logo

الإبن والقراءة


بتاريخ : الأربعاء ، 3 رمضان ، 1437 الموافق 08 يونيو 2016
بقلم : تيار الاصلاح
الإبن والقراءة

هب أنك تنظر إلى ذبابة لا ترى لوح الزجاج الذي أمامها، وتظن أن الطريق مفتوح، ثم ترتطم بلوح الزجاج وكانت تظن أن لا وجود له، فتردها صلابة لوح الزجاج، ثم تحاول الكرة مرة أخرى.

مثل هذه الذبابة مثل الإنسان الذي يظن أنه على علم ومعرفة بحقيقة ما، وهو لا يعلم إلا جزءًا من هذه الحقيقة، وهو ما نستطيع أن نصفه بالنظرة الأحادية، فأصحاب النظرة الأحادية يظنون أنهم يملكون المعرفة الكاملة، بينما يرون أن الآخرين لا يملكون ولو جزءًا من هذه المعرفة، وأفضل تشبيه لمثل هؤلاء هو الذي ذكره الغزالي رحمه الله في إحيائه حين قال: "فاعلم أن جماعة من العميان قد سمعوا أنه حمل إلى البلدة حيوان عجيب يسمى الفيل، وما كانوا قط شاهدوا صورته ولا سمعوا اسمه، فقالوا: لا بد لنا من مشاهدته ومعرفته باللمس الذي نقدر عليه، فطلبوه، فلما وصلوا إليه لمسوه، فوقع يد بعض العميان على رجليه، ووقع يد بعضهم على نابه، ووقع يد بعضهم على أذنه، فقالوا: قد عرفنا، انصرفوا.

سألهم بقية العميان فاختلفت أجوبتهم، فقال الذي لمس الرجل: إن الفيل ما هو إلا مثل أسطوانة خشنة الظاهر، إلا أنه ألين منها، وقال الذي لمس الناب: ليس كما يقول؛ بل هو صلب لا لين فيه، وأملس لا خشونة فيه، وليس في غلظ الأسطوانة أصلًا؛ بل هو مثل عمود، وقال الذي لمس الأذن: لعمري، هو لين وفيه خشونة، فصدق أحدهما فيه، ولكن قال: ما هو مثل عمود، ولا هو مثل أسطوانة، وإنما هو مثل جلد عريض غليظ، فكل واحد من هؤلاء صدق من وجه؛ إذ أخبر كل واحد عما أصابه من معرفة الفيل، ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل، ولكنهم بجملتهم قصروا عن الإحاطة بكنه صورة الفيل". [إحياء علوم الدين (4/7)].

فهكذا صاحب النظرة الأحادية؛ يرى جزءًا من الحقيقة ويظن أنها الحقيقة الكاملة، وحينها يصف الأمور بغير أوصافها، ويرى الأشياء على غير حقيقتها، والأدهى من ذلك أنه لو حدثه أحد عن الحقيقة التي يجهلها، لربما قذفه بالجهل والضلال، ولا شك أن هذه النظرة من المعوقات الكبيرة في طريق التواصل مع الآخرين، وهي أكبر الأوهام التي تسيطر على الإنسان، والحل الأمثل للتحرر من الأوهام هو القراءة والتعلم، فحتى نستطيع أن نخرج جيلًا يستطيع التواصل مع الآخرين وبناء الحضارات، ونشر الثقافات الصحيحة، لا بد من القراءة.

"ففي نزول أوَّل آيةٍ في القرآن، وهي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، من الدَّلالات والمعاني ما لا يمكن حصرُه، ويُفهم من قوله: {اقْرَأْ} وهو فعل أمر من (قَرَأ) الأمر الجازم الحازم بالقراءة، والحث على تعلمها وتعليمها. [شواهد في الإعجاز القرآني، لعودة أبو عودة (84)].

ثم جاءَ الأمرُ القرآني الآخر، لتأكيد القضيّة والحث على طلب المزيد من العلم، فقال الله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].

قال ابن القيم رحمه الله: «وكفى بهذا شرفًا للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه». [مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/50)].

وقال ابن كثير في تفسيره: «أي: زدني منك علمًا.

قال ابن عيينة، رحمه الله: ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة من العلم حتى توفاه الله عز وجل». [تفسير ابن كثير (5/319)].

فلا شك إذًا في أن القراءة أمر جليل وشأن عظيم، فبها تتضح الأمور، وتتذلل الصعاب، وتلين الشدائد والملمات، وتنهض الأمم وتتقدم الحضارات، فالقراءة هي أول المعرفة وأخراها، وهي بداية العلم ومنتهاه، فبالقراءة نتحرر من الأوهام، ونبصر الحقيقة كاملة غير منقوصة.

فيجب على الآباء والأمهات أن يوجهوا الأبناء إلى أهمية القراءة، وذلك من خلال حوار هادئ، فيخبره الأب قائلًا:

«بني الحبيب، أن تقرأ معناها أن تعرف، وأن تعرف معناها أن ينمو عقلك وينضج فكرك، وأن ينمو عقلك وأن ينضج فكرك معناها أن تصبح أكثر إنسانية، ومن هنا نفهم لماذا استهل الله عز وجل كتابه الكريم بأن أمر "اقرأ"؛ فإن القراءة لا تزال هي أهم الوسائل التي تنقل إلينا ثمرات العقل البشري، وأنقى المشاعر الإنسانية، والقراءة تسمو بخبراتك وتطورها إلى أعلى المستويات". [اللمسة الإنسانية، لمحمد محمد بدري (392)].

وانظر كيف ربط القرآن الكريم بين الكرامة والقراءة، قال تعالى:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق:3]، فالأمم الأكثر قراءة هي الأكثر كرامة، ثم ربط المولى عز وجل بين العلم والكتابة فقال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:4]، وهذا هو الفارق بين الإنسان المتحضر والمتقدم والإنسان المتخلف؛ فالإنسان المتقدم يتعلم من خبرات غيره ومما يمر به من أمور، فيستفيد مما يساعده على النجاح والتفوق، ويثبت هذا الأمر ويسجله، ويقوم بحذف الأخطاء حتى لا يقع فيها، أما الإنسان المتخلف فإنه لا يتعلم من التجارب والأخطاء وإنما يكرر الخطأ أكثر من مرة، وبالتالي لن يتغير إلى الأحسن، فيرى الآخرين يتقدمون وهو لا يزال يقف في مكانه؛ بل هو في الحقيقة يتقهقر إلى الوراء؛ لأن الزمن لا يتوقف، وطالما أنه لا يتقدم والزمن يتحرك، فهو بالتالي يرجع إلى الوراء.

فالقراءة هي السبيل للتعلم، وهي السبيل للنجاح، هي السبيل لتفوق الأبناء ونجاحهم، ويمكن غرس المعرفة وحب القراءة في الأبناء منذ الصغر؛ وذلك من خلال تعليمهم الإصغاء والانتباه إلى ما يقال، ثم تدريبهم على ملاحظة الكلام وعدم مروره مرور الكرام على الآذان، ومن هنا سيجد أن الأبناء عندهم شغف ونهم للقراءة؛ لأجل الاستزادة من هذه المهارات، مهارة الملاحظة ومهارة الانتباه عند ذكر المعلومة، وقد يقوم الأبناء بعقد المقارنات بين بعض الكلام وبعضه الآخر.

ومما يجب التنبيه عليه أنه يجب على الآباء والأمهات أن يقوموا بترك الاختيار للأبناء في قراءة ما يريدون، وانتقاء ما يقرءون؛ فالأبناء هم أصحاب الاختيار في ذلك، وإنما ينحصر دور الآباء والأمهات في تجنيب الأبناء تلك الكتب الضارة بأخلاقهم ودينهم، وإن حدث وضلوا طريقهم، فبإرشاد الآباء والأمهات بالحكمة والموعظة الحسنة يستطيعون أن يردوهم إلى الكتب النافعة؛ لأن الآباء والأمهات لو قهروا الأبناء على كتب بعينها، والأبناء لا يريدون قراءتها، فإنهم لن يستفيدوا منها؛ لأن المنفعة لن تتحقق من وراء هذه القراءة إلا إذا كان الأبناء عندهم إعجاب من داخلهم بما يقرءون، وليسوا مجبرين على قراءة ما لا يريدون.