واهجروهن في المضاجع
إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته (الزوجية)، شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49].
ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها} [النساء:1].
والمُسَلَّم به ابتداءً أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله، وأن الله سبحانه لا يريد أن يظلم أحدًا من خلقه، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة! وقد خلق الله الناس ذكرًا وأنثى، زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون، وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع، وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل، وهي وظائف ضخمة أولًا وخطيرة ثانيًا، وليست هينة ولا يسيرة، بحيث تؤدَّى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى! فكان عدلًا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني، الرجل، توفير الحاجات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة، ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل، ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد!
وكان عدلًا كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص، في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي، ما يعينه على أداء وظائفه هذه، وأن تمنح المرأة، في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي، ما يعينها على أداء وظيفتها تلك، وكان هذا فعلًا، ولا يظلم ربك أحدًا.
ومن ثم زودت المرأة، فيما زودت به من الخصائص، بالرقة والعطف، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة، بغير وعي ولا سابق تفكير؛ لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها، حتى في الفرد الواحد، لم تُتْرك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه؛ بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية! لتسهل تلبيتها فورًا وفيما يشبه أن يكون قسرًا، ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج، ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك؛ لتكون الاستجابة سريعة من جهة، ومريحة من جهة أخرى، مهما يكن فيها من المشقة والتضحية! صنع الله الذي أتقن كل شيء.
وهذه الخصائص ليست سطحية؛ بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة؛ بل يقول كبار العلماء المختصين: إنها غائرة في تكوين كل خلية؛ لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين، بكل خصائصه الأساسية! وكذلك زود الرجل، فيما زود به من الخصائص، بالخشونة والصلابة، وبطء الانفعال والاستجابة واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة؛ لأن وظائفه كلها، من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة إلى القتال الذي يمارسه دائمًا لحماية الزوج والأطفال، إلى تدبير المعاش، إلى سائر تكاليفه في الحياة؛ لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام، وإعمال الفكر، والبطء في الاستجابة بوجه عام، وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها.
وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة، وأفضل في مجالها، كما أن تكليفه بالإنفاق، وهو فرع من توزيع الاختصاصات، يجعله بدوره أولى بالقوامة؛ لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة، والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفته فيها.
وهذان هما العنصران اللذان أبرزهما النص القرآني، وهو يقرر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي.
قوامة لها أسبابها من التكوين والاستعداد، ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات، ولها أسبابها من العدالة في التوزيع من ناحية وتكليف كل شطر، في هذا التوزيع، بالجانب الميسر له، والذي هو معان عليه من الفطرة، وأفضليته في مكانها، في الاستعداد للقوامة والدربة عليها، والنهوض بها بأسبابها؛ لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة، كسائر المؤسسات الأقل شأنًا والأرخص سعرًا، ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها، معان عليها، مكلف تكاليفها، وأحد الشطرين غير مهيأ لها، ولا معان عليها.
ومن الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخرى، وإذا هو هيئ لها بالاستعدادات الكامنة، ودرب عليها بالتدريب العلمي والعملي، فسد استعداده للقيام بالوظيفة الأخرى، وظيفة الأمومة؛ لأن لها هي الأخرى مقتضياتها واستعداداتها، وفي مقدمتها سرعة الانفعال، وقرب الاستجابة، فوق الاستعدادات الغائرة في التكوين العضوي والعصبي وآثارها في السلوك والاستجابة! إنها مسائل خطيرة، أخطر من أن تتحكم فيها أهواء البشر، وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء، وحين تركت لهم ولأهوائهم، في الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة، هددت البشرية تهديدًا خطيرًا في وجودها ذاته، وفي بقاء الخصائص الإنسانية، التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميز.
ولعل من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها، لعل من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبط وفساد، ومن تدهور وانهيار، ومن تهديد بالدمار والبوار، في كل مرة خولفت فيها هذه القاعدة، فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة، أو اختلطت معالمها، أو شذت عن قاعدتها الفطرية الأصيلة.
ولعل من هذه الدلائل توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الأسرة، وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلة السعادة عندما تعيش مع رجل لا يزاول مهام القوامة، وتنقصه صفاتها اللازمة؛ فيكل إليها هي القوامة، وهي حقيقة ملحوظة، تسلم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام، ولعل من هذه الدلائل أن الأطفال الذين ينشئون في مؤسسة عائلية القوامة فيها ليست للأب؛ إما لأنه ضعيف الشخصية بحيث تبرز عليه شخصية الأم وتسيطر، وإما لأنه مفقود لوفاته، أو لعدم وجود أب شرعي، قلما ينشئون أسوياء، وقلَّ ألا ينحرفوا إلى شذوذ ما، في تكوينهم العصبي والنفسي، وفي سلوكهم العملي والخلقي.
فهذه كلها بعض الدلائل، التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها.
إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت، ولا في المجتمع الإنساني، ولا إلغاء وضعها (المدني)، وإنما هي وظيفة، داخل كيان الأسرة، لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها، ووجود القيم في مؤسسة ما لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها، فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية، وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله.
وبعد بيان واجب الرجل وحقه والتزاماته وتكاليفه في القوامة يجيء بيان طبيعة المرأة المؤمنة الصالحة، وسلوكها وتصرفها الإيماني في محيط الأسرة، {فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} [النساء:34]، فمن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها، أن تكون قانتة مطيعة، والقنوت الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعاظلة! ومن ثَم قال: قانتات، ولم يقل طائعات؛ لأن مدلول اللفظ الأول نفسي، وظلاله رخية ندية، وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة، في المحضن الذي يرعى الناشئة، ويطبعهم بجوه وأنفاسه وظلاله وإيقاعاته! ومن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها كذلك، أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته، وبالأولى في حضوره، فلا تبيح من نفسها في نظرة أو نبرة، بله العرض والحرمة، ما لا يباح إلا له هو، بحكم أنه الشطر الآخر للنفس الواحدة.
وما لا يباح لا تقرره هي ولا يقرره هو، إنما يقرره الله سبحانه: {بِمَا حَفِظَ اللهُ}.
فأما غير الصالحات فهن الناشزات (من الوقوف على النشز وهو المرتفع البارز من الأرض)، وهي صورة حسية للتعبير عن حالة نفسية، فالناشز تبرز وتستعلي بالعصيان والتمرد(1).
تعريف النشوز:
والنشوز هو امتناع المرأة من أداء حق الزوج، أو عصيانه أو إساءة العشرة معه، فكل امرأة صدر منها هذا السلوك أو تخلقت به فهي امرأة ناشز، ما لم تقلع عن ذلك أو تصلح خُلُقَها.
قال ابن قدامة: «معنى النشوز معصية الزوج فيما فرض الله عليها من طاعته، مأخوذ من النشز وهو الارتفاع، فكأنها ارتفعت وتعالت عما فرض الله عليها من طاعته» (2).
وجاء في (مجموع الفتاوى) لابن تيمية رحمه الله: «هو أن تنشز عن زوجها فتنفر عنه، بحيث لا تطيعه إذا دعاها إلى الفراش، أو تخرج من منزله بغير إذنه، ونحو ذلك مما فيه امتناع عما يجب عليها من طاعته» (3).
وعرفه الشيخ الدردير بقوله: «هو الخروج عن الطاعة الواجبة، كأن منعته الاستمتاع بها، أو خرجت بلا إذن لمحل تَعْلم أنه لا يأذن فيه، أو تركت حقوق الله تعالى؛ كالطهارة والصلاة، أو أغلقت الباب دونه، أو خانته في نفسها أو ماله» (4).
وهذا التعريف جامع لأسباب النشوز؛ لأن أي خروج منها عن طاعة زوجها فيما لا معصية فيه لله عز وجل يُعد نشوزًا منها.
مظاهر نشوز المرأة:
1- امتناع المرأة عن المعاشرة في الفراش، وقد ورد ذم شديد لمن فعلت ذلك، أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح»(5)، وعند مسلم بلفظ: «ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها»(6)، فيحرم على المرأة الامتناع عن زوجها إذا دعاها للفراش على أي حالة كانت، إلا إذا كانت مريضة أو بها عذر شرعي من حيض أو نفاس، ولا يحل لها حينئذ أن تمنعه من الاستمتاع بما دون الفرج، ولا يجوز للمرأة أن تتبرم أو تتثاقل وتتباطأ أو تطلب عوضًا أو تنفره بأي طريقة، وكل ذلك يدخل في معنى النشوز، والواجب عليها أن تجيبه راضية طيبة نفسها بذلك محتسبة الأجر.
2- مخالفة الزوج وعصيانه فيما نهى عنه؛ كالخروج بلا إذنه، وإدخال بيته من يكرهه، وزيارة من منع من زيارته، وقصد الأماكن التي نهى عنها، والسفر بلا إذنه، وقد نص الفقهاء على تحريم ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكم عليهن ألَّا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح» (7).
3- ترك طاعة الزوج فيما أمر به وكان من المعروف؛ كخدمته، والقيام على مصالحه وسائر حقوقه، وتربية ولده، والامتناع عن الخروج معه إلى بيت آخر أو بلد أخرى آمنة، ولا مشقة عليها في مصاحبته ما لم يكن قد اشترطت على الزوج في العقد عدم إخراجها من بيتها أو بلدها إلا برضاها، وقال ابن عباس: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} يعني أمراء, عليها أن تطيعه فيما أمرها به من طاعته, وطاعته أن تكون محسنة لأهله، حافظة لماله(8)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلت المرأة خمسها, وصامت شهرها, وحفظت فرجها, وأطاعت زوجها, قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت»(9).
والضابط في حدود طاعة الزوج ما تعارف عليه أوساط الناس وكان شائعًا بينهم، ويختلف ذلك بحسب غنى الزوجين وفقرهما، والبيئة التي يعيشون فيها.
4- سوء العشرة في معاملة الزوج، والتسلط عليه بالألفاظ البذيئة، وإغضابه دائمًا لأسباب تافهة وإيذاؤه، ويدخل في ذلك إيذاء أهل الزوج، وقد فسر ابن عباس وغيره الفاحشة في قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1]، بما إذا نشزت المرأة أو بذت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال (10).
أسباب نشوز المرأة:
النفوس مجبولة على الحرص على الحق الذي لها، وعدم الرغبة في بذل ما عليها، وبذلك تصعب الحياة وتفسد، ويقع النشوز، وتعلن راية العصيان، وتتمزق أواصر العلاقة بين الزوج وزوجه.
1- تنازل الرجل عن حقه في القوامة وتسليمها للمرأة، وما نشاهده اليوم من نشوز كثير من النساء وتمردهن ما هو إلا نتيجة لسلبية الرجل وتخاذله في هذه المسألة، فلو أدرك الرجل خطورة تخليه عن القوامة ونتائجها السيئة التي ستعود عليه في المستقبل وعلى أسرته لعض عليها بالنواجذ.
2- سوء خلق المرأة، وعدم تلقيها قدرًا كافيًا من التربية الصحيحة.
3- ظلم الزوج، وتقصيره بحقوق المرأة، وجفاؤه لها، وعدم مراعاة حدود الله في علاقته بها.
4- التباين الاجتماعي والفكري بين الزوجين، ووجود فارق كبير بينهما.
5- تأثر المرأة بالأصوات والأطروحات المتغربة، التي تحررها فكريًا من أحكام وآداب الأسرة الإسلامية، وتقنعها بمساواة الرجل وعدم التزام الطاعة له(11).
علاج النشوز:
المنهج الإسلامي لا ينتظر حتى يقع النشوز بالفعل، وتعلن راية العصيان، وتسقط مهابة القوامة، وتنقسم المؤسسة إلى معسكرين، فالعلاج حين ينتهي الأمر إلى هذا الوضع قلما يجدي، ولا بد من المبادرة في علاج مبادئ النشوز قبل استفحاله؛ لأن مآله إلى فساد في هذه المنظمة الخطيرة، لا يستقر معه سكن ولا طمأنينة، ولا تصلح معه تربية ولا إعداد للناشئين في المحضن الخطير، ومآله بعد ذلك إلى تصدع وانهيار ودمار للمؤسسة كلها، وتشرد للناشئين فيها، أو تربيتهم بين عوامل هدامة مفضية إلى الأمراض النفسية والعصبية والبدنية، وإلى الشذوذ.
فالأمر إذن خطير، ولا بد من المبادرة باتخاذ الإجراءات المتدرجة في علاج علامات النشوز منذ أن تلوح من بعيد، وفي سبيل صيانة المؤسسة من الفساد أو من الدمار أبيح للمسئول الأول عنها أن يزاول بعض أنواع التأديب المُصلِحة في حالات كثيرة، لا للانتقام، ولا للإهانة، ولا للتعذيب، ولكن للإصلاح ورأب الصدع في هذه المرحلة المبكرة من النشوز: {وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34].
واستحضار ما سبق لنا بيانه من تكريم الله للإنسان بشطريه، ومن حقوق للمرأة نابعة من صفتها الإنسانية، ومن احتفاظ للمرأة المسلمة بشخصيتها المدنية بكامل حقوقها، بالإضافة إلى أن قوامة الرجل عليها لا تفقدها حقها في اختيار شريك حياتها، والتصرف في أمر نفسها، والتصرف في أمر مالها، إلى آخر هذه المقومات البارزة في المنهج الإسلامي.
استحضار هذا الذي سبق كله، واستحضار ما قيل عن أهمية مؤسسة الأسرة كذلك يجعلنا نفهم بوضوح، حين لا تنحرف القلوب بالهوى والرءوس بالكبر، لماذا شرعت هذه الإجراءات التأديبية أولًا، والصورة التي يجب أن تؤدى بها ثانيًا.
إنها شرعت كإجراء وقائي، عند خوف النشوز، للمبادرة بإصلاح النفوس والأوضاع، لا لزيادة إفساد القلوب، وملئها بالبغض والحنق، أو بالمذلة والرضوخ الكظيم! إنها أبدًا ليست معركة بين الرجل والمرأة، يراد لها بهذه الإجراءات تحطيم رأس المرأة حين تهم بالنشوز وردها إلى السلسلة كالكلب المسجور! إن هذا قطعًا ليس هو الإسلام، إنما هو تقاليد بيئية في بعض الأزمان، نشأت مع هوان الإنسان كله، لا هوان شطر منه بعينه، فأما حين يكون هو الإسلام، فالأمر مختلف جدًا في الشكل والصورة، وفي الهدف والغاية(12).
قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ}، قبل أن يقع الشيء ينبغي أن تنتبه إليه إن رأيت بوادر منه، ينبغي أن تراقب، وينبغي أن تتابع وتحقق وتضبط، إذا بدا لك بوادر نشوز تبدأ هذه المعالجة، لكن بعد أن يقع النشوز هنا المشكلة.
فينبغي أن تكون متيقظًا حذرًا مراقبًا محققًا مدققًا، قبل أن تنشز ينبغي أن تعالج الأمر في بدايته.
حينما نتنبه في وقت متأخر، بعد أن يستفحل المرض، فالأمل في الشفاء يصبح معدومًا، فالله عز وجل يوجهنا، فلا ينبغي أن تهملوا وتغفلوا، ولا تدققوا، ولا تحققوا، ولا تراقبوا إلا عند وقوع النشوز والانحراف، هذا خطأ فاحش.
الموعظة:
{فَعِظُوهُنَّ} هذا هو الإجراء الأول؛ الموعظة، وهذا هو أول واجبات القيم ورب الأسرة، عمل تهذيبي، مطلوب منه في كل حالة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ} [التحريم:6]، ولكنه في هذه الحالة بالذات يتجه اتجاهًا معينًا لهدف معين؛ هو علاج أعراض النشوز قبل أن تستفحل وتستعلن.
ولكن العظة قد لا تنفع، لأن هناك هوى غالبًا، أو انفعالًا جامحًا، أو استعلاءً بجمال، أو بمال، أو بمركز عائلي، أو بأي قيمة من القيم، تُنسِي الزوجة أنها شريكة في مؤسسة، وليست نِدًّا في صراع أو مجال افتخار!
والبدء بالموعظة والإرشاد هو البدء بأقرب الحلول وأسهلها، فقد يكون سبب النشوز أمرًا لا علاقة للرجل فيه، فبالوعظ والإرشاد يتبين له سبب هذا النفور، والوعظ يختلف باختلاف حال المرأة، فمنهن من يؤثر في نفسها التخويف من الله، ومنهن من يؤثر في نفسها التهديد من سوء العاقبة في الدنيا؛ كشماتة الأعداء، والمنع من بعض الرغائب؛ كالثياب الحسنة والحلي.
ويدخل في الوعظ كذلك العتاب بكلمات رقيقة، والتذكير بما أوجب الله على الزوجة من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج، وبغير ذلك مما يراه الزوج مؤثرًا على مشاعر زوجته، وكفيلًا بإعادة المودة والرحمة إلى حياتهما(13).
ولا يجوز أن ينتقل من هذه المرحلة من الإصلاح إلا بعد أن يعتقد أنها لم تعد تجدي، فلا النصح ولا الإرشاد ولا الموعظة غيرت من نفسيتها شيئًا، وحينئذ ينتقل إلى المرحلة الثانية.
الهجر:
قال تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ}، هنا يجيء الإجراء الثاني، حركة استعلاء نفسية من الرجل على كل ما تدل به المرأة من جمال وجاذبية أو قيم أخرى، ترفع بها ذاتها عن ذاته، أو عن مكان الشريك في مؤسسة عليها قوامة.
والمضجع موضع الإغراء والجاذبية، التي تبلغ فيها المرأة الناشز المتعالية قمة سلطانها، فإذا استطاع الرجل أن يقهر دوافعه تجاه هذا الإغراء، فقد أسقط من يد المرأة الناشز أمضى أسلحتها التي تعتز بها، وكانت، في الغالب، أميل إلى التراجع والملاينة أمام هذا الصمود من رجلها، وأمام بروز خاصية قوة الإرادة والشخصية فيه، في أحرج مواضعها! على أن هناك أدبًا معينًا في هذا الإجراء، إجراء الهجر في المضاجع.
وهو ألا يكون هجرًا ظاهرًا في غير مكان خلوة الزوجين، لا يكون هجرًا أمام الأطفال، يورث نفوسهم شرًا وفسادًا، ولا هجرًا أمام الغرباء يذل الزوجة أو يستثير كرامتها، فتزداد نشوزًا، فالمقصود علاج النشوز لا إذلال الزوجة ولا إفساد الأطفال! وكلا الهدفين يبدو أنه مقصود من هذا الإجراء(14).
يقول العقاد: «لأن أبلغ العقوبات هي العقوبة التي تمس الإنسان في غروره، وتشككه في صميم كيانه، في المزية التي يعتز بها، ويحسبها مناط وجوده وتكوينه، والمرأة تعلم أنها ضعيفة إلى جانب الرجل، ولكنها لا تأسى لذلك ما علمت أنها فاتنة له، وأنها غالبة بفتنتها، وقادرة على تعويض ضعفها بما تبعثه فيه من شوق إليها، ورغبة فيها، ولن يبطل العصيان بشيء كما يبطل بإحساس العاصي غاية ضعفه، وغاية قوة من يعصيه»(15).
فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل، ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل؛ لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجة، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله(16).
ويتحقق الهجر بهجر في المضجع لا في الكلام؛ لأن الإسلام لا يريد أن يقطع حبل المودة المتين بين الزوجين؛ لتبقى الصلة وثيقة رجاء الإصلاح وعودة الأمور إلى مجاريها.
قال في التاج المذهب: «والهجر إنما هو في المضجع لا في الكلام، ولأن هجر الكلام منهي عنه أيضًا إذا زاد عن ثلاثة أيام، والهجر قد يطول شهرًا، ولهذا كان الهجر هجر مضجع لا هجر كلام»(17)، ويجب أن يكون الهجر في المضجع لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} ولم يقل: واهجروا مضاجعهن.
قال في المهذب: «وأما الهجر فهو أن يهجرها في الفراش»(18)، ويجب أيضًا أن يكون الهجر في الفراش نفسه، وتعمد هجر الفراش أو الحجرة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى، وربما يكون سببًا في زيادة الجفوة.
فإذا أعرض الرجل عنها في هذه الحالة رجي أن يدعوها ذلك الشعور إلى سؤاله عن السبب، ويهبط بها من نشوز المخالفة إلى مستوى الموافقة، وقد قال ابن عباس في معنى الهجر: «أن يوليها ظهره ولا يجامعها»، ويعلق القرطبي على ذلك بقوله: «هذا قول حسن، فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها، فإن كانت محبة له فذلك يشق عليها فترجع للصلاح، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها، فيتبين أن النشوز من ناحيتها»(19).
آراء العلماء في تحديد معنى الهجر:
ولقد جاء في الهجر أيضًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري تعليقًا: «لا تُهْجَر إلا في البيت» (20)؛ أي أن الزوج إذا أراد هجر زوجته في المضجع تأديبًا لها، فلا يهجرها إلا في البيت، ولا يتحول إلى دار أخرى أو يحولها إليها، إلا أن رواية البخاري تدل على أنه صلى الله عليه وسلم هجر نساءه في غير بيوتهن وخرج إلى مشربة له.
قال الحافظ ابن حجر: «والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، فربما كان الهجران في البيوت أشد من الهجران في غيرها، وبالعكس؛ بل الغالب أن الهجران في غير البيوت ألم للنفوس، وخصوصًا النساء لضعف نفوسهن» (21).
واختلف العلماء في المراد بالهجر، فالجمهور على أنه ترك الدخول على الزوجة والإقامة عندها، وهو من الهجران بمعنى البعد، وظاهره أنه لا يضاجعها، وقيل: المعنى يضاجعها ويوليها ظهره، وقيل: يترك جماعها، وقيل اهجروهن مشتق من الهُجر، بضم الهاء، وهو الإغلاظ في القول، وقيل مشتق من الهجار وهو الحبل الذي يشد به البعير، يقال: هجر البعير أي ربطه، فالمعنى أوثقوهن في البيوت، وهو اختيار الطبري، وقد رد عليه ابن العربي في تفسيره، وقال: «يا لها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة» (22).
قال الكاساني: «ثم اختلف في كيفية الهجر، قيل يهجرها بألا يجامعها ولا يضاجعها على فراشه، وقيل يهجرها بألا يكلمها في حال مضاجعته إياها لا أن يترك جماعها ومضاجعتها؛ لأن ذلك حق مشترك بينهما؛ فيكون في ذلك عليه حق الضرر ما عليها فلا يؤدبها بما يضر بنفسه ويبطل حقه، وقيل يهجرها بأن يفارقها في المضجع ويضاجع أخرى في حقها وقسمها؛ لأن حقها عليه في الْقَسْمِ في حال الموافقة وحفظ حدود الله تعالى، لا في حال التضييع وخوف النشوز والتنازع، وقيل يهجرها بترك مضاجعتها وجماعها لوقت غلبة شهوتها وحاجتها لا في وقت حاجته إليها؛ لأن هذا للتأديب والزجر، فينبغي أن يؤدبها لا أن يؤدب نفسه بامتناعه عن المضاجعة في حال حاجته إليها»(23).
مدة الهجر:
إذا كانت الحكمة من الهجر هي إعادة الزوجة إلى سكينتها لتحقق السكن إلى بيتها، والمودة إلى مشاعر زوجها، فإن هذا الهجر يجب ألا يطول، ولا ينبغي أن يتمادى فيه الزوج فيفوّت الحكمة من مشروعيته، هذا وقد وضعت آية الإيلاء لهذا الهجر حدًا فطريًا لا يزيد عن أربعة أشهر، والمرأة المتمادية في عصيانها وعنادها إلى حد أن زوجها غضب منها ثم هجرها، وهي تعلم أن هجره لها إذا استمر أربعة أشهر فسوف تطلق منه بموجب حكم الله، ومع هذا لم ترجع عن نشوزها، لا شك أنها جديرة بأن تطلق، هذا والشهور الأربعة مدة كافية لتأديبها، ولا حاجة إلى عقابها بمدة أطول من هذا؛ لأن بقاءها على عنادها وعصيانها دليل بين في ذاته على عدم قابليتها حتى للتأديب، أو أنها، على الأقل، لا تستطيع أن تعيش مع هذا الزوج عيشة طيبة حسنة، كذلك يخشى من هذه الحال أن تضيع الأهداف والمقاصد التي من أجلها يرتبط الزوجان برباط الزواج، فقد يجنح الرجل، والحالة هذه، إلى طرق فاسدة غير مشروعة لإشباع غريزته، ومن الممكن أيضًا أن تسقط الزوجة في رذيلة وجريمة أخلاقية، كما أنه يخشى ألا تتحقق المودة والرحمة بين الزوجين اللذين على هذا القدر من الخلاف والنفور والعناد.
وقد جاء في قرار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ما نصه: «لم نقف على تحديد مدة تضرب للناشز، عقوبة لها وتأديبًا أو زجرًا لها عن النشوز، عسى أن ترجع عن تقصيرها في حقوق زوجها، وتطيعه في أداء ما وجب عليها له شرعًا، ويظهر أن ضرب مدة للنشوز وتحديدها من باب التعزير، وهو مما يختلف باختلاف الظروف والأحوال، وما يترتب عليه من أضرار قد تربو على سوء عشرتها للزوج وقد تنقص عنه، وما يرجى من جدوى التعزير وصلاح الأحوال به، وما يخشى من سوء عاقبة الزيادة في التعزير ومن توتر العلاقات بين أسر المجتمع، وما قد يحدث من شدته للنواشز من الانحدار إلى ما لا تحمد مغبته»(24).
ولا يكون الهجر إلا بعد وقوع النشوز فعلًا؛ لأن الخوف في الآية بمعنى العلم.
وكثير من الزوجات سيرتدعن بالهجر حين لم يُجْد فيهن الوعظ، وحين ترتدع الزوجة وتعود إلى الصواب يجب على الزوج أن يكف عن هجره، وتعود الحياة بينهما كما كانت، ولكن هذه الخطوة قد لا تفلح كذلك، فهل تترك المؤسسة تتحطم؟
إن هناك إجراءً، ولو أنه أعنف، ولكنه أهون وأصغر من تحطيم المؤسسة كلها بالنشوز.
الضرب:
قال تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}، يقول الألوسي: «وقد نص أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع: ترك الزينة والزوج يريدها، وترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه، وترك الصلاة، في رواية، والغسل، والخروج من البيت إلا لعذر شرعي» (25).
المقصود من الضرب هنا هو التدرج في محاولة الإصلاح بين الزوجين، والانتقال من المرحلة الثانية بعد فشلها إلى المرحلة الثالثة، وذلك إن أصرت الزوجة على عنادها.
ولكن ما حدود الضرب؟ وما شروطه؟ ومن أهله؟
إن النصوص التي تجيز الضرب لا تجعل كل زوج ضاربًا، ولا كل زوجة مضروبة، ولكن الزوج الذي يجوز له الضرب هو الذي يعرف حدود الله، كما يعرف للحياة الزوجية قدرها وللزوجة مكانتها، فهو لا يضرب لأدنى خطأ، ولا يتجاوز الوعظ المجدي إلى الضرب المؤذي لأدنى ملابسة.
والزوجة التي أجاز الشرع لزوجها أن يضربها هي تلك الزوجة النافرة الشموس، التي لا تُجدي معها الموعظة الحسنة ولا القول الرقيق، والتي يُتوقع أن يصلحها الضرب.
واستصحاب المعاني السابقة كلها واستصحاب الهدف من هذه الإجراءات كلها يمنع أن يكون هذا الضرب تعذيبًا للانتقام والتشفي، ويمنع أن يكون إهانة للإذلال والتحقير، ويمنع أن يكون أيضًا للقهر والإرغام على معيشة لا ترضاها، ويحدد أن يكون ضرب تأديب، مصحوبًا بعاطفة المؤدب المربي كما يزاوله الأب مع أبنائه، وكما يزاوله المربي مع تلميذه.
ومعروف، بالضرورة، أن هذه الإجراءات كلها لا موضع لها في حالة الوفاق بين الشريكين في المؤسسة الخطيرة، وإنما هي لمواجهة خطر الفساد والتصدع، فهي لا تكون إلا وهناك انحرافٌ ما هو الذي تعالجه هذه الإجراءات.
وحين لا تجدي الموعظة، ولا يجدي الهجر في المضاجع، لا بد أن يكون هذا الانحراف من نوع آخر، ومن مستوى آخر، لا تجدي فيه الوسائل الأخرى، وقد تجدي فيه هذه الوسيلة! وشواهد الواقع، والملاحظات النفسية، على بعض أنواع الانحراف تقول: إن هذه الوسيلة تكون أنسب الوسائل لإشباع انحراف نفسي معين، وصلاح سلوك صاحبه وإرضائه، في الوقت ذاته! على أنه من غير أن يكون هناك هذا الانحراف المَرَضي، الذي يعينه علم النفس التحليلي بالاسم، إذ نحن لا نأخذ تقريرات علم النفس مسلمات (علمية)، فهو لم يصبح بعد (علمًا) بالمعنى العلمي، كما يقول الدكتور (ألكسيس كاريل)، فربما كان من النساء من لا تحس قوة الرجل، الذي تحب نفسها أن تجعله قيمًا وترضى به زوجًا، إلا حين يقهرها عضليًا، وليست هذه طبيعة كل امرأة، ولكن هذا الصنف من النساء موجود، وهو الذي قد يحتاج إلى هذه المرحلة الأخيرة، ليستقيم ويبقي على المؤسسة الخطيرة في سلم وطمأنينة.
وعلى أية حال، فالذي يقرر هذه الإجراءات هو الذي خلق، وهو أعلم بمن خلق، وكل جدال بعد قول العليم الخبير مهاترة، وكل تمرد على اختيار الخالق وعدم تسليم به مفض إلى الخروج من مجال الإيمان كله.
وهو سبحانه يقررها، في جو وفي ملابسات تحدد صفتها، وتحدد النية المصاحبة لها، وتحدد الغاية من ورائها، بحيث لا يحسب على منهج الله تلك المفهومات الخاطئة للناس في عهود الجاهلية حين يتحول الرجل جلادًا، باسم الدين!، وتتحول المرأة رقيقًا، باسم الدين!، أو حين يتحول الرجل امرأة وتتحول المرأة رجلًا، أو يتحول كلاهما إلى صنف ثالث مائع بين الرجل والمرأة، باسم التطور في فهم الدين، فهذه كلها أوضاع لا يصعب تمييزها عن الإسلام الصحيح ومقتضياته في نفوس المؤمنين! وقد أبيحت هذه الإجراءات لمعالجة أعراض النشوز قبل استفحالها، وأحيطت بالتحذيرات من سوء استعمالها فور تقريرها وإباحتها.
وتولى الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته العملية في بيته مع أهله، وبتوجيهاته الكلامية علاج الغلو هنا وهناك، وتصحيح المفهومات في أقوال كثيرة.
عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: «يا رسول الله، ما حق امرأة أحدنا عليه؟»، قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت» (26).
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تضربوا إماء الله»، فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ذئرت النساء على أزواجهن!»، فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن، ليس أولئك بخياركم» (27)، وقال صلى الله عليه وسلم: «يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها من آخر يومه» (28)، وقال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (29).
ومثل هذه النصوص والتوجيهات والملابسات التي أحاطت بها ترسم صورة لصراع الرواسب الجاهلية مع توجيهات المنهج الإسلامي، في المجتمع المسلم، في هذا المجال، وهي تشبه صورة الصراع بين هذه الرواسب وهذه التوجيهات في شتى مجالات الحياة الأخرى، قبل أن تستقر الأوضاع الإسلامية الجديدة، وتعمق جذورها الشعورية في أعماق الضمير المسلم في المجتمع الإسلامي.
وعلى أية حال فقد جعل لهذه الإجراءات حد تقف عنده، متى تحققت الغاية، عند مرحلة من مراحل هذه الإجراءات، فلا تتجاوز إلى ما وراءها: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.
فعند تحقق الغاية تقف الوسيلة، مما يدل على أن الغاية، غاية الطاعة، هي المقصودة، وهي طاعة الاستجابة لا طاعة الإرغام، فهذه ليست طاعة تصلح لقيام مؤسسة الأسرة، قاعدة الجماعة (30).
وقد ثبت أن الضرب المباح يكون عندما تبلغ الحياة الزوجية درجة يخشى عليها من النشوز والافتراق، وقد قيدته السنة بقيدين؛ أحدهما: أن يكون غير مبرح، وأن يكون غير مشين، بألا يضرب الوجه، فقد صرحت بذلك السُّنة، وسئل ابن عباس عن الضرب غير المبرح فقال: هو الضرب بالسواك أو مثله، وهذا هو الضرب المباح، فهو رمز لاستحقاق الضرب، وليس بضرب، وقد نص في مذهب مالك على أن الزوج إذا ظلم زوجته وشكته إلى القاضي وعظه، فإن تكررت الشكوى حكم لها بالنفقة ولم يحكم له بالطاعة زمنًا، فإن شكته بعد ذلك عزره بالضرب ليستقيم، وهذه عقوبات ثلاث تقابل عقاب الزوج لزوجته، ولكنها أشد وأعنف، فالضرب لا يكون غير مبرح.
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} البغي الطلب الشديد، ومعنى النص الكريم: فإن أطاعت الزوجات فلا تطلبوا طريقًا من طرق العقاب، أيًا كان، باغين عليهن به ظالمين، والمغزى أن كل عقاب مع الطاعة ظلم وبغي لا يقصد ولا يطلب؛ بل يَقْصد الزوج إلى اسْتِدْنَاء مودتها بالرحمة والعطف والتقريب والتحبب بكل أساليبه.
وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}، للإشارة إلى قوته القاهرة، وأنه إذا استعلى الرجل على امرأته فالله العلي الكبير فوقه، وهو مُؤاخِذُه وآخذه بعذاب أليم (31).
والحاصل أنه لا يجوز الهجر والضرب بمجرد توقع النشوز قبل حصوله اتفاقًا، وإذا كان المخاطب الأزواج كان إذنًا لهم بمعاملة أزواجهم النواشز بواحدة من هذه الخصال الثلاث، وكان الأزواج مؤتمنين على توخي مواقع هذه الخصال بحسب قوة النشوز وقدره في الفساد، فأما الوعظ فلا حد له، وأما الهجر فشرطه ألا يخرج إلى حد الإضرار بما تجده المرأة من الكمد، وقد قدر بعضهم أقصاه بشهر.
وأما الضرب فهو خطير، وتحديده عسير، ولكنه أُذِن فيه في حالة ظهور الفساد؛ لأن المرأة اعتدت حينئذ، ولكن يجب تعيين حد في ذلك، يبين في الفقه؛ لأنه لو أطلق للأزواج أن يتولوه، وهم حينئذ يشفون غضبهم، لكان ذلك مظنة تجاوز الحد، إذ قل من يعاقب على قدر الذنب، على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة.
بيد أن الجمهور قيدوا ذلك بالسلامة من الإضرار، وبصدوره ممن لا يعد الضرب بينهم إهانة وإضرارًا.
فنقول: يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها، ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيما عند ضعف الوازع (32).
***
_____________
(1) في ظلال القرآن (2/ 651-653).
(2) المغني (7/ 318).
(3) التفسير الكبير، لابن تيمية (3/ 238).
(4) الشرح الكبير (5/ 343).
(5) أخرجه البخاري (5193).
(6) أخرجه مسلم (1436).
(7) أخرجه أبو داود (1905).
(8) تفسير ابن كثير (2/ 256).
(9) أخرجه أحمد (1661).
(10) تفسير ابن كثير (8/ 144).
(11) نشوز المرأة، موقع: صيد الفوائد.
(12) في ظلال القرآن (2/ 653).
(13) طرق وأساليب علاج نشوز الزوجة، موقع: الملتقى الفقهي.
(14) في ظلال القرآن (2/ 654).
(15) الفلسفة القرآنية، ص74-75.
(16) نيل الأوطار (6/ 365).
(17) التاج المذهب لأحكام المذهب (2/ 71).
(18) المهذب (2/ 74).
(19) تفسير القرطبي (3/ 177).
(20) أخرجه البخاري (371).
(21) فتح الباري (9/ 376).
(22) تفسير القرطبي (3/ 177)، وسبل السلام (3/ 243).
(23) بدائع الصنائع (2/ 334).
(24) أبحاث هيئة كبار العلماء (1/ 492).
(25) روح المعاني (5/ 25).
(26) أخرجه أحمد (20011).
(27) أخرجه أبو داود (2146).
(28) أخرجه البخاري (4942).
(29) أخرجه الترمذي (3895).
(30) في ظلال القرآن (2/ 655).
(31) زهرة التفاسير (3/ 1671).
(32) التحرير والتنوير (5/ 44).