أطفالنا والتقنية
تعيش المرأة المسلمة داخل بيتها ملكة متوجة على عرش، وهي في هذه المملكة لا تتم فرحتها ولا تكتمل بسمتها إلا بطفل تحلو به الحياة، وتسطع به شمس نهارها، ويضيء به ظلام ليلها، فهو حياتها كلها، لأجله تتألم وتتحمل، ولسعادته تسهر وتصبر، ثم تراه أمامها يكبر ويكبر، ورغم ذلك فإنه لا يزال في عينها ذلك الطفل الصغير الذي لا يكبر أبدًا.
فالأم تبحث عن كل ما يُسعد طفلها، وتجلب له كل ما يُفرِحه ويجعله باسمًا سعيدًا، ومن هذه الأشياء التي يجلبها الوالدان لأبنائهما، لأجل إسعادهم وراحتهم والتفريج عنهم وإدخال الفرحة والسرور على أبنائهم، الأجهزة الإلكترونية؛ كالحاسب الآلي، وجهاز "البلاي ستيشن" وكذلك أجهزة الهاتف المحمول، فضلًا عن أجهزة التلفاز.
والأطفال يفرحون بمثل تلك الهدايا أيما فرح، وكذلك الوالدان يفرحان عندما يريان طفلهما وهو سعيد مبتسم، وكذلك يفرحان عندما يريانه متقنًا في التعامل مع هذه الأجهزة؛ مما يجعل في نفس الوالدين نوعًا من الافتخار بطفلهما، وما يعلمان أنهما قد جنيا عليه جناية عظيمة!
لماذا؟ وكيف؟
ذلك لأن الطفل كائن ضعيف، يولد ببراءة طبيعية؛ كالورقة البيضاء المعدة لاستقبال وتلقي كل ما يكتب فيها، وينقش على سطحها، بدون ممانعة، أو معارضة؛ لأنه لا يوجد هناك إدراك سابق، أو معلومات سابقة، أو خبرة سابقة، وبالتالي فكل ما يشاهده الطفل على تلك الأجهزة، من عنف أو احتيال أو غير ذلك من السلوكيات الخبيثة، هو ما يُطبَع في وعي الطفل ويترسخ في ذهنه على أن هذا هو الأمر الطبيعي الذي ينبغي فعله.
إن مرحلة الطفولة هي مرحلة التشكيل العقلي والفكري والسلوكي، وما يتم غرسه في مرحلة الطفولة من مكتسبات ومؤثرات ومدخلات يظل مترسبًا مدى الحياة، وما يكتسبه الطفل من قيم وأخلاقيات، وسلوكيات حسنة أو سيئة، سلبية أو إيجابية، فإنها ستظل مقترنة به حتى نهاية العمر.
الآثار السلبية للتقنية الحديثة:
عندما يقوم الطفل بممارسة لعبة على جهاز الكمبيوتر أو البلاي ستيشن فإنه يشارك بنفسه في العنف، بالقتل والضرب والتخريب والسرقة والنهب والتفجير والسحق والخطف وغير ذلك، كما في لعبة "gta" مثلًا، وهي لعبة مشهورة جدًا بين الأطفال والمراهقين؛ بل هناك أجهزة تدعى "x box"؛ هذه الأجهزة تجعل اللاعب يرى نفسه داخل اللعبة كأنها حقيقة، ويمسك في يده مسدسًا يقتل به في العالم الافتراضي، ولكنه ممسك به حقيقة في العالم الحقيقي.
إن مثل تلك الأفعال تجعل الأطفال لا يأبهون بالقتل أو السرقة والخطف والسحق والتفجير والتدمير، فهو أمر طبيعي بالنسبة إليهم؛ مما يولد عندهم تبلدًا للإحساس، فإنه إذا ما رأى مشهدًا تُسال فيه الدماء أو تنتهك فيه الكرامات أو الأعراض فلن يحرك ساكنًا، حتى ولو كان شابًا يافعًا، أو رجلًا عاقلًا؛ ذلك لأنه نشأ على تلك الألعاب والأفلام، وتربى على تلك الأجهزة الحديثة من غير رقيب أو متابع.
وكذلك ينشأ الطفل على عدم احترام النظام والقوانين والعادات والتقاليد، فضلًا عن عدم احترام قواعد الإسلام ومبادئه؛ ذلك لأنه في هذه الألعاب يقوم باختراق النظم والقوانين، وكل ما هو صحيح حتى يصل إلى هدفه وما يريد.
ثم تكون المصيبة الكبرى والطامة حينما يتعامل الطفل مع الشبكة العنكبوتية بلا رقيب، وما تحتويه هذه الشبكة من مواد بها مشاهد خليعة قد يشاهدها الطفل، وهي ما تقتل براءتهم، وتشوش أفكارهم، وتشوه جمال وحسن طفولتهم، فهو سيفكر في أمور أكبر من سنه، لا يقدر أبدًا عقله الصغير على استيعابها أو فهمها؛ مما يجعل داخل الطفل نوعًا من الاضطراب والخلل، وحينها يشعر الطفل بغربة بينه وبين أسرته؛ بل وبينه وبين مجتمعه، فقد رأى أمام الشاشة أمرًا، وهنا في الواقع أمر مختلف تمامًا.
ثم إن الطفل يتعلم هذا السلوك الذي يشاهده دون إدراك لصحة هذا الفعل أو خطئه، وهذا السلوك يختزنه الطفل في العقل الباطن عنده، ثم يخرج عندما تتاح له الظروف الملائمة، حتى ولو علم بعدها الطفل أن هذا السلوك وهذا الفعل من الأفعال الخاطئة، إلا أنه قد حفر في عقله الباطن، وقد يستدعي هذا الفعل في أي وقت إذا توافرت الظروف الملائمة له.
ثم إن الأطفال عندهم حب المحاكاة والمضاهاة، وعندما يشاهد مثل تلك الأمور فإنه سيحاول تقليد ما شاهده.
ومن الآثار السلبية لهذه التقنية على الأطفال تقليص العلاقة بين الطفل وبين أسرته، فالطفل يعيش في عالم خاص به، كأنه غريب في بيته، كذلك فإن التقنية وجلوس الطفل أمامها بالساعات تقتل فيه وتقضي على كثير من النشاطات والفعاليات الحركية المهمة لجسم الطفل، واللازمة لنموه النمو الصحيح المتوازن؛ كاللعب الجماعي مع أقرانه، وممارسة الرياضة، والتنزه، والقراءة، والرسم، وغير ذلك من الهوايات المفيدة.
"وقد أثبتت الدراسات أنه بمقدار تعرض الطفل للتقنية الحديثة يقل إدراكه للكلمات، فكل ساعة أمام التلفاز أو أمام جهاز ألعاب الفيديو أو الشبكة العنكبوتية يقل أمامها مقدار تحصيل ثمان كلمات مقارنة بالطفل العادي، الذي لم يتعرض لمثل تلك التقنية، كذلك توصي الدراسة بأنه يمنع منعًا باتًا الطفل دون السنتين من الأجهزة الحديثة"(1)؛ ذلك لأنه في هذه المرحلة يحتاج إلى تنمية حواسه؛ كحاسة اللمس والسمع والبصر، ولا شك أن التعرض لهذه التقنية يوقف عمل هذه الحواس؛ بل يقتلها.
إذًا فما الحل؟
إن حل مثل تلك المشكلة الكبيرة لا يتم عن طريق منع الطفل تمامًا من هذه التقنية، خصوصًا وأن هذه التقنية هي الشيء الأكيد الذي سيتعامل مع الطفل في كل مجريات حياته عندما يصير شابًا يافعًا، وإنما يكون التعامل مع تلك المشكلة بالآتي:
أولًا: لا تزيد ساعات المتابعة التلفزيونية، أو الألعاب الإلكترونية، أو الشبكة العنكبوتية للطفل عن ساعة واحدة يوميًا.
ثانيًا: أن يكون ما يشاهده أو يلعبه الطفل مراقبًا ومتابعًا من الوالد أو الوالدة أو الأخ الأكبر، أو من يقوم مقامهم.
ثالثًا:أن يكون ما يشاهده الطفل هادفًا وتربويًا، وله غاية نبيلة، وفيه تعليم للخلق القويم.
رابعًا:عدم وجود الجهاز التقني في غرفة مغلقة، كغرفة الطفل الخاصة به، وإنما ينبغي أن يكون في مكان عام في المنزل، يستطيع كل من في المنزل رؤيته.
خامسًا: تفعيل المشاركة الأسرية، وجعل ساعات يومية يقوم فيها أفراد الأسرة بالتواصل فيما بينهم، والتحاور في شئون يومهم وما تم فيه، وإشراك الطفل في مثل تلك الأمور، وسؤاله عن أقرانه وما يلعبونه مع بعضهم.
سادسًا: عمل مسابقة في حفظ القرآن مثلًا، وأن يكون فيها جوائز قيمة هادفة، ويستحسن أن تكون هذه المسابقات بصفة دورية، وحبذا لو كانت ممنهجة.
ــــــــــــــ
(1) هذه المعلومات ذكرها الدكتور عمار عبد الله عطار، في حلقة له على قناة المجد الفضائية على الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=RjzEO_fCglo