أطفال غزة ودروس العزة

في زمنٍ تكسرت فيه القيم أمام مغريات الدنيا، وانهارت فيه كثير من المبادئ تحت ضغوط المصالح، يخرج لنا أطفال غزة، أولئك الضعاف في الأجساد، الأقوياء في الإيمان، ليقدموا للعالم كله أعظم دروس العزة والكرامة، فمن تحت الركام، ومن بين أصوات القصف، ومن بين جراحاتهم، يكتبون بدمائهم وأرواحهم أن الكرامة لا تُشترى، وأن الحرية لا تُوهب، بل تُنتزع بالصبر والثبات.
ولو علم المربون أن حقيقة الحياة تتجلى في الامتحانات المتنوعة، وأن العبرة لمن تمكن من تجاوزها؛ لاختلفت تربيتهم لأولادهم 180 درجة، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
قال الطبري: حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد في الله منكم، وأهل الصبر على قتال أعدائه، فيظهر ذلك لهم، ويعرف ذوو البصائر منكم في دينه من ذوي الشكّ والحيرة فيه، وأهل الإيمان من أهل النفاق، ونبلو أخباركم، فنعرف الصادق منكم من الكاذب (1).
لطالما كانت حياة الأطفال في قطاع غزة صعبة جدًا، فهذه رابع حرب يعيشونها، حتى أنك لا تكاد تجد مكانًا آمنًا لهم في أي مكان من أنحاء قطاع غزة، هناك فقط يمكن لطفل لا يبلغ السابعة أن يمشي قرابة 2/3 كم ليجلب الماء لأمه، برأيك كيف سيكون غدًا حين يصبح رجلًا؟
كيف يمكن أن يكبر طفل وهو ينعى أخوه وأمه وأعمامه بوقت واحد، وهو رافع أصبعه متحديًا كل متواطئي العالم ويقول: سنصبر حتى آخر شهيد منا، فإن غزة هي بلد العزة والكرامة ولن نضعف.
هذا الطفل هو أخو أبو عبيدة وابنه، هو من رضع نفس حليب الشهامة والشجاعة، ليسطر لكل دول العالم، أن الطفولة السليمة هي طفولة تحمل المسؤولية وتجاوز الصعاب.
هذا الجيل هو المعلم لنا، منهم نتعلم العزة والكرامة والشهامة والشجاعة والأخذ بأسباب النهضة التي نحلم.
لقد تأذى أطفال غزة كثيرًا بسبب التصعيد العنيف الأخير، فقد أزهقت الأرواح وتمزقت الأسر، ولحقت آثار مدمرة بالأطفال، وفي غزة لحقت أضرار بالمدارس والمرافق الصحية، وسويت المنازل والمكاتب بالأرض، وهجّرت أسر بأكملها.
من هنا كانت في غزوة دروس لكل أبناء الأمة، ومن ذلك:
أولًا: العزة ليست بالكثرة ولا بالقوة المادية:
أطفال غزة يعلموننا أن العزة لا تتحقق بالأسلحة الفتاكة ولا بالجيوش الجرارة، وإنما تتحقق بالإيمان الراسخ، والعزيمة القوية، واليقين في نصر الله، يقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
الاستعلاء بالإيمان هو شعور المؤمن بالتفوّق الروحي والمعنوي، لا بالغرور أو الكبر، بل بالثقة المطلقة بأن الله معه، وأن النصر بيده وحده، هذا الاستعلاء يجعل الإنسان ثابتًا أمام الفتن، صابرًا عند البلاء، مطمئنًا وهو يواجه أقسى الظروف.
عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى، فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى، فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، الهداة لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن النهج، ضالون عن الطريق، ومكانكم في الأرض أعلى، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون.. فإن كنتم مؤمنين حقًا فأنتم الأعلون، وإن كنتم مؤمنين حقًا فلا تهنوا ولا تحزنوا (2).
{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ} أنتم الأعلون، فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم، أنتم الأعلون اعتقادًا وتصورًا للحياة، وأنتم الأعلون ارتباطًا وصلة بالعلي الأعلى، وأنتم الأعلون منهجًا وهدفًا وغاية، وأنتم الأعلون شعورًا وخلقًا وسلوكًا.. ثم.. أنتم الأعلون قوة ومكانًا ونصرة، فمعكم القوة الكبرى: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} فلستم وحدكم، إنكم في صحبة العلي الجبار القادر القهار، وهو لكم نصير حاضر معكم، يدافع عنكم، فما يكون أعداؤكم هؤلاء والله معكم؟ وكل ما تبذلون، وكل ما تفعلون، وكل ما يصيبكم من تضحيات محسوب لكم، لا يضيع منه شيء عليكم: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ}، ولن يقطع منها شيئًا لا يصل إليكم أثره ونتيجته وجزاؤه.
فعلام يهن ويضعف ويدعو إلى السلم، من يقرر الله سبحانه له أنه الأعلى، وأنه معه، وأنه لن يفقد شيئًا من عمله، فهو مكرم منصور مأجور؟ (3).
لا بد للمسلم أن يكون له عزة في كل موقف، وينبغي لكل منا أن يثبت موقف عزة لله عز وجل في موقف يظن فيه أنه مهان، ولا بد أن يستعمل المؤمن دائمًا إيمانه وإسلامه، بل لا بد في كل موقف يستحق الاستعلاء بالإيمان أن تستعلي بإيمانك على هذا الواقع الباطل، وعلى هؤلاء المبطلين الذين يوجهون أكاذيبهم فيستعلون عليك، وهم والله لا يملكون شيئًا منك؛ لا في روحك، ولا في بدنك إلا ما قد قدره الله عز وجل عليك، ولو أراد أحد أن ينزل بك العذاب وينتقم منك أشد الانتقام، فلا يقدر على شيء من ذلك، فإذا كنت تؤمن بهذا إيمانًا جازمًا فسر قُدُمًا على بركة الله عز وجل، واعلم أن الأرض كلها لو اجتمعت على أن يضروك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولو اجتمع العالمون على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، فكل أمر مقدر، وما عليك إلا أن تكون ناصرًا لدينك.
واعلم أن هؤلاء جميعًا كلهم في قبضة الله عز وجل، وتحت سلطانه وسيطرته وقهره وملكوته وجبروته سبحانه وتعالى، فهم مهددون بالعذاب قبل أن يهددوك، ولو كان لهم شيء فبقدر، ولو كان لهم سلطان على شيء منك فإنما سلطانهم على بدنك، ومعنى سلطانهم على بدنك؛ أنهم لا يملكون منك إلا السوط الأول، وما دون ذلك لا تشعر به (4).
في زمن الانكسار والانبطاح والبحث عن النجاة بأي ثمن، يطلّ علينا أطفال غزة بقلوب ثابتة وإيمان راسخ، يعلّمون العالم معنى العزة التي يستمدّها الإنسان من يقينه بالله، لا من مالٍ أو سلاح، هؤلاء الصغار الذين حُرموا من اللعب والفرح، لم يُحرَموا من نور الإيمان الذي يرفعهم فوق الجراح، ويجعلهم أقوى من طغيان المحتل وأعتى آلات القتل.
فهؤلاء الأطفال رغم قلة الزاد والعتاد، وقفوا في وجه أعتى آلة حرب في هذا العصر، فلم يهنوا ولم يستسلموا، بل صبروا وثبتوا حتى صاروا عنوانًا للشموخ.
إنهم يمشون بين الأنقاض برؤوس مرفوعة، لأن الاستعلاء بالإيمان جعلهم أحرارًا رغم الحصار، أعزاء رغم الجراح.
ثانيًا: قيمة التضحية في سبيل الكرامة
أطفال غزة ليسوا مجرد أطفال يعيشون في مدينة محاصرة، بل هم أبطال يعلّمون العالم دروسًا في الصبر والتحدي والتضحية. لقد حُرموا من أبسط حقوق الطفولة: اللعب، الأمان، والراحة، ومع ذلك لم يفقدوا الأمل ولم يتخلّوا عن عزتهم.
التضحية عند أطفال غزة تظهر في صور كثيرة؛ فهم ينامون تحت القصف، ويستيقظون على أصوات الانفجارات، ومع ذلك يتمسكون بحقهم في الحياة والحرية، يضحّون بفرحتهم ليزرعوا الأمل في قلوب أهلهم، ويضحّون بأحلامهم الصغيرة ليبقى وطنهم حيًّا.
إنهم يعلّموننا أن التضحية ليست كلمات تُقال، بل أفعال تُترجم على أرض الواقع. من أجل الكرامة، يتحملون الجوع والخوف، ويقفون في وجه المحتل بصدور عارية لكن بقلوب عامرة بالإيمان.
لقد أدركنا من خلالهم أن التضحية من أجل الدين والوطن هي أسمى غايات الحياة، وأن من يملك الإيمان لا ينهزم مهما اشتد الظلم، هؤلاء الأطفال كتبوا بدموعهم وتضحياتهم أعظم الدروس، وسيبقى صمودهم نورًا يهدي الأحرار في كل زمان.
سيشهد التاريخ أن أطفال غزة ضحوا بكل شيء إلا كرامتهم، لم يبيعوا أوطانهم، ولم يفروا من أرضهم، بل ظلوا أوفياء للقدس والأقصى، كم من طفل ودّع ألعابه ليمسك حجرًا يقاوم به عدوه، وكم من صغير حمل همّ الأمة وهو في عمر الزهور، هذه التضحيات دروس خالدة في أن العزة ثمنها غالٍ، لكنها تستحق.
صور التضحية عند أطفال غزة:
1- التضحية بالطفولة البريئة
أطفال العالم يلعبون ويلهون، لكن أطفال غزة يلعبون بين الركام، ويلهون بأحلام مؤجلة، تسرق منهم الطائرات ضحكاتهم، وتغتال القذائف أحلامهم، ومع ذلك لا يعرفون اليأس، بل يحملون الأمل في قلوبهم.
2- التضحية بالأمان مقابل الثبات على الحق:
كل طفل له حق في بيت آمن وسرير دافئ، لكن أطفال غزة ينامون على الأرض وتحت القصف، لا لذنب اقترفوه إلا أنهم وُلدوا على أرض فلسطين، ورغم ذلك، لم نسمع منهم كلمة استسلام، بل نراهم يرفعون راية الحق، وكأنهم يقولون للعالم: لن نرحل، لن نبيع أرضنا ولو قطعتم أوصالنا.
3- التضحية بالأحلام الصغيرة من أجل الحلم الكبير:
كان حلم الطفل أن يصبح طبيبًا أو مهندسًا، لكن الاحتلال جعل حلمه الوحيد هو البقاء على قيد الحياة، ومع ذلك يتمسك بالأمل في غدٍ أفضل، إنهم يضحّون بأحلامهم الشخصية ليبقى الحلم الأكبر حيًّا: الحرية لفلسطين.
4- التضحية بالراحة من أجل الصمود:
بينما ينعم أطفال العالم بالنوم الهادئ، يظل أطفال غزة متيقظين تحت القصف، يتحملون الألم والجوع والعطش، ومع ذلك يبتسمون لأهلهم ليمنحوهم القوة، هذه ليست مجرد طفولة، إنها بطولة بكل معنى الكلمة.
التضحية ليست درسًا في كتاب، بل هي دمعة تسقط من عين طفلٍ فقد أمه، وابتسامة ترتسم على وجهه رغم الجراح، وأمل يزهر وسط الركام، لقد علّمنا أطفال غزة أن التضحية ليست فقدانًا، بل فوزًا بالعزة، وأن طريق الحرية محفوف بالدماء، لكنه النهاية الحتمية لكل احتلال.
ثالثًا: صناعة الأمل من بين الركام
الأمل هو شعاع النور الذي يبدّد ظلام اليأس، وهو القوة التي تدفع الإنسان إلى الحياة رغم قسوة الظروف، ولكن إذا أردنا أن نرى الأمل في أبهى صوره، فلن نجد مثالًا أصدق من أطفال غزة الذين يصنعون الأمل من بين الركام، وسط البيوت المهدمة، وتحت أصوات القذائف، تنبض قلوبهم بحب الحياة، وتشرق ابتساماتهم لتعلن للعالم أن الإيمان والأمل أقوى من الموت والدمار.
رغم القصف والدمار، تجد أطفال غزة يرسمون على الجدران المهدمة، ويكتبون شعارات الصمود، ويبتسمون للأمل، كأنهم يقولون للعالم: “لن تموت فينا الحياة، ولن ينطفئ فينا النور”.
هذه الروح المتفائلة تعلمنا أن العزة لا تعني القسوة، بل تعني الثقة بالله والتعلق بالمستقبل مهما اشتدت المحن.
الأمل هو الإيمان بأن الغد سيكون أفضل، حتى لو كان الحاضر مظلمًا، إنه الذي يمنح الإنسان طاقة الصبر على البلاء، ويدفعه للعمل من أجل المستقبل، قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5- 6].
هذه الآية تبعث في النفوس اليقين بأن الفرج قريب مهما اشتد الكرب، وهذا ما يعيشه أطفال غزة كل يوم.
كيف يصنع أطفال غزة الأمل من تحت الأنقاض؟
1- الابتسامة رغم الألم:
قد ترى طفلًا فقد والديه، ومع ذلك يبتسم، ليس لأنه لا يشعر بالحزن، بل لأنه يرفض أن ينهزم أمام الألم، تلك الابتسامة هي رسالة إلى العالم: "ما زلنا أقوياء".
2- التمسك بالتعليم رغم الدمار:
بينما تُهدم المدارس، يحمل الطفل كتابه بين الركام، ويجلس ليكتب واجبه على حطام منزله، كأنه يقول: "لن تقتلوا حلمي".
3- اللعب بين الأنقاض:
مشهد الأطفال الذين يصنعون كرة من القماش ويلعبون بها وسط الخراب هو أكبر دليل على أن الأمل يولد حتى في أحلك الظروف.
4- كلماتهم التي تهز القلوب:
طفل يقول: "سأصبح طبيبًا لأعالج الجرحى"، وآخر يقول: "أريد أن أعيد بناء مدرستي"، هذه ليست مجرد أحلام، بل مشاريع حياة تُزرع في أرض الدماء.
رابعًا: الثبات والصمود:
الثبات هو أن تبقى على المبدأ مهما اشتدت المحن، وأن تتمسك بالحق مهما تزايدت الضغوط. وإذا أردنا أن نرى الثبات في صورته البريئة النقية، فلن نجد أصدق من أطفال غزة الذين وقفوا شامخين أمام الموت والدمار، يحملون في قلوبهم يقينًا لا يتزعزع بأن النصر قادم، وأن الأرض لا تُباع، وأن الحق لا يضيع ما دام وراءه مطالب، هؤلاء الصغار لم تثنهم القذائف عن ابتساماتهم، ولم تزعزعهم الأنقاض عن أحلامهم، فقدموا للعالم درسًا خالدًا في الصبر والثبات.
هذا الثبات يجعل الإنسان قويًا في مواجهة الشدائد، ويمنحه طمأنينة لا تتزعزع.
خامسًا: الثقة في وعد الله لهم بالنصر والتمكين:
الثقة في نصر الله هي اليقين بأن الفرج قريب، مهما طال البلاء واشتدت المحن. إنها عقيدة راسخة في قلوب المؤمنين تجعلهم ثابتين أمام التحديات، لا تهزهم العواصف ولا تزلزلهم المصائب، وإذا أردنا أن نرى هذه الثقة في أصدق صورها، فلننظر إلى أطفال غزة، الذين يعيشون في قلب المحنة لكن قلوبهم مطمئنة بوعد الله، يرددون في أعماقهم قول الله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160].
صور الثقة عند أطفال غزة:
1- الابتسامة رغم الدمار:
ترى الطفل الغزّي يضحك رغم أنه فقد بيته وأهله، لأن قلبه يوقن أن الله معهم، وأن النصر آتٍ لا محالة.
2- الكلمات التي تهز الجبال:
طفل يقول أمام الكاميرا: "سننتصر لأن الله معنا" هذه ليست كلمات عابرة، بل عقيدة إيمانية راسخة.
3- الصمود تحت القصف:
عندما ينام الطفل تحت أصوات القنابل ولا يهرب من وطنه، فهذا يعني أن في قلبه يقينًا بأن الله لن يضيعهم.
4- التمسك بالصلاة والدعاء:
رغم الجوع والخوف، نرى الأطفال يرفعون أيديهم إلى السماء، يثقون أن الله يسمعهم وسيستجيب.
الثقة في نصر الله ليست شعارات تُرفع، بل قوة إيمانية تحيي القلوب وتمنح الصبر والثبات، أطفال غزة علّمونا أن النصر يبدأ من اليقين، وأن أمةً يثق أطفالها في ربهم لا تُهزم أبدًا، سيأتي اليوم الذي تتحقق فيه وعود الله، ويُبدل الحزن فرحًا، والدموع ابتسامات، لأن وعد الله حق، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
سادسًا: حسن الظن بالله:
حسن الظن بالله هو أن يعتقد المؤمن أن ما يقدّره الله له هو الخير، حتى لو ظهر في صورة البلاء، وأن يتوقع من الله الفضل والرحمة دائمًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني» (5).
فمن ظن بالله خيرًا وجده عنده، ومن ظن به غير ذلك كان له ما ظن.
حسن الظن بالله هو من أعظم أبواب الإيمان، وأقوى أسباب الثبات عند الشدائد، وهو أن يثق العبد بربه ثقةً مطلقة في رحمته وعدله ونصره، مهما اشتد البلاء وتكاثرت المحن، وإذا أردنا أن نرى هذا الخلق في أجمل صوره، فلننظر إلى أطفال غزة، الذين يعيشون وسط الدمار، وتحت القصف، وفقدوا الأهل والأحباب، ومع ذلك تراهم يبتسمون ويرددون: الله معنا، والله لن يخذلنا، هذه الكلمات ليست مجرد تعزية للنفس، بل هي يقين عظيم بأن رحمة الله أوسع من المحنة، وأن وعده بالنصر حق.
حسن الظن بالله ليس شعارًا نرفعه وقت الراحة، بل هو سلوك الإيمان وقت الشدة، وأطفال غزة قدّموا لنا النموذج الأروع في هذا الخلق، فبرغم المحن والمصائب، قلوبهم معلّقة بالله، وألسنتهم تلهج بالدعاء، وعقولهم مليئة بالأمل، لقد علّمونا أن حسن الظن بالله مفتاح الفرج، وأن من وثق بربه لم يخذله الله أبدًا، قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
***
-------------
(1) جامع البيان (22/ 185).
(2) في ظلال القرآن (1/ 480).
(3) في ظلال القرآن (6/ 3302).
(4) شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة (53/ 4)، بترقيم الشاملة آليًا.
(5) أخرجه مسلم (2743).
