logo

إنها صانعة الرجال


بتاريخ : الخميس ، 26 شعبان ، 1437 الموافق 02 يونيو 2016
بقلم : تيار الإصاح
إنها صانعة الرجال

كانت النساء في العهد الأول من تاريخ الإسلام لهن من المواقف ما لا يقدر عليها إلا أصحاب الهمم العالية، والنفوس الشجاعة، والقلوب المطمئنة، مواقف علمت الرجال معنى الرجولة، مواقف علمت الأبطال معنى

البطولة، مواقف علمت الشجعان معنى الشجاعة، مواقف علمت المرابطين والمجاهدين في سبيل الله معنى التضحية والرباط والجهاد.

 

كل هذه المواقف كانت أبطالها من النساء، ومثل هذه المواقف تبث في النفس عزيمة لا يتخيلها أي إنسان إلا إذا عايشها بنفسه، ورآها بعينه، وسمعها بأذنه، وليس الخبر كالمعاينة.

 

فهذه أم عمارة رضي الله عنها، نسـيبة بنت كعب الأنصـارية، تعلم الدنيا كلها معـنى التضحيـة والجـهاد، بايعـت النبي صـلى الله عليه وسـلم في العقبة، وشهدت أحدًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت ممن ثبت حول النبي صلى الله عليه وسلم، حين هجم المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الرماة من على الجبل، فإذا بأم عمارة تذب عن رسول الله صلى الله عليه بكل ما أوتيت من قوة، وأيضًا ابنها عبد الله معها يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ويأتي من يريد أن ينال من النبي صلى الله عليه وسلم فتتصدى له، ويضربها ضربة تؤثر فيها، لكنها تظل ثابتة صامدة، وتَمضي أم عمارة في سبيل الجهاد يوم أحد قدمًا، وقد شعرت بدقة الموقف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستهدف، فلا تعبأ بما يُصيب جسدَها من جراح، وما ينال صدرَها مِن سِهام، ويعجب حينها النبي صلى الله عليه وسلم بصنيعها، فيخبرها أن مقامها عند الله أفضل من مقام فلان وفلان.

 

ويقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: «من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟»، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ما التفت يمنة ولا يسرة إلا رأى أم عمارة تدافع عنه وتذب عنه.

 

ويصاب ابنها عبد الله، فتجرح عضده اليسرى، وغدت تنزف نزفًا غزيرًا، فراحت أمه تمرضه وتضمده، حتى إذا اطمأنت عليه قالت له: انهض بني فضارب القوم، ولم يملك حينها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يدعو لهذه الأسرة المجاهدة من سويداء قلبه بأن يبارك الله لهم، فتسأله أم عمارة أن يدعو الله أن يكونوا رفقائه في الجنة، فيدعو الله لهم بذلك، حينها تقول أم عمارة: «فما أبالي بما أصابتني الدنيا».

 

وعند محاربة المرتدين تقف أم عمارة رضي الله عنها هي وابنها للذود عن هذا الدين، وتشترك في القتال ضد المرتدين، وتصل مع المسلمين إلى حيث يوجد مسيلمة الكذاب، وتجد ابنها عنده ومسيلمة مقتول، فتقول لابنها: هل قتلته؟ فيجيبها: نعم أماه.

 

هكذا كانت المرأة المسلمة في الرعيل الأول تربي أبناءها، تربيهم على التضحية والبطولة والرجولة والإباء، تربيهم على حب هذا الدين والعمل له والذود عنه.

 

فلم تكن هذه المشاعر والعواطف النبيلة التي ملأت على أم عمارة فؤادها، نتيجة نزعة عابرة تزول على مر الأيام؛ بل كان مصدرها إيمانًا عميقًا، ويقينًا بالله ورسوله، وهو إيمان ثابت لا يزول أو يتزحزح أمام أي قوة من قوى الظلم، واستطاعت بذلك أن تسجل على أوراق الدهر من الأعمال والفضائل التي قل نظيرها.

 

ثم هي استطاعت أيضًا أن تبث هذه المشاعر وتلك العواطف إلى أبنائها، فكانوا رجالًا بحق؛ لأنهم تربوا في مصنع الرجولة، وتخرجوا من مدرسة البطولة، فضربوا لنا أروع الأمثلة في التضحية لأجل هذا الدين، ونصرة الحق والعدل.

 

إن هذه الصورة عن المرأة المسلمة التي تنشد الحق وتؤز عليه، وتربي أولادها تلك التربية، التي توصلهم إلى التضحية بأنفسهم وأموالهم في سبيل دينهم، كنت أحسبها حبيسة القرون السابقة، كنت أظنها قعيدة الكتب والمؤلفات لتراثنا العظيم؛ لكني رأيت بأم عيني من أعادت إلينا تلك الذكريات الجميلة، وأضاءت لنا طريق البطولات المجيدة.

 

إنها تلك المرأة التي خرجت ببناتها وهن جميعًا يحملن أكفانهن على أيديهن نصرة للحق وإزهاقًا للباطل، ونصرة للمظلوم ودفعًا للظالم، وهي تقول: بناتي قد وهبتهن لله.

 

إنها تلك المرأة التي تسير في حر الظهيرة تبث الحماسة في نفوس الرجال، وهي تؤزهم على الصمود ومواصلة الكفاح، وعدم الركون إلى الراحة، فإما التعب وبعده النجاة، وإما الراحة وبعدها الهلاك.

 

إنها المرأة التي تقف بالأيام في حر الظهيرة صابرة محتسبة، تطالب بحقها وحق أولادها في عيشة طيبة كريمة، لا تكل ولا تمل.

 

إنها المرأة التي جعلت الخنساء قدوتها، فيموت من يموت من أبنائها وهي على الحق ثابتة، وله طالبة، وللباطل مبغضة، وللظلم كارهة، لسان حالها: كل مصيبة تهون في سبيل هذا الدين.

 

إنها المرأة المسلمة التي تعلم الدنيا كلها معنى الصمود والتضحية والجهاد، التي تعلم الدنيا كلها معنى الرجولة، فهي صانعة الرجال.

 

إن المرأة المسلمة ليست كأي نساء العالم، إنها متميزة في خصائصها التي تتميز بها من خلال دينها، فهي امرأة تلد أمة، وتربي أمة، وتبني أمة، وتصنع أمة، إنها امرأة تُعِدُّ قادة، وتربي سادة، إنها امرأة خُلِقت كي يخرج من رحمها من يقود هذا العالم إلى رحاب الإسلام، وضياء الإيمان، ونور القرآن، فهي بحق صانعة الرجال.