية في وقت قليل، ولا شك في أن هذا ربح كبير لعمر الانسان القصير في الدنيا ومن تلك الأجهزة: وسائل الاتصالات بأنواعها: كالهاتف، الجوال، الفاكس وأخيرًا الشبكة العالمية الإنترنت رزقنا الله خيرها، وسخرها لنشر دينه، ووفقنا للاستفادة منها، إنه سميع مجيب.
ولا شك في أن الاستفادة من تلك الأجهزة وشراء وقتك بها سيعطيانك القدرة على القيام بأعمال أكبر وأكثر، فيصبح إنتاج داعية واحدة تشتري وقتها –عمرها– بهذه الأجهزة يعادل إنتاج عدد كبير من الداعيات اللاتي لا يستخدمنها.
3- وزعي الأعمال:
وزعيها بينك وبين الآخرين ممن يحبون التعاون على الأعمال الصالحة، فإذا كان هناك بعض الأعمال يستطيع غيرك إنجازها ولا تتطلب مهارة خاصة؛ فمن الأفضل الاستعانة بغيرك حتى لا يثقل كاهلك فيصبح إنتاجك ضعيفًا أو بطيئًا، وقد تعجزين في بعض الأحيان عن إنجاز بعض الأعمال التي كان من الممكن القيام بها إذا توزعت المهام.
4- كذلك لا تنسي وضعك -إذا كنت متزوجة- كربة منزل ناجحة، فأنت بحاجة أيضًا إلى أن تشتري وقتًا طويلًا قد يضيع دون إنجازات تذكر.
حاولي أن تستخدمي الأجهزة المنزلية التي تعينك على إنجاز أعمالك بسرعة ودقة، فهي تعينك على حفظ الوقت والاستفادة منه في الطاعات، فالوقت الذي تستغرقينه عند استعمال غسالة ملابس عادية مثلًا أضعاف الوقت الذي تستغرقينه عند استعمالك لغسالة ملابس -أتوماتيكية– متطورة، بل لا يقارن أصلًا ففي الأولى تذهب منك عدة ساعات حسب كمية الغسيل، وقد تستغرق عملية الغسل يومًا بأكمله؛ بل قد تتكرر في الأسبوع ثلاث مرات، وعند بعض الناس تكون عملية الغسيل يومية تقريبًا نظرًا لكثرة عد أفراد العائلة.
أما عند استخدامك لغسالة متطورة فيكفي أن تديري مفتاح التشغيل وتنصرفي لأعمالك الأخرى ثم تعودي بعد ساعة تقريبًا لتستلمي ملابس نظيفة وناصعة.
إذا فستخسرين بسبب عدم شرائك لوقتك جزءًا من عمرك، وقيسي على ذلك جميع الأمور التي يمكننا أن نشتري أوقاتنا بها ولن تخفى على مثلك.
نعم يا أخية:
لا تتهاوني بالأمر استفيدي فورًا من التكنولوجيا المتوفرة التي في عصرنا الحاضر، ادفعي في هذه الدنيا، واشتري وقتك وعمرك، فوالله إنه أغلى من أشياء كثيرة دفعت فيها الآلاف دون أن تشعري، ولم تستفيدي منها فائدة حقيقية تقربك من الله.
نعم يا عزيزتي لا عليك، اخسري في الدنيا لتربحي في الآخرة، وإن كانت لا تسمى خسارة، فكل ما بذلته لتتقربي من الله هو ربح وأجر وغنيمة، فسخري ما بين يديك لطاعة مولاك، فإنه من شكر النعم والله.
5- المناسبات المنزلية:
كوني امرأة حكيمة مدبرة فبكري في إنجاز مهامك كي تتيسر أمورك بهدوء بعيدًا عن التوتر مما يزيد من إعجاب زوجك بك وتقديره لك.
كما ستجدين وقتًا كافيًا للتنسيق مع إحدى الأخوات الداعيات لاستضافتها لتلقي على المدعوات كلمة قصيرة ومفيدة.
ستجدين وقت الشراء بعض الأشرطة والكتيبات لتوزيعها على الحاضرات بعد تغليفها بشكل مرتب.
ستتمكنين من إعداد برنامج ثقافي ممتع للحاضرات حيث تقدمه إحدى الأخوات أثناء انشغالك بخدمة الضيوف.
ستكون مناسبة لا ككل المناسبات ستترك في مخيلة المدعوات انطباعًا خاصًا مليئًا بالفائدة والحيوية والإبداع.
كيف تنظم وقتك؟
1 –وقت محدد لإنجاز أي مهمة في حياتك:
تنظيم الوقت يأتي بالتفكير المنظم فالوقت المتاح والوظائف التي نريد إنجازها… فعلى سبيل المثال، لديكي في اليوم 24 ساعة، حددي الوقت الذي تحتاجه حاجاتك الجسمية مثل النوم الذي يفترض ألا يتجاوز ثمانية ساعات، ومن الأفضل أن تدربي نفسك على الاكتفاء بست ساعات كل يوم، والتدرب على الاستيقاظ والنوم باكرًا، إذ كشفت دراسة أن النوم قبل منتصف الليل يعود بفائدة أكثر على الجسم، ودراسة أخرى كشفت أن دماغ الإنسان يعمل بشكل أفضل في الصباح الباكر، خصوصًا في وقت الفجر.
2- حددي وقت للترفيه عن النفس:
لا يعني تنظيم الوقت أن تمتنعي عن قضاء وقت رائع في الترفيه عن النفس بممارسة الهوايات والأنشطة الشخصية، بل تساعدك في تخصيص وقت لذلك، بتحديد وقت لكل هواية في اليوم.
فعن عائشة، رضي الله عنها، أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: «هذه بتلك السبقة» (6).
3- تحديد الأولويات:
حددي أولويات حياتك المهنية، العائلية، الاجتماعية، والدراسية، واكتبي أهدافك في الحياة، إذ لا فائدة من تنظيم الوقت إن لم تكن في حياتك أهداف تحلمي بتحقيقها، وقومي بتجزيئها على شكل مهام.
4- اصنعي جدولًا زمنيًا:
قومي برسم جدول زمني شبيه بالجدول الزمني المدرسي، أو اختاري الشكل الذي تريديه شرط أن يكون واضحًا، وفي ورقة كبيرة الحجم، توزع فيها أوقات اليوم، وتضعي في كل خانة المهمة التي تريدن إنجازها، ثم علقي هذا الجدول في حائط، وقومي بمراجعة هذا الجدول على الدوام.
5- الأولويات قبل كل شيء:
لا تخلطي بين الأولويات، بحيث تعطي وقتك لمهمة ليست بأولوية ولا يبقى لكي وقت لمهامك الأساسية، أو لا يكفيك الوقت لإنجاز المهمات ذات أولوية، حاولي أن توافقي بينها وتتعلمي كيف تتدخلي وتغيري حسب أي حالة من هذه الحالات.
6- المرونة:
من أهم الأمور لنجاح الجدول الزمني، هي المرونة، ففي حالة خصصت مدة من الوقت غير مناسبة لمهمة، عليك أن تقومي بتغيير الوقت وتخصيص الوقت المناسب لهذه المهمة.
7- مضيعات الوقت:
حددي الأمور التي تضيع لكي وقتك مثل مشاهدة التلفاز لوقت طويل من غير جدوى، الإنترنت لمدة طويلة من دون الحاجة إليه، وحاولي تحديدها والتقليل منها، وعند الجلوس تحددي المدة التي تريد أن تجلسيها فقط (7).
إن مما يشهد على تضييع أكثر الوقت فيما لا ينفع: أن نصيب الآخرة من الوقت لا يُمثِّل إلا الهامش من جدول الحياة؛ إذ أكثر الأوقات وأحسنها تُصرف للدنيا، وما بقي فللآخرة ممن يعمل للآخرة.
ومن ذلك أيضًا: وجود الفراغ الكبير في الليل والنهار عند بعض الناس، حتى ملوا هذا الفراغ؛ ليقول عند ذلك: تعال نُضيِّع الوقت! أفما يدري هذا الإنسان أنه يُضيِّع كنزًا من كنوزه التي وهَبَه الله إيَّاها؟!
ومن شواهد التضييع: قلة الإنتاج الشرعي والحياتي، ففي الجانب الشرعي تلاحظ قلة العبادات، وقلة المحفوظات، وقلة القراءة، وقلة التأليف والكتابة النافعة.
وفي الجانب الحياتي: يُشاهد أننا من أقل الأمم الآن إنتاجًا في المخترعات والمصنوعات والمزروعات والنظريَّات وغير ذلك، والأدلةُ كثيرةٌ على ظاهرة تضييع الوقت؛ بل قد صار الفراغ مشكلةً من المشكلات التي توجد في المجتمع، ولم يعد نعمة وكنزًا ثمينًا.
ليس السبب في هذا التضييع إلا التربية والعيش في بيئات لا تعرف قيمة الوقت وشرفه، وأنه نعمة من الله تعالى يجب شكرها باستغلالها في عظائم الأعمال وإعطاء العمل ما يستحقُّه من الوقت بدون زيادة أو نقصان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ» (8).
أي: كثير من الناس خاسر في هاتين النعمتين، والقليل منهم الرابح فيهما، فمن لم يستغل صحته فيما ينفعه دينًا ودنيا ندم حين مرضه، ومن لم يعمر الوقت بما يفيده تحسر عندما يشغل عن ذلك، فحلت الخسارة على الصحيح الغافل والفارغ المضيع بعد أن كانت السوق قائمة والسلعة قيَّمة والثمن موجودًا.
إن إضاعة الوقت مشكلة تلد مشكلات أخرى؛ كالأمراض النفسية، والبدنية والأخلاقية، فمن الفراغ دخل الشيطان على الإنسان وتولَّدَت الوساوس وعُملت المعاصي.
قال أبو العتاهية:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسده
وقال آخر:
لقد هاج الفراغ عليك شغلًا وأسباب البلاء من الفراغ
فيا أمة الله، من أنعم الله عليه بفراغ، فليغتنمه بعمل نافع، فالفراغ لا يعني اللعب وترك العمل؛ قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]؛ يعني: إذا فرغت من عمل صالح، فاشرع في عمل آخر.
يُروى عن البخاري رحمه الله أنه كان يقول:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح رأيت من غير سقم ذهبت نفسه الصحيحة فلته
أيها المسلمة، إذا عرف الإنسان العاقل شرف شيء سارع إلى الإفادة منه، فالوقت ثمينٌ، فماذا أنت فاعل بوقتك أيها المسلم؟
ابدئي باستغلال الوقت في أداء الحقوق التي عليك لله تعالى، والحقوق التي عليك للخلق، فانظري الواجبات من العبادات، وأضيفي إليها المستحبَّات فاعمليها، وانظري حق والديك، وحق زوجك، وحق أولادك، وحقَّ من وُلِّيْتَ أمره، فاقتطعي جزءًا من الوقت لإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه.
قومي بأعمالك الدنيوية بقوة وأمانة من غير انشغال بها عن الآخرة، والحذر الحذر من البقاء بغير عمل مباح مع القدرة عليه؛ قال عمر رضي الله عنه: إني لأكره أن أرى الرجل سبهللًا، لا في عمل دنيا، ولا عمل آخرة (9).
في عصرنا الحاضر وجدت وسائل حديثة يمكن الانتفاع بها؛ كالقنوات والجوَّالات والحواسيب وغير ذلك من الأجهزة النافعة لشغل الفراغ، فينبغي أن تستغل في الخير، ويحذر أن تكون مصدر شَرٍّ على الإنسان.
إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها فلا تدري السكون متى يكون (10).
-----------
(1) جامع العلوم والحكم (2/ 382).
(2) الرسالة القشيرية (1/ 65).
(3) مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار (3/ 29).
(4) صيد الخاطر (ص: 157).
(5) أخرجه الترمذي (2416).
(6) أخرجه أبو داود (2578).
(7) كيف تنظم وقتك بالشكل الصحيح؟/ ثقف نفسك.
(8) أخرجه البخاري (6412).
(9) المجالسة وجواهر العلم (4/ 154).
(10) وقتك حياتك/ الألوكة