logo

أنا آسف


بتاريخ : السبت ، 24 رمضان ، 1436 الموافق 11 يوليو 2015
بقلم : تيار الإصلاح
أنا آسف

إن الحياة البشرية تعج بالحركة والأعمال، وهذه الحركة وتلك الأعمال منها الصحيح الصالح ومنها الخطأ الفاسد، وهذا الخطأ قد يتعدى إلى الآخرين، مما يستوجب معه الاعتذار عن هذا الخطأ؛ ولكن بعض الأشخاص لا يتحملون

ذلك، ولا تطاوعهم أنفسهم على الاعتذار لغيرهم، يرون في ذلك كسرًا لأنفسهم أمام الآخرين، أو قد يرى أنه غير مخطئ وأن ما فعله صواب حتى ولو أجمع الناس على أنه مخطئ.

 

إنه خلق الأنبياء:

إنهم أشرف وأطهر من مشى على الأرض، إنهم أنبياء الله ورسله الذين اختارهم الله على عينه، وأدبهم فأحسن تأديبهم، ومع ذلك فهم يُقدمون لنا الأسوة والقدوة في المبادرة للاعتذار للتأكيد على أنه خلق لا يشين ولا يقلل من قيمة صاحبه.

آدم، عليه السلام، اعترف بذنبه لما أخطأ وسارع إلى ذلك، ولم يُحاول تبرير ما وقع فيه من إثم بمخالفة أمر الله، والأكل من الشجرة المحرمة عليه هو وزوجه، لم يُراوغ، لم يتكبر، لم ينفِ لكنه جاء معترفًا بخطئه ومُقرًا به، {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].

موسى، عليه السلام: أخطأ عندما وكز الرجل بعصاه فقتله، فماذا حدث؟ إنه لم يبرر فعلته، ولم يراوغ لإيجاد المخارج من هذا المأزق؛ ولكنه اعترف ابتداءً أن ما فعله من عمل الشيطان، {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15]، ثم قام ليقدم الاعتذار ويطلب العفو والصفح والمغفرة، {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16].

رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعتذر: فعن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: مررت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقوم على رءوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «ما أظن يغني ذلك شيئًا» قال: فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله، عز وجل»(1).

 

إنه من شيم الكبار:

الاعتذار من شيم الكبار، وخلق من أخلاق الأقوياء، وعلامة من علامات الثقة بالنفس التي لا يتصف بها إلا الكبار، الذين لديهم القدرة على مواجهة الآخرين بكل قوة وشجاعة وأدب، والحياة بدون اعتذار ستحمل معاني الندية، وستخلق جوًا من التوتر والقلق بين الناس.

فالاعتذار خلق اجتماعي جميل يدعو للتعايش، ويمحو ما قد يشوب المعاملات الإنسانية من توتر أو تشاحن نتيجة الاحتكاك المتبادل بين الناس.

والاعتذار ينفي عن صاحبه صفة التعالي والكبر، ويمنحه المصداقية والثقة في قلوب الآخرين، كما أن الاعتذار يُزيل الأحقاد، ويقضي على الحسد، ويدفع عن صاحبه سوء الظن به، والارتياب في تصرفاته.

لأن الاعتذار يعني الاعتراف بالخطأ، وقلما تجد إنسانًا يستطيع أن يواجه الآخرين بخطئه أو يعترف به.

ولأن الاعتذار يعني تحمل المسئولية عن الخطأ الذي ارتكبه صاحبه، وهو كذلك صعب التحقيق إلا بين الكبار الذين يواجهون أخطاءهم بكل قوة وحزم.

ولأن الاعتذار يحتاج من صاحبه إلى قوة نفسية هائلة تدفعه للمبادرة به، وهو ما لا يتوفر إلا للكبار الذين كبحوا جماح أنفسهم فسلس لهم قيادتها.

ولأن الكبار هم الذين يُراعون مشاعر الآخرين، ولا يجرحونها، فلا يتعدون على حقوقهم أو يدوسون على كرامتهم، لذا فإنهم متى بدر منهم ذلك يسارعون للاعتذار وتصحيح الخطأ، وهذا أيضًا لا يكون إلا من أخلاق الكبار.

بلقيس وامرأة العزيز: كلتاهما كانتا تعيشان في بيئة وثنية كافرة، ولكنهما اعترفتا بذنبهما، وتابتا ورجعتا عن خطئهما، أما الأولى وهي بلقيس، فإنها متى رأت الآيات والبينات تترا على يد نبي الله سليمان حتى قالت: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44].

وأما الثانية امرأة العزيز التي راوغت، وكادت لتبرير موقفها الصعب، وسلوكها المشين؛ إلا أنها اعترفت في شجاعة نادرة {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } [يوسف:51، 52].

 

هكذا نريد حياتنا:

نريد حياتنا سهلة بسيطة، لا تعطلها العثرات، ولا توقفها المشاكل والأزمات؛ بل نريدها ماضية في طريقها بانسيابية وثبات، وهذا لن يكون إلا بأسباب منها الاعتذار عن الخطأ، والاعتراف بالتقصير، فالزوج إذا أخطأ في حق زوجته وجب عليه أن يبادر بالاعتذار إليها حتى قبل أن تلومه هي، ولا يتكبر ويقول في نفسه لن أكسر عزتي أمامها.

وعلى الرئيس إذا ارتكب خطأً أن يعتذر إلى مرءوسيه، ولا يعلل عدم الاعتذار بأنه يخشى أن يعتبروه ضعيف الشخصية، وعلى المدرس أن يعتذر لتلامذته إذا أخطأ، ولا يخشى من الاتصاف بالضعف في مادته.

ذلك لأن الكبار يفهمون الاعتذار فهمًا راقيًا، فلا ضير من الاعتذار للزوجة إذا أخطأوا في حقها، ولا مانع من الاعتذار لمرءوسيهم إذا قصروا في أداء الواجبات المنوطة بهم، ولا ينقص من قدرهم إذا اعتذروا ولو كانوا في مراكز قيادية.

على العكس تمامًا من صغار النفوس، والعامة من الناس الذين دأبوا على التهرب من الاعتذار عن أخطائهم التي ارتكبوها.

لقد اقتصر الاعتذار بين العامة في الأشياء العابرة الخفيفة، مثل الاصطدام الخفيف أثناء المشي، أما في المواقف الجادة والحقيقية والتي تحتاج الاعتذار حتى تستمر عجلة الحياة، ويستقر التعامل بين الأقران، نرى التجاهل وعدم المبالاة، والواقع يؤكد ما نقول.

 

أطفالنا والاعتذار:

إن الطفل بطبعه لا يتعلم أي شيء إلا من خلال والديه، وبالتالي فلن يعتذر الطفل عن خطأه إلا إذا لقنه والديه هذا الأسلوب.

فيجب على الوالدين أن يمارسا الاعتذار أمام الطفل؛ لأن الطفل يتعلم من والدية الأسلوب أولًا فإن أخطأ أحد الوالدين عليه أن يعتذر ممن أخطأ معه؛ لأن الطفل يراقب ما يجري ولو كان خلف الأبواب.

ويجب الاعتذار للطفل عندما يساء إليه أو يخطئ معه أحد الوالدين، والبعض ربما سيقول هل سأعتذر لطفل؟ نعم، الاعتذار للطفل لا يكلف صاحبه شيئًا بينما له وقع قوي جدًا في قلب الطفل، ومن شأنه أن يعزز الثقة في نفس الطفل، ويدفعه للتفكير أكثر في مجريات الأمور، وسيعلمه أن من يخطئ إن كان صغيرًا أم كبيرًا عليه أن يعتذر.

كذلك يجب على الوالدين مراقبة السلوك المتبع بين الأطفال في المنزل ودفع المخطئ للاعتذار من الآخر، مع شرح فوائد الاعتذار للطفل ونتائجه المفيدة إذا ما أقدم عليه الإنسان.

ومن أهم النقاط التي تلقن الطفل فن الاعتذار، هي تشجيع الطفل وإسماعه كلمات طيبة بعد أن يعتذر؛ لنوصل له فكرة أن تصرفه هذا أمر جيد، زرع الرضا في النفوس بما فيها نفس الطفل ذاته، وهذا الأمر كفيل في أن يعطي الطفل شحنة معنوية كبيرة ترسخ فن الاعتذار في نفس الطفل.

وأيضًا تعليم الطفل أن يطلب الاعتذار من الآخر عندما يسيء الأخر له؛ ليصبح الأمر عادة في تعامله.

إن أفضل وأنسب وقت لغرس هذه الصفة النبيلة في نفوس البشر هو عند الصغر، فالتعليم في الصغر يرسخ العلم في النفس، ومهما تعرض الإنسان للتقلبات لاحقًا لن تغير في طبعه الأساسي أي شيء؛ لأنه راسخ رسوخ الجبال في العمق النفسي له، وصفة الاعتذار تروج لصفاء الروح، ونقاء القلب، ونشر الحب والتسامح بين البشر، في وقت نحن بأمس الحاجة إلى مثل هذه الصفات النبيلة، التي من شانها أن تجعل الحياة أكثر جمالًا والعلاقات الاجتماعية أكثر تماسكًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

صحيح مسلم (4/ 1835).

أهم المصادر:

موقع المربي، مقال بعنوان: »لقن طفلك فن الاعتذار« لحنان صوان.

موقع الإيمان أولًا، مقال بعنوان: »الاعتذار من شيم الكبار«.