لا تخرجوهن من بيوتهن
كره الإسلام الطلاق؛ لأنه تبديد الشمل، وقطع الصلة، وهدم الحياة الزوجية، وإذا كان لا بد منه فينبغي اقترانه ببدء العدة؛ حتى لا تطول مدتها على المرأة وتتضرر، فالإضرار بالطلاق حرام، وكيلا يقع الزوج في الندم إذا طلّق في وقت غير مناسب، فيحرم في وقت الحيض، أو في طهر جامعها فيه، وكذلك لا يجوز إخراجها من البيت، قال تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1].
ولقد أمر الله سبحانه بعدم خروج المرأة المطلقة من بيتها، وبعدم إخراجها منه، فكيف بالمرأة غير المطلقة؟!
إن بقاء المرأة في بيتها وعدم خروجها منه يمنع الخلاف من أن يتسع، ومن أن يعلم به آخرون؛ كأهل الزوج وأهل الزوجة، وعندها يتأزم الخلاف، ويصعب حله .
يقول سيد قطب: «هي بيوت أزواجهن، ولكنـه يسميها بيوتهن لتوكيد حقهن في الإقامة بها فترة العدة، لا يُخرَجن منها ولا يَخرجن؛ ذلك أن الحكمة من إبقاء المطلقة في بيت الزوج هي إتاحة الفرصة للرجعة، واستثارة عواطف المودة، وذكريات الحياة المشتركة؛ حيث تكون الزوجة بعيدة بحكم الطلاق قريبة من العين، فيفعل هذا في المشاعر فعله بين الاثنين»(1).
ويقول القرطبي في قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ}: «أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، ولا يجوز لها الخروج أيضًا إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة، والرجعية والمبتوتة في هذا سواء؛ وهذا لصيانة ماء الرجل»(2).
وصحيح أن هذه الآية في المطلقة، فإني أرى أنه يحسن العمل بها أيضًا في الحياة الزوجية المستمرة؛ بل لعل هذه الحياة أولى ببقاء المرأة في بيتها وعدم خروجها منه، أو إخراج زوجها لها، بسبب خلاف ناشئ بينهما.
إن بقاء المرأة في بيتها إثر نزاع بينها وبين زوجها يمنع خروجه عن دائرتهما، ويحول دون إطالة أمده.
عن سالم أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل»(3).
ورواه مسلم ولفظه: «فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء»(4).
ومن ثم يتعين أن هناك وقتًا معينًا لإيقاع الطلاق، وأنه ليس للزوج أن يطلق حينما شاء إلا أن تكون امرأته في حالة طهر من حيض، ولم يقع بينهما في هذا الطهر وطء، والحكمة في ذلك التوقيت هي أولًا إرجاء إيقاع الطلاق فترة بعد اللحظة التي تتجه فيها النفس للطلاق، وقد تسكن الفورة، إن كانت طارئة، وتعود النفوس إلى الوئام.
وهذه أول محاولة لرأب الصدع في بناء الأسرة، ومحاولة دفع المعول عن ذلك البناء.
وقوله تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} كي لا يكون في عدم إحصائها إطالة للأمد على المطلقة، ومضارة لها بمنعها من الزواج بعد العدة، أو نقص في مدتها لا يتحقق به الغرض الأول، وهو التأكد من براءة رحم المطلقة من الحمل المستكن حفظًا للأنساب.
ثم هو الضبط الدقيق الذي يوحي بأهمية الأمر، ومراقبة السماء له، ومطالبة أصحابه بالدقة فيه! «وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}، وهذا أول تنبيه، بعد وهلة النداء الأول، وأول تحذير من الله وتقديم تقواه، قبل الأمر بعدم إخراجهن من بيوتهن.
ذلك أن الحكمة من إبقاء المطلقة في بيت الزوج هي إتاحة الفرصة للرجعة، واستثارة عواطف المودة، وذكريات الحياة المشتركة، حيث تكون الزوجة بعيدة بحكم الطلاق قريبة من العين، فيفعل هذا في المشاعر فعله بين الاثنين! فأما حين ترتكس في حمأة الزنا وهي في بيته! أو تؤذي أهله، أو تنشز عليه، فلا محل لاستحياء المشاعر الطيبة، واستجاشة المودة الدفينة، ولا حاجة إلى استبقائها في فترة العدة، فإن قربها منه حينذاك يقطع الوشائج ولا يستحييها {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1].
وهذا هو التحذير الثاني، فالحارس لهذا الحكم هو الله، فأي مؤمن إذن يتعرض لحد يحرسه الله؟! إنه الهلاك والبوار {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ظلم نفسه لتعريضها هكذا لبأس الله القائم على حدوده يحرسها ويرعاها، وظلم نفسه بظلم زوجه، وهي وهو من نفس واحدة، فما يظلمها يظلمه كذلك بهذا الاعتبار، ثم {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا}، وهي لمسة موحية مؤثرة، فمن ذا الذي يعلم غيب الله وقدره المخبوء وراء أمره بالعدة، وأمره ببقاء المطلقات في بيوتهن، إنه يلوح هناك أمل، ويوصوص هناك رجاء، وقد يكون الخير كله.
وقد تتغير الأحوال وتتبدل إلى هناءة ورضى، فقدر الله دائم الحركة، دائم التغيير، ودائم الأحداث، والتسليم لأمر الله أولى، والرعاية له أوفق، وتقواه ومراقبته فيها الخير يلوح هناك! والنفس البشرية قد تستغرقها اللحظة الحاضرة، وما فيها من أوضاع وملابسات، وقد تغلق عليها منافذ المستقبل، فتعيش في سجن اللحظة الحاضرة، وتشعر أنها سرمد، وأنها باقية، وأن ما فيها من أوضاع وأحوال سيرافقها ويطاردها، وهذا سجن نفسي مغلق مفسد للأعصاب في كثير من الأحيان.
وليست هذه هي الحقيقة، فقدر الله دائمًا يعمل، ودائمًا يغير، ودائمًا يبدل، ودائمًا ينشئ ما لا يجول في حسبان البشر من الأحوال والأوضاع، فرج بعد ضيق، وعسر بعد يسر، وبسط بعد قبض، والله كل يوم هو في شأن، يبديه للخلق بعد أن كان عنهم في حجاب.
ويريد الله أن تستقر هذه الحقيقة في نفوس البشر، ليظل تَطَلُّعهم إلى ما يحدثه الله من الأمر متجددًا ودائمًا.
ولتظل أبواب الأمل في تغيير الأوضاع مفتوحة دائمة، ولتظل نفوسهم متحركة بالأمل، ندية بالرجاء، لا تغلق المنافذ ولا تعيش في سجن الحاضر، واللحظة التالية قد تحمل ما ليس في الحسبان {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا}(5).
عن ابن عباس يقول: «الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلالان، ووجهان حرامان؛ فأما الحلال فأن يطلقها طاهرًا عن غير جماع، وأن يطلقها حاملًا مستبينًا حملها، وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها حين يجامعها، لا تدري اشتمل الرحم على ولد أم لا»(6).
وفي إضافة البيوت إلى ضمير النساء إيماء إلى أنهن مستحقات المكث في البيوت مدة العدة، بمنزلة مالك الشيء، وهذا ما يسمى في الفقه ملك الانتفاع دون العين، ولأن بقاء المطلقات في البيوت اللاتي كن فيها أزواجًا استصحاب لحال الزوجية؛ إذ الزوجة هي المتصرفة في بيت زوجها، ولذلك يدعوها العرب (ربة البيت)، وللمطلقة حكم الزوجة ما دامت في العدة إلا في استمتاع المطلِّق.
وهذا الحكم سببه مركب من قصد المكارمة بين المطلق والمطلقة، وقصد الانضباط في علة الاعتداد تكميلًا لتحقق لحاق ما يظهر من حمل بأبيه المطلق، حتى يبرأ النسب من كل شك.
وجملة {وَلا يَخْرُجْنَ} عطف على جملة لا تخرجوهن، وهو نهي لهن عن الخروج، فإن المطلق قد يخرجها فترغب المطلقة في الخروج؛ لأنها تستثقل البقاء في بيت زالت عنه سيادتها، فنهاهن الله عن الخروج، فإذا كان البيت مكترى سكنته المطلقة وكراؤه على المطلق، وإذا انتهى أمد كرائه فعلى المطلق تجديده إلى انتهاء عدة المطلقة.
وهذا الترتب بين الجملتين يشعر بالسببية، وأن لكل امرأة معتدة حق السكنى في بيت زوجها مدة العدة؛ لأنها معتدة لأجله؛ أي: لأجل حفظ نسبه وعرضه، فهذا مقتضى الآية.
ولذلك قال مالك وجمهور العلماء بوجوب السكنى للمطلقة المدخول بها، سواء كان الطلاق رجعيًا أو بائنًا، وقال ابن أبي ليلى: «لا سكنى إلا للمطلقة الرجعية»، وعلل وجوب الإسكان للمطلقة المدخول بها بعدة أمور: حفظ النسب، وجبر خاطر المطلقة، وحفظ عرضها، وسيجيئ في هذه السورة قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} الآية، وتعلم أن ذلك تأكيدًا لما في هذه الآية من وجوب الإسكان في العدة أعيد لِيُبَيَّنَ عليه قوله: {مِنْ وُجْدِكُمْ} وما عطف عليه(7).
فقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}؛ أي: لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن فيها قبل الطلاق، غضبًا عليهن أو كراهة لمساكنتهن، أو لحاجة لكم إلى المساكن؛ لأن تلك السكنى حق الله تعالى أوجبه للزوجات، فليس لكم أن تتعدوه إلا لضرورة؛ كانهدام المنزل، أو الحريق، أو السيل، أو خوف الفتنة في الدين.
{وَلا يَخْرُجْنَ}؛ أي: لا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن؛ إذ السكنى في البيوت حق الشرع، فلا يسقط بالإذن، فإن خرجن ليلًا أو نهارًا كان ذلك الخروج حرامًا ولا تنتهي العدة.
ثم استثنى من لزوم المكث في البيوت ما إذا دعت الضرورة إلى الإخراج فقال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}؛ أي: لا يخرجن إلا إذا فعلن ما يوجب حدًّا من زنا أو سرقة أو غيرهما، كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيّب، أو يبذون على الأحماء أو الأزواج، فيحل إخراجهن من بيوتهن لبذائهن، وسوء خلقهن، أو خرجن متحولات عن منازلهن اللاتي يجب عليهن أن يكملن العدة فيها، فأي ذلك فعلن فللأزواج إخراجهن من البيوت، لإتيانهن بالفاحشة الواضحة التي ارتكبنها.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ}؛ أي: هذه الأمور التي بينتها لكم من الطلاق للعدة، وإحصاء العدة، والأمر باتقاء الله، وألا تخرج المطلقة من بيتها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، هي حدود الله التي حدها لكم، فلا تتعدوها.
فإن قلت: ما معنى الجمع بين إخراجهم أو خروجهن؟ قلت: معنى الإخراج: ألَّا يخرجهن البعولة غضبًا عليهن وكراهة لمساكنتهن، أو لحاجة لهم إلى المساكن، وألَّا يأذنوا لهنّ في الخروج إذا طلبن ذلك، إيذانًا بأنّ إذنهم لا أثر له في رفع الحظر، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قرئ بفتح الياء وكسرها، قيل: هي الزنا؛ يعنى إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن، وقيل: إلا أن يطلقن على النشوز، والنشوز يسقط حقهنّ في السكنى(8).
قال ابن العربي: «وقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الآية، فصارت الإقامة بالبيت حقًّا لله تعالى، لا يجوز للزوج ولا للمرأة إسقاطُه، خلافًا للضحَّاك».
هناك معنى آخر، وهو أنه حينما نسب الله هذا البيت الذي تسكنه أنت وزوجتك إلى زوجتك، أضافه إليها {مِنْ بُيُوتِهِنَّ}، بعض العلماء استنبط أن الزواج عند الرجل أحد فصول حياته، له فصل في علاقته مع ربه، وله فصل في علاقته مع من حوله، وله فصل في عمله، وله فصل في تأكيد ذاته، وأحد فصول حياته زواجه، فإن لم تظهر كفاءة الزوج وعبقريته في بيته ظهرت خارج البيت، إن لم تظهر في بيته ظهرت في عمله، إن لم تظهر في بيته ظهرت في إنجازه، في قوة شخصيته، في دقَّة صنعته، في براعة حرفته، في رواج تجارته، في نماء مزروعاته، الرجل يستطيع أن يؤكِّد ذاته في حقولٍ كثيرة، أحدها عمله، أحدها علاقاته، أحدها علاقته مع ربه.
أما الزوجة يُعَدُّ الزواج بالنسبة إليها كل فصول حياتها، فإذا نجحت في أن يتزوجها رجلٌ كفء لها فقد نجحت في الحياة، وإن لم تنجح فقد أخفقت؛ لذلك في أي مكانٍ تؤكد الزوجة ذاتها، وتظهر عبقريتها، وتظهر كفاءتها، وتظهر قوة شخصيتها، وتظهر براعتها، وتظهر حسن تدبيرها في بيتها، فإذا منعها الزوج من حقِّها الطبيعي في أن تكون مسئولةً عن بيت زوجها فقد حرمها كل فصول حياتها؛ لذلك هذا معنى آخر ذكره بعض العلماء في عِلّة نسبة البيت إلى الزوجة، فأنت حقق شخصيتك وكفاءتك خارج البيت، ودعها هي لتحقق إمكاناتها، وحسن إدارتها، وذوقها داخل البيت، طبعًا في حدود المستطاع؛ لأنكِ، أيتها الزوجة، إن أردتِ أن تطاعي فأمري بما يُستطاع.
ومَن طَلَّقَ امرأته طلاقًا سنيًا، راعى فيه كل الشروط، ولم يطبِّق هذا البند من هذه الآية، في قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ}، فقد عطَّل حكمة الطلاق، ولم يكن الطلاق عندئذٍ سنّيًا؛ بل كان بدعيًا، وهذه الحقيقة لها ألف شاهد وشاهد، ولها ألف دليل ودليل، وعليها ألف قصِّة وقصة، عمَّتها من جهة، وخالتُها من جهة، وأختها من جهة، وأخوها من جهة، وأبوها من جهة، وأمها من جهة، كلُّهم من جهة يوغرون صدرها على زوجها، وبالمقابل أمه وأبوه، وإخوته وأخواته، وعمَّاته وخالاته يوغرون صدره على زوجته، هم يعودون إلى بيوتهم مطمئنين، والنساء يعدن إلى أزواجهن مطمئنات، وتبقى أنت وحدك في البيت تتلوّى، وتبقى هي وحدها تتلوّى، وهؤلاء الذين أوغروا صدوركما ما نفعوكما؛ لذلك اقبل نصيحة الله عز وجل، لا تخرجها من البيت، ويا أيتها الزوجة، لا تخرجي من البيت(9).
***
________________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3599).
(2) الجامع لأحكام القرآن (18/ 154).
(3) أخرجه البخاري (4908).
(4) أخرجه مسلم (1471).
(5) في ظلال القرآن (6/ 3600).
(6) الجامع لأحكام القرآن (18/ 150).
(7) التحرير والتنوير (28/ 300).
(8) الكشاف (4/ 554).
(9) سورة الطلاق، موسوعة النابلسي للعلوم الاسلامية.