logo

إلى حارسة القلعة


بتاريخ : الأربعاء ، 26 ربيع الأول ، 1445 الموافق 11 أكتوبر 2023
بقلم : تيار الاصلاح
إلى حارسة القلعة

إلى مربية الأجيال وصانعة الأبطال، إلى حارسة القلعة وحامية الديار، إلى صاحبة الأنس والسكن والمودة للزوج، إلى كريمة الطبع عزيزة النفس عفيفة اللسان صافية الجنان حبيبة الرحمن.

إلى من رضيت بالله ربًا، وبـالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا، إلى من رضيت بعائشة بنت الصديق، وأسماء وفاطمة أسوة حسنة، إلى من أعزَّها الله بالإسلام فوقفت تمسـك بحبل الله المتين وتحرص على مرضاته، وترغب في الفرار إليه لتفوز في الدنيا والآخرة وتـكون لها الحياة الطيبة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ولَنـَـجْـزِيَـنَّهُمْ أَجْرَهُـم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، إلى شريكة العبد المسلم وحارسة قلعة العقيدة، إليها في بيتها (بيت الدعوة)، أهدي هذه الكلمات، لتعلم أنها في بيتها تقف على خط الدفاع الأول ضد أعداء الإسلام، وأن وقفتها هذه تمثل نقطة الارتكاز في دائرة امتداد هذا الدين، وأن نسيج ثوبها الشرعي هو نسيج الراية الإسلامية في الصراع بين الإسلام والجاهلية.

تعلمين أن بيتك خلية من خلايا كثيرة يتألف منها الجسم الحي للواقع الإسلامي، فبيتك قلعة من قلاع هذا الدين، وفي هذه القلعة يقف كل فرد على ثغرة حتى لا ينفذ إليها الأعداء؟!

وأنت حارسة هذه القلعة، ولقد أفردك الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسؤولية فقال: «والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها» (1)، فأنت حارسة النشء الذي هو بذور المستقبل، وطفلك اليوم هو رجل الغد، ولكلٍ دوره في الجهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض، وينبغي أن يؤهَّل لهذا الجهاد منذ مولده بإعطائه القدر المضبوط من الحب والحنان والرعاية بغير نقص مفسد أو زيادة مفسدة، ثم حماية مبادئ الإسلام ومفاهيمه في ذهنه.

أعلم أنك تشعرين بثقل الوطأة الساحقة لهذا المجتمع بكل ما فيه من مكائد ومثيرات، وبما فيه من تقاليد موروثة تأخذ في بعض الأحيان طابع العقيدة وتضغط على حسك أضعاف ضغطها على حس الرجل، وهذا يتطلب منك مضاعفة الجهد؛ وأنت قادرة على ذلك، فأنت صاحبة عقيدة قوية واهتمامات عالية، فهدفـك عبادة الله وحده لا شـريك له، ورسالتك العمل على بناء المجتمع المسلم، ومسؤوليتك تربية جيل مسلم، ووجهتك رضا الله وجنته في الآخرة.

ولا شك أنك لكي تقومي بدورك الحضاري على أتمه لا بد أن تعرفي واقعك، وعندها ستجدين أن دورك يتطلب قسطًا من الصفات الأخلاقية والفكرية والعقائدية؛ بل كل الصفات التي تلزم مجاهدة في معركة بين الحق والباطل، معركة يـقــف فـيها أمامك أكابر مجرمي قُرانا ينفذون أوامر أسيادهم من اليهود، فينشرون فكرًا قذرًا وأدبًا مريضًا يحاولون به تدمير الأسرة، بل وتدمير جميع المقومات الأخلاقية حتى يخرجوا أجيالًا مُدمَّرة مُهدَّمة لا تعرف حقوق الله، وصدق الله العظيم: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ومَا يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنفُسِهِمْ ومَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123].

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عـاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» (2).

فالرسول صلى الله عليه وسلم يـربط فـي هذا الحديث بين الاستبداد السياسي وبين الانحلال الخلقي، فاحذري المجرمين الذين يريدون أن يسيروا بك بخطى سريعة وحاسمة إلى الجاهلية الأولى أو إلى جاهلية القرن العشرين.

إنهم يقـولون لك إن الرجل قد ظلمك حين فرض عليك ارتداء الحجاب، ولا بد من التخلص من هذا الظلم وخلع الحجاب، فقولي لهم: لم يكن الرجل هو الذي فرض الحجاب على المرأة فترفع قضيتها ضده لتتخلص من ظلمه، إنما الذي فرض الحجاب على المرأة هو ربها وخالقها الذي لا تملك -إن كانت مؤمنة- أن تجادل فيما أمر به، أو يكون لها الخيرة في الأمر: {ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللهُ ورَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَن يَعْصِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].

الحياة ليست سهلة، والكفاح هو أحد جوانبها المثيرة والممتعة، والذي يحمل في طياته مزيجًا من التعب والأمل ولذة الشعور بالإنجازات، ومن أعظم الغبن أن تتركي -عزيزتي الزوجة- شريك حياتك وحده في رحلة الكفاح الأسري، وإياك والسلبية التي تجعلك تفقدينه ويفقدك، وبالتالي تفقدان معًا كل معنى جميل للحياة الهانئة، فعيشي كفاح زوجك، وليكن كفاحكما شريفًا من أجل غايات نبيلة لتشعرا بأنكما دائمًا وللأبد معًا.

ذكري زوجك دائمًا باستحضار النية الصالحة في كل عمل، فهي الوقود الرباني الذي يشحذ الهمم الصادقة، ولا تدفعيه لشيء فوق طاقته، فيلجأ لطريق حرام، أو طريق فيه شبهة لتلبية طلباتك، ولتكن وصيتك دائمًا عين وصية تلك المرأة الصالحة التي قالت لزوجها: اتق الله فينا، ولا تطعمنا إلا حلالًا، فإننا نصبر على الجوع في الدنيا، ولا نصبر على النار في الآخرة.

لا تضجري من عمل زوجك، وانشغاله عنك في بعض الأحيان، فإن أسوأ ما تصنع بعض النساء هو إعلان الضجر من عمل الزوج.

المرأة الذكية هي القادرة على القيام بأدوار متعددة في حياة الرجل، وتفرض نفسها في حياته بإيجابياتها المتنوعة.. فهي أحيانًا أم ترعى طفولته الكامنة، وأحيانًا أنثى توقظ فيه رجولته، وأحيانًا صديقة تشاركه همومه وأفكاره وطموحاته، وأحيانًا ابنة تستثير فيه مشاعر أبوته، وهكذا، وكلما تعددت وتغيرت أدوار الزوجة في مرونة وتجدد فإنها تسعد زوجها، كأي طفل يسأم لعبه بسرعة ويريد تجديدًا دائمًا، أما إذا ثبتت الصورة، وتقلصت أدوار المرأة في تنظيف المنزل والعكوف في المطبخ، فإن هذا نذير بتحول اهتمام الزوج المرهق نحو ما هو جذاب ومثير وجديد.

احرصي أن تملكي لسانًا حلوًا عذبًا ينشر عبق السعادة والارتياح في كل أرجاء حياتكما الزوجية، وابتعدي قدر ما تستطيعين عن الألفاظ المحبطة التي تثبط العزيمة وتفتر الهمة، وتجعل الحياة الزوجية تتراجع إلى الوراء.

انتبهي لأفعاله لا لمظهره، فالرجال بحكم أنهم جبلوا فطريًا على حب التنافس فيما يفعلون وفي مقدار ما يحققون من إنجازات مهنية، فإنهم يميلون نحو المديح الذي يستهدف إنجازاتهم أكثر من ملامحهم التي خرجوا إلى الدنيا بها أو ملابسهم التي يشترونها، وبعبارة أخرى، فإن مديحك لزوجك على عمل أنجزه بنجاح يجعله يشعر أفضل مما لو تكلمت عن شعره المجعد.

من الطبيعي أن الرجل يأوي إلى البيت للاستراحة من إرهاق العمل والضوضاء والصياح، معنى هذا أن الزوجة يجب أن تحافظ على الهدوء في البيت قدر الإمكان ولا تثير الضجيج والصياح، وأن تتكلم بهدوء ووقار.

من المهم أيضًا توفير الجو الملائم للزوج لمساعدته على التفكير والتخطيط للعمل، وهو هادئ النفس، مرتاح البال، ساعديه في حصر كل ما يحتاج إليه لإنجاز أعماله الذي يقوم بها، وشاركيه في وضع خطة مرحلية يتم فيها إنجاز شيء مهم للأسرة خلال فترة مناسبة.

لا تدخلي معه في الصباح في مناقشات أسرية، حتى ولو كانت ضرورية وهامة بنظرك،‏ فهذه الفترة المبكرة في أول النهار لا تسمح بأي مجادلات قبل توجهه للعمل، وأي مشكلة يمكن مناقشتها معه في فترة ما بعد الظهر بعد تناول طعام الغداء وأخذ قسط من الراحة‏، أو في فترات السمر المسائية، تمني له يومًا سعيدًا قبل مغادرته المنزل، مع رسم ابتسامة مشرقة على ملامح وجهك‏‏ تمده بشحنة من القوة العاطفية طوال اليوم، وعند عودته احرصي على استقباله بوجه بشوش‏، واعلمي أن الرجل طفل كبير يسعده أن يشعر باهتمامك، وبحرصك على إرضائه.

كوني دقيقة في فهم احتياجاته ليسهل عليك المعاشرة الطيبة دون إضاعة وقت، فالثرثرة كما هي كلامية منها أيضًا السلوكية، والرفيق المزعج أو الغير متفهم من أشد الثقلاء على النفس.

كوني أيضًا متفاعلة مع أحواله المزاجية، ولكن ابتعدي عن التكلف، اضبطي مناخ البيت وفق مواعيده هو، ولا تشعريه بالارتباك في أدائك للأمور المنزلية.

احرصي على إيجاد علاقة طيبة بين الأولاد والأب مهما كانت مشاغله، ولكن بحكمة دون تعطيل لأعماله أو تشويش لذهنه بمشاكل الصغار التي لا تنتهي.

أشعريه رغم انشغاله عن البيت بأنك تتحملين رعاية الأولاد بفضل دعائه لك، وباستشارته فيما يخصهم.

اهتمي بأوراقه وأدواته الخاصة وحافظي عليها، ونسقي كتبه وملفاته بدقة وبشكل طبيعي، دون أن تتفقدي ما يخصه طالما لا يسمح لك، أشعريه دائمًا أن واجباته لها «الأولوية الأولى» مهما كانت مسؤولياتك وأعمالك، وتفقدي مواطن راحته سواء بالحركة أو الكلمة، واسعي إليها بروح جميلة متفاعلة.

عدم التردد أو التباطؤ عندما يطلب منك شيئًا، بل احرصي على تقديمه بحيوية ونشاط.

كوني قانعة راضية، فالحياة دومًا تتقلب بين يسر وعسر، واحرصي على عدم الإسراف بحيث لا تتجاوز المصروفات الواردات.

حافظي على أموال زوجك، ولا تنفقي شيئًا من ماله إلا بإذنه، وبعد أن تستوثقي من رضاه.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنفق امرأة شيئًا من بيت زوجها إلا بإذنه»، قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: «ذلك أفضل أموالنا» (3).

وإذا أعسر زوجك فتصدقي عليه من مالك، وإن لم يكن لك مال، فاصبري على شظف العيش معه لعل الله تعالى يفرج عليكما (4).

وهكذا بيتك بيت يملؤه الحب وينعم بظلال الرضا بعيدًا عن ظلمات المادية الطاغية وموبقات الفسادِ والإباحية، فماذا عن ذريتك؟ ذرية (بيت الدعوة).

لا شك أن الذرية في بيتك ليست مجرد الرغبة في التناسل، بل الرغبة في استمرار الدعوة بما في هذا الاستمرار من طاقة وإمكانية.

وبعد إتمام الرضاع وإعطاء القدر المضبوط من الحبِّ والحنان للطفل تأتي أولى محاولات تحقيق عبودية الطفل لخالقه عند سن سبع: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها، وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع» (5)، والصلاة تؤسس في نفس الطفل إحساس التناقض مع أي مجتمع لا يقيم الصلاة، ويبقى هذا الإحساس في نفس الطفل حتى يأخذ صورة العمل لتمكين دعوة الإسلام حتى يسلم المجتمع ويقيم الصلاة: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الحج: 41].

وكما ينبغي تعليم الأطفال الصلاة ينبغي أيضًا الاهتمام بتكوين شخصيتهم قوية قادرة على مواجهة الحياة من خلال طاعة الله والإيمان بالقدر، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «يا غلام... احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجَفَّت الصحف» (6).

ومن الأمور الهامة في التربية الحث على ممارسة الدعوة إلى الله، وهذه كانت نصيحة لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17].

فإن الدور الذي تقومين به هو لون من ألوان الجهاد، وأنا أعلم أن لديك من إيمانك زادًا يستعلي بك على الجاهلية، ويصمد بك في وجه مكائدها، غير أن النفس تحتاج دائمًا إلى سلوى تعضدها، ولا أجد سلوى للنفس أعظم من القدوة، ولذا أدعوك إلى زيارة بيت قدوة من بيوت الدعوة، وهو بيت الرميصاء امرأة أبي طلحة وكنيتها أم سليم، فأما كيف تكون هذا البيت؟ فقد طلب أبو طلحة زواج الرميصاء فاشترطت عليه أن يكون صداقها إسلامه (وقد كان مشركًا) فأسلم وتزوجته، وتكوَّن بيت مسلم.

ويروي لنا أنس رضي الله عنه حادثة وفاة غلام في بيت الرميصاء: عن أنس قال: مات ابن أبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أُحَدِّثُه، قال فجاء فقربت إليه عشاء فأكل وشرب، ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فغضب أبو طلحة وانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما» (7)، قال: فحملت وأنجبت بعد ذلك عشرة أولاد كلهم يقرؤون القرآن.

بل وتقاتل أم سليم بنفسها يوم أحد وتنقل القِرَب وتفرغها في أفواه الجرحى.

كانت تلك معالم بيت من بيوت الدعوة في خير القرون، امرأة جعلت صداقها إسلام زوجها، وأطعمت الصحابة من طعامها، وأضحكت الله بكرمها، وقاتلت في سبيل الله بنفسها.

لعلك تدركين الآن أن تاريخ هذا الدين وقد رسم فيه وجوهًا كريمة تمثله، فوجه المرأة ليس أقلها بروزًا ووضوحًا، وليس من العبث أن تاريخ هذا الدين يحفظ في ذاكرته أسماء نساء عِشْن في لحظات ما قضية هذا الدين، فلتأخذي دورك يا أختاه (8).

-----------

(1) أخرجه البخاري (893).

(2) أخرجه مسلم (2128).

(3) أخرجه الترمذي (670).

(4) ادفعي زوجك دومًا إلى النجاح/ إسلام ويب.

(5) أخرجه أبوداود (495).

(6) أخرجه الترمذي (2516).

(7) أخرجه مسلم (2144).

(8) حارسة القلعة وبيوت القدوة/ ناصحون.