الخلافات الزوجية ..الخلاف لا يعني الطلاق
الحياة الزوجية السعيدة ليست هي الحياة التي تخلو من الخلافات الزوجية؛ وإنما هي الحياة التي يستطيع من خلالها الزوجان أن يتغلبا على هذه الخلافات، ويستطيعا حلها دون أن يخسر كل منهما رصيد الحب الذي بداخله تجاه
الطرف الآخر، ولا حتى أن ينتقص منه، وأن يحافظ كل منهما على مستوى الاحترام المتبادل بينهما تجاه كل منهما.
إذ أنه لا يخلو بيت من البيوت من الخلاف؛ حتى بيت النبوة، فالمهم معرفة كيف يدار الخلاف؟، وكيف يتم حل الخلاف؟، ومعرفة مقدار كل خلاف، حتى يتم التعامل معه، فالخلافات الزوجية منها ما يمكن حله في ثواني عديدة، ومنها ما يحتاج إلى تدخل طرف آخر، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } [النساء:35].
درجات الخلافات الزوجية، وكيفية التعامل معها:
تختلف الخلافات الزوجية من بيت زوجية إلى بيت زوجية آخر، وذلك نتيجة لاختلاف الطبائع البشرية، والقدرات المالية، والمستويات الاجتماعية، ومقدار التحمل والصبر، ومدى الالتزام بتعاليم الشرع الحنيف، واتباع أوامره واجتناب معاصيه.
أولًا: فمن الخلافات الزوجية ما يكون بسيطًوشوق بعد الرجوع من العمل، أو تضايق الزوج من عدم إحضار الزوجة له كوب الشاي بعد الغداء مباشرة، أو رفع الزوجة صوتها على زوجها عند احتدام النقاش، أو غيرة الزوجة من طعام غيرها إذا أعجب زوجها، كل هذه الخلافات يمكن حلها ببساطة شديدة، فعن أنس، رضي الله عنه، قال: «كان النبي، صلى الله عليه وسلم، عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي، صلى الله عليه وسلم، في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي، صلى الله عليه وسلم، فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: «غارت أمكم»، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت»(1).
فمثل هذه الأمور يتم التعامل معها كما تعامل النبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يوجه حتى أي توبيخ إلى التي كسرت الصفحة؛ بل تلمس لها العذر، فقال: «غارت أمكم»، أي ما دفعها على ذلك إلا تلك الغيرة الطبيعية التي جعلها الله في قلوب النساء.
إذن فتلك الخلافات لا تستدعي حتى النقاش حولها، وإنما غض الطرف عنها، والتنبيه عليها بعد ذلك في ثنايا الكلام، تعريضًا لا تصريحًا.
ثانيًا: من الخلافات الزوجية ما يكون بسبب شيء متأصل في نفس كل طرف، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "الطابع الاجتماعي"، بمعنى أنه قد يكون الطبائع الاجتماعية للزوجة مختلفة عن الطبائع الاجتماعية للزوج، وبالتالي كذلك اختلاف طبائع أهل كل طرف، فمثلًا ما يوصف أنه تصرف عادي عند أهل الزوجة، قد يعد تصرفًا غير لائق عند أهل الزوج، أو ليس من شيم الكرماء، والعكس كذلك، وخصوصًا إذا كان الزوج يسكن في نفس مسكن أهله، حتى ولو كان مستقلًا، إلا أن معدل الاحتكاك بين زوجته وأهله كثير، وبالتالي تنشب الخلافات.
فمثلًا غضب الزوجة إذا أنفق الزوج كثيرًا من ماله على أهله، برًّا بهم، أو بخل الزوج في معاملته لأهل زوجته، أو بخل الزوجة في معاملة أهل زوجها، أو كثرة استضافة الزوج لأهله في البيت، وإرهاق الزوجة في خدمتهم.
كل هذه المشاكل تحتاج إلى بعض الوقت لمعالجتها، قد تكون شهورًا، وقد تمتد إلى سنوات كذلك، فالمرأة المسلمة لا تغضب إذا أنفق الزوج كثيرًا من ماله على أهله؛ بل لها أن تفرح بذلك، حيث أنه زوج بار بأهله، وهو ما سيجعله بالتأكيد بار بها، فيجب عليها أن تمدح له ذلك، وعلى الزوج ألا يمون بخيلًا في معاملة أهل زوجته، إضافة إلى أن هذا مما يرفع قيمتك عند أهل زوجتك وعند زوجتك كذلك، ويجعلها تفتخر بك أمام أهلها، وعلى الزوجة أيضًا مراعاة ذلك، فضلًا عن أن البخل ليس من شيم المسلمين أصلًا، فما بالنا بالأهل والأقارب، أما كثرة استضافة الزوج لأهله في بيته وإرهاق زوجته بخدمتهم، فالزوجة الكيسة الفطنة والمسلمة صحيحة الفهم تفرح لذلك، وتجعله مدخلًا لكسب قلب زوجها، وبابًا واسعًا من أبواب كسب الحسنات.-
ثالثًا: من الخلافات الزوجية ما يحتاج معه إلى تدخل طرف آخر لحل هذا الخلاف، وذلك إذا الخلاف حول أمر جوهري مسلم به، وكل طرف يرى أن له الحق، أو أنه هو الذي ظلم، وأصبح يشعر بعدم الرغبة في استمرار تلك الحياة الزوجية؛ لأنه يشعر أن الطرف الآخر لن يتراجع عن موقفه أبدًا وبالتالي يريد إنهاء الحياة الزوجية، لذلك كان لا بد من تدخل طرفًا آخر يسمى حكمًا، أي من الحكمة، فليس أي أحد يستطيع أن يصلح بين الزوجين أو أن يقرب وجهات النظر، أو يزيل هذا اللبس في الفهم الذي أدى إلى الوصول إلى تلك الحالة التي عليها الزوجان، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35].
رابعًا: من الخلافات ما يحتاج إلى تنازل من الزوجة عن بعض حقوقها؛ حتى تستمر الحياة الزوجية، قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128].-
«إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يعرض عنها، فلها أن تسقط حقها أو بعضه، من نفقة أو كسوة، أو مبيت، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا جناح عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها؛ ولهذا قال تعالى: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا} ثم قال {والصلح خير} أي: من الفراق.-
وقوله: {وأحضرت الأنفس الشح} أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق؛ ولهذا لما كبرت سودة بنت زمعة؟، رضي الله عنها، عزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على فراقها، فصالحته على أن يمسكها، وتترك يومها لعائشة، رضي الله عنها، فقبل ذلك منها وأبقاها على ذلك.-
فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذه الآية: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا} الآية، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز»(2).-
خامسًا: من الخلافات الزوجية ما يكون علاجه بالهجر إذا لم تنفع النصيحة، فإذا فشل الهجر كان العلاج في الضرب، والضرب يكون مثلًا بعود كالسواك حتى ولو لم يوجع، وذلك في حالة المرأة الناشز التي لا تلبي رغبات زوجها، ولا تسمع له كلمة، ولا تنفذ له طلبًا، قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34].-
سادسًا: قد يصل الخلاف بين الأزواج إلى باب مسدود، لا يطيق فيه كل منهما الآخر، أو أحد الأطراف لا يقبل الآخر، بحيث لا يطيق العشرة معه، وهو ما عبرت عنه زوجة ثابت بن قيس، رضي الله عنه، «فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق، ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «أقبل الحديقة وطلقها تطليقة»»(3).
إن الأسرة المسلمة هي لبنة في بناء المجتمع الإسلامي كله، وإذا ما تفككت تلك الأسرة وتلك اللبنة، أصبح المجتمع الإسلامي برمته مهددًا بالانهيار، لذلك وجب التعامل مع الخلافات الزوجية باهتمام بالغ وتعقل وهدوء، قبل أن تصل الأمور إلى طريق مسدود، وأيضًا يجب على الزوج والزوجة التزود من العلوم التي تتحدث عن الأسرة المسلمة، وعن أسس بنائها، وكيفية التعامل مع الأهل، وكيفية تربية الأبناء.-
نصيحة أخيرة:-
اجعلي أيتها الزوجة نصب أعينك قول النبي، صلى الله عليه وسلم: «لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولا تؤدي المرأة حق الله، عز وجل، عليها كله، حتى تؤدي حق زوجها عليها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على ظهر قتب لأعطته »(4).-
أيها الزوج اجعل نصب أعينك قول النبي، صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- صحيح البخاري (5225).
- تفسير ابن كثير (2/426).
- صحيح البخاري (5273).
- سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (3366).
- سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (285).