أبناؤنا والغضب
من أكثر الصفات المشتركة بين جيل الأبناء الحاضر صفة الغضب، أو بالأحرى سرعة الغضب وثورة النفس وهيجانها من أقل المؤثرات، ولعل هذا من أكثر السمات التي تفرق بين هذا الجيل والأجيال السابقة له، فأطفال هذا الجيل ينتابهم الغضب أسرع وأشد من أطفال الجيل السابق، فأطفال هذا الجيل الحاضر يستيقظون من النوم غاضبين، ربما من معاملة الآباء والأمهات لهم أثناء إيقاظهم من النوم، ثم يذهبون إلى المدرسة غاضبين أيضًا، ربما لعدم إتمامهم الواجب المنزلي، أو لأثر إيقاظ الوالدين لهم، ثم بعد ذلك ينامون غاضبين أيضًا؛ لأنهم كانوا يريدون مواصلة اللعب على جهاز الكمبيوتر أو متابعة الفيلم الكارتوني.
ومن تبعات هذا الغضب أنهم يتشاجرون مع إخوتهم وزملائهم؛ بل ربما يصل الأمر في بعض الأحيان إلى المشاجرة مع الآباء والأمهات والمعلمين كذلك، وبالتالي فإنه من الأهمية بمكان أن نعرف كيف نتعامل مع هذا الجيل الغاضب، ثم نتعلم كيفية السيطرة على غضبهم.
لا بد لكل من الأب والأم والمعلم كذلك أن يعلم أن الغضب جزء لا يتجزأ من السلوك الإنساني، فكما أن الأبناء يغضبون فكذلك الآباء والأمهات يغضبون أيضًا، وبالتالي فإن الغضب الذي يحدث بين الحين والآخر يعد أمرًا طبيعيًا، وإنما الذي يجب معالجته في أنفسنا وفي الأبناء هو سرعة الغضب والغضب الدائم.
وإذا ما نظرنا إلى غضب الأبناء فسنجد أن هذا الغضب يكون العامل الأساسي فيه هو تصرفات الآباء والأمهات، فكون الآباء والأمهات عصبيين؛ وبالتالي يغضبون سريعًا ودائمًا، فلا شك أن الطفل سيكتسب تلك الصفة، فحين يرى الطفل أن والديه يعبرون عما يضايقهم بالغضب والصراخ أو الضرب، فكذلك الطفل سيفعل؛ حيث يرى أنه لا بأس من أن يخرج غضبه على هيئة صراخ أو ضرب.
فالخطوة الأولى في تعليم الأبناء عدم الغضب، أو بالأحرى عدم سرعة الغضب، وكيفية التعامل مع الغضب، هي محاولة الآباء والأمهات عدم الغضب أمام الأبناء، وأن يملكوا مشاعر الغضب أمامهم، ثم بعد ذلك على الآباء والأمهات أن يبينوا للأبناء أهمية ضبط النفس، وأنه علامة من علامات قوة النفس والتحكم بها، فليس من يملك نفسه عند الغضب ويتصرف بهدوء وتؤدة ضعيف؛ بل هو إنسان قوي كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما تعدون الصُّرَعَةَ فيكم؟»، قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: «ليس بذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب». [رواه البخاري (6114)، ومسلم (2608)، واللفظ له].
فالإنسان الذي يملك نفسه هو الإنسان الشديد القوي، الذي يستطيع تصريف الأمور، وحل المعضلات، وتسهيل الأمور، وكذلك هو الإنسان الذي يستطيع أن يحافظ على كرامته من أن تهان بسبب غضبه، أو تصرفه تصرفًا لا يليق بحاله كإنسان مسلم، فالغضب الخارج عن حد الاعتدال والضجر والسخط من الأمور التي لا تليق بالإنسان المسلم.
قد يحدث في بعض الأحيان أن يغضب الابن؛ بسبب أن أحد زملائه أو أقرانه قد جرح مشاعره، أو قام بظلمه، فتسبب هذا الأمر في غضبه، ثم تطور الأمر إلى حد الشجار والتعدي على الطرف الآخر، وفي هذه الحالة لا بد من تقدير غضب الابن؛ لأنه غضب لكرامته ونفسه التي ظلمت، ثم وضح له أن تنفيس هذا الغضب من خلال الشجار والضرب لن يحل المشكلة، وإنما لا بد من المناقشة والحوار الهادئ أولًا، ثم بعد ذلك اللجوء لطرف ثالث عاقل يستطيع حل مثل هذه الأمور؛ كالمعلم في المدرسة مثلًا.
ولعل من الأمور التي قد تجعل الابن يبتعد عن الغضب هي محاولة إظهار صورة الإنسان الغاضب أمامه، وكيف يكون حاله حين الغضب، فنقول للابن: انظر كيف يتلون وجه الإنسان المغضب، وكيف يتوتر جسده، وكيف أنه لا يستطيع التحكم بأعضاء كثيرة من أعضاء جسده، أتريد أن تكون مثله في تلك الحالة؟ إذن فلا بد من الابتعاد عن الغضب، والتدرب على التحكم في الذات.
فإذا ما تأثر الابن بذلك، وحاول ترك الغضب فلا بد من أن يقوم الوالدان بتشجيع الابن على هذه الخطوة، والثناء على مقدرته في التحكم في ذاته.
إن الابن حين يقوم أحد باستفزازه فإن ذلك يسبب له جرحًا، يدفعه في بعض الأحيان أن يكون عدوانيًا، وفي هذه الحالة لا ينبغي للوالد أو الوالدة أن يوجها الابن إلى عدم المبالاة بالاستفزاز الحاصل له، فهذا كمن يقول لإنسان يسبح بالماء: لا تبتل أثناء السباحة، إنما الواجب، على الآباء والأمهات، أن يوجهوا الأبناء إلى عدم الإفراط في ردة الفعل تجاه هذا الاستفزاز الحاصل.
ومن أفضل الأمثلة لتلقين الابن مثل ردود الأفعال هذه أن يتصرف الوالد هذا التصرف أمامه، إن حصل له استفزاز أمام ابنه، أو أن يحكي له موقفًا حدث له من قبل استطاع فيه أن يسيطر على غضبه، وأن يوجه ردة فعله في الطريق الصحيح.
ثم أخيرًا من الأمور المهمة التي ينبغي على الآباء والأمهات زرعها في أبنائهم؛ كي يستطيعوا السيطرة على الغضب والتحكم في الذات، الصبر؛ فالصبر هو الذي يضبط الانفعالات، فيستطيع الإنسان أن يفكر بهدوء، وأن يتحمل الآلام، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} [آل عمران:146].
وهذا هو الصبر الإيجابي الذي وصفه الله في القرآن بالصبر الجميل.
صبر يعقوب عليه السلام حينما جاء إليه أبناؤه يخبرونه بخبر ضياع يوسف، وكان يحق له أن يغضب منهم، لكنه صبر، {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} [يوسف:18].
ثم يصبر مرة أخرى حينما يأتي إليه أبناؤه مرة أخرى بخبر اتهام بنيامين بالسرقة، وقيام الملك بأخذه لهذا السبب، فلم يغضب منهم رغم الميثاق الغليظ الذي أخذه منهم في الحفاظ على أخيهم، ولكنه صبر، {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83].
فالصبر ليس استسلامًا للهوان أو ضعفًا وتسليمًا للاستفزاز؛ بل هو مواجهة للتحديات، ومقاومة للشر، وكذلك ثبات على المبدأ.