logo

صلة الأرحام


بتاريخ : الثلاثاء ، 23 جمادى الأول ، 1440 الموافق 29 يناير 2019
بقلم : تيار الاصلاح
صلة الأرحام

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر»(1).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يبسط الله في رزقه، وينسأ له في عمره فليصل ذا قرابته»(2).

صلة الرحم مبرة الأهل والأقارب، والإحسان إليهم، وضده القطع، قوله: «وأن ينسأ له في أثره» الأثر هنا الأجل؛ سمي الأجل أثرًا لأنه تابع للحياة وسابقها، ومعنى ينسأ: يؤخر، والمراد به تأخير الأجل، وهو على وجهين: أحدهما أن يبارك الله في عمره، فكأنما قد زاد فيه، والثاني أن يزيده في عمره زيادة حقيقية، والله يفعل ما يشاء(3).

قال زهير: «والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر، وأصله من أثر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة، فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر»(4).

قال ابن التين: «ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، والجمع بينهما من وجهين:

أحدهما: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر؛ بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم؛ فأعطاه الله ليلة القدر، وحاصله أن صلة الرحم تكون سببًا للتوفيق للطاعة، والصيانة عن المعصية؛ فيبقى بعده الذكر الجميل؛ فكأنه لم يمت، ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح.

ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلًا: إن عمر فلان مائة مثلًا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع؛ فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه ألبتة، ويقال له (القضاء المبرم)، ويقال للأول (القضاء المعلق).

والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب، فإن الأثر ما يتبع الشيء، فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور.

وقال الطيبي: «الوجه الأول أظهر»، وإليه يشير كلام صاحب الفائق، قال: «ويجوز أن يكون المعنى أن الله يبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلًا، فلا يضمحل سريعًا كما يضمحل أثر قاطع الرحم».

وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله، وقال غيره في أعم من ذلك، وفي وجود البركة في رزقه وعلمه ونحو ذلك(5).

إذا تقرر هذا فالعمر محدود ومعلوم، لا يتقدم ولا يتأخر إلا إذا وصل الرجل رحمه مد الله في عمره وزاده، وهكذا حكم سائر الأمور التي وردت الأدلة بأنها تزيد في العمر أو تنقص منه لأنها خاصة، والخاص مقدم على العام، والمقام يحتمل البسط، وفي هذا كفاية، والله أعلم(6).

وأحسن من هذا أن تفسر مد الأجل بالبركة في العمر؛ فيهبه الله قوة في الجسم، ورجاحة في العقل، ومضاء في العزيمة، فتكون حياته حافلة بالأعمال الطيبة.

فهي حياة طويلة، وإن كانت في الحساب قصيرة؛ وذلك لأن المقياس الحقيقي للحياة المباركة ليس الشهور والأعوام، ولكنه جلائل الأعمال، وكثرة الآثار، فرب شخص عمّر طويلًا وكأن لم يكن، ورب آخر عاش قليلًا وكأنه لبث فينا قرونًا؛ لكثرة ما عمل وعظم ما خلَّف.

وإنما رتبت البركة في العمر على صلة الرحم؛ لأن المرء إذا وصل أقرباءَه أجلّوه واحترموه؛ فامتلأت نفسه سرورًا، وشعر بمكانة عالية من أجل صنيعه الذي صنع، والسرور منشّط كما أن الحزن مثبّط، والشعور بالعظمة عن أعمال مجيدة داع للإكثار منها، وبذل الجهد في سبيلها(7).

{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قال البغوي: «الأكثرون على أن المراد به صلة الرحم»(8).

وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تبارك وتعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته»(9).

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله»(10).

وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن، فقال له: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى يا رب، قال: فذاك»، قال أبو هريرة: «اقرءوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]»(11).

قال القاضي عياض: «الرحم التي توصل وتقطع وتبر إنما هي معنى من المعاني، ليست بجسم؛ وإنما هي قرابة ونسب تجمعه رحم والدة، ويتصل بعضه ببعض، فسمي ذلك الاتصال رحمًا، والمعنى لا يتأتى منه القيام ولا الكلام؛ فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة، على عادة العرب في استعمال ذلك، والمراد تعظيم شأنها، وفضيلة واصليها، وعظيم إثم قاطعيها بعقوقهم؛ لهذا سمي العقوق قطعًا، والعق الشق؛ كأنه قطع ذلك السبب المتصل»، قال: «ويجوز أن يكون المراد قام ملك من الملائكة وتعلق بالعرش، وتكلم على لسانها بهذا بأمر الله تعالى»، هذا كلام القاضي.

والعائذ: المستعيذ، وهو المعتصم بالشيء الملتجئ إليه المستجير به، قال العلماء: وحقيقة الصلة العطف والرحمة، فصلة الله سبحانه وتعالى عبارة عن لطفه بهم، ورحمته إياهم، وعطفه بإحسانه ونعمه، أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى، وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته(12).

«من وصلني وصله الله»؛ أي: بحسن رعايته، وبجميل حمايته، «ومن قطعني قطعه الله»؛ أي: عن عين عنايته، ومن كمال رحمته ورأفته، فالوصل كناية عن الإقبال إليه والقبول منه، والقطع عبارة عن الغضب عليه والإعراض عنه(13).

قال القرطبي: «الرحم التي توصل عامة وخاصة؛ فالعامة رحم الدين، ويجب مواصلتها بالود والتناصح والعدل والإنصاف، والقيام بالحق الواجب والمندوب، والخاصة تزيد بالنفقة على القريب، وتفقد حاله، والتغافل عن زلته، وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك، ويقدم الأقرب فالأقرب».

وقال ابن أبي جمرة: «صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحوائج، ودفع الضرر، وطلاقة الوجه، والدعاء، والمعنى الجامع إيصاله ما أمكن من خير، ودفع ما أمكن من شر، بقدر الطاقة، وهذا كله إذا كان أهل لرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارًا أو فجارًا فمقاطعتهم في الله صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم وإعلامهم بأن إصرارهم سبب مقاطعتهم، وحينئذ تكون صلتهم الدعاء لهم بظهر الغيب بالاستقامة».

وقال الذهبي: «يدخل فيه من قطعهم بالجفاء والإهمال والحمق، ومن وصلهم بماله ووده وبشاشته وزيارته فهو واصل، ومن فعل بعض ذلك وترك بعضًا ففيه قسط من الصلة والقطيعة، والناس في ذلك متفاوتون، وقد يعرض الشخص عن رحمه لفسقهم وعتوهم وعنادهم»(14).

هناك ثلاث درجات:

1- واصل؛ وهو من يحسن إلى الأقارب.

2- قاطع؛ وهو من يسيء إليهم.

3- لا واصل ولا قاطع، وهو من لا يحسن ولا يسيء، وربما يسمى المكافئ؛ وهو الذي لا يحسن إلى أقاربه إلا إذا أحسنوا إليه، ولكنه لا يصل إلى درجة الإساءة إليهم.

وقوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} لما تقدم أنه سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أمر من وسع عليه الرزق أن يوصل إلى الفقير كفايته ليمتحن شكر الغني، والخطاب للنبي عليه السلام، والمراد هو وأمته؛ لأنه قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ} [الروم:38].

وأمر بإيتاء ذي القربى لقرب رحمه، وخير الصدقة ما كان على القريب، وفيها صلة الرحم، وقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على الأقارب على عتق الرقاب، فقال لميمونة وقد أعتقت وليدة: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك»(15).

قال مجاهد وقتادة: «صلة الرحم فرض من الله عز وجل»، حتى قال مجاهد: «لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة»(16).

وعن ابن عباس في قول الله: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1]، يقول: «اتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الله في الأرحام فصلوها»(17).

وعن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم إذا تواصلوا، وما من أهل بيت يتواصلون فيحتاجون»(18).

فإن صلة الرحم من أهم أسباب هناء المعيشة، وهناء المعيشة من أهم أسباب طول العمر(19).

وصية القرآن بصلة الأرحام:

أمر الله بالإحسان إلى ذوي القربى، وهم الأرحام الذين يجب وصلهم، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83].

وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].

قال الرازي: «واعلم أن ذوي القربى هم الذين يقربون منه بولادة الأبوين أو بولادة الجدين، فلا وجه لقصر ذلك على ذوي الرحم المحرم على ما حكي عن قوم؛ لأن المحرمية حكم شرعي، أما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب، وإن كان من يختص بذلك يتفاضل ويتفاوت في القرب والبعد»(20).

وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215].

وقال تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال:75].

قال المراغي: «إن القريب ذا الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره، ومقدم عليه في جميع الولايات المتعلقة به؛ كولاية النكاح، وصلاة الجنازة وغيرها، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب أولى، كما قال تعالى: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتَامى وَالْمَساكِينِ}(21).

وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36].

وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].

كما أنه سبحانه عظم قدر الأرحام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].

وقال سبحانه وتعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد:23].

وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25].

يقول الرازي: «والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة، فلو لم يحصل شيء من ذلك لكان ذلك أشق على القلب وأبلغ في الإيمام والإيحاش والضرورة، وكلما كان أقوى كان دفعه أوجب، فلهذا وجبت رعاية حقوق الأقارب»(22).

عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أخبرني بعمل يدخلني الجنة»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم»(23).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: «أوصاني خليلي ألا تأخذني في الله لومةُ لائم، وأوصاني بصلة الرحم وإن أدبرت»(24).

وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قِبَلهُ»، وقيل: «قد قدم رسول لله صلى الله عليه وسلم، قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ثلاثًا، فجئت في الناس لأنظُرَ، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعتهُ تكلم به أن قال: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»(25).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»(26).

وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة قاطع»(27)؛ أي قاطع رحم.

الأرحام الذين تجب صلتهم:

اختلف العلماء في من الأرحام الذين تجب صلتهم، فقيل هم المحارم الذين تكون بينهم قرابة، بحيث لو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى لم يحل له نكاح الآخر، وعلى هذا القول فالأرحام هم الوالدان ووالديهم وإن علو، والأولاد وأولادهم وإن نزلوا، والإخوة وأولادهم والأخوات وأولادهن، والأعمام والعمات والأخوال والخالات.

ويخرج، على هذا القول، أولاد الأعمام وأولاد العمات وأولاد الأخوال وأولاد الخالات فليسوا من الأرحام.

واستدل أصحاب هذا القول بأن الشارع حرم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وقال صلى الله عليه وسلم في إحدى روايات الحديث: «فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم»(28).

ولو كان بنت العم أو العمة أو بنت الخال أو الخالة، لو كان هؤلاء من الأرحام ما وافق الشرع على الجمع بين المرأة وابنة عمتها أو ابنة خالتها(29).

القول الثاني: الأرحام هم القرابة الذين يتوارثون، وعلى هذا يخرج الأخوال والخالات، أي أن الأخوال والخالات على هذا القول لا تجب صلتهم، ولا يحرم قطعهم(30)، وهذا القول غير صحيح، وكيف يكون صحيحًا والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخالة بمنزلة الأم»(31).

القول الثالث: أن الأرحام عام في كل ما يشمله الرحم، فكل قريب لك هم من الأرحام الذين تجب صلتهم.

وعلى هذا القول؛ فأولاد العم وأولاد العمة، وأولاد الخال وأولاد الخالة وأولادهم، كل هؤلاء يدخلون تحت مسمى الأرحام.

وقد قيل: إن القرابة إلى أربعة آباء؛ فيشمل الأولاد وأولاد الأب وأولاد الجد وأولاد جد الأب(32).

يقول الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: «الأرحام هم الأقارب من جهة الأمِّ ومن جهة الأب؛ فالآباء والأمهات والأجداد والجدات أرحام، والأولاد وأولادهم من ذكور وإناث وأولاد البنات كلهم أرحام، وهكذا الإخوة والأخوات وأولادهم أرحام، وهكذا الأعمام والعمات والأخوال والخالات وأولادهم أرحام، داخلون كلهم في قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75](33).

بم تكون الصلة:

تختلف الصلة بحسب حاجة الموصول وحسب قدرة الواصل، فإذا كان الموصول محتاجًا لشيء ما وأنت تقدر عليه فإنك تصله بهذا الشيء، كما تختلف الصلة بحسب قرب الرحم منك وبعده عنك، فما تصل به الخال قد يختلف عما تصل به أبناء عمك.

وعمومًا الصلة يمكن أن تكون بما يلي:

1- الزيارة: بأن تذهب إليهم في أماكنهم.

2- تفقدهم والسؤال عنهم.

3- إعطاؤهم من مالك.

4- مشاركتهم في أفراحهم بتهنئتهم، ومواساتهم في أحزانهم بتعزيتهم.

5- عيادة مرضاهم، واتباع جنائزهم، وإجابة دعوتهم.

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: «صلة الرحم ليس فيها حدٌّ؛ لا في المدة، ولا في الكيفية، ولا بالذي يوصل به؛ مال أو كسوة أو غيره، فجاءت النصوص مطلقة صلة الرحم، فما عدَّه الناس صلة فهو صلة، وما عدوه قطيعة فهو قطيعة؛ وبهذا تختلف الأحوال، قد يكون الناس في حال فَقر والأقارب يحتاجون كثيرًا؛ فهنا لا بد أن أصِلَهم بالمال، وقد يكون بعض الأقارب مريضًا يحتاج إلى عيادة فلا بد أن أعوده، فالمهم أن صِلة الأرحام موكولة إلى عرف الناس، وليس لها حد»(34).

قال القاضي عياض رحمه الله: «ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة»، قال: «والأحاديث في الباب تشهد لهذا، ولكن الصلة درجات، بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة، وصلتها بالكلام؛ ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة؛ فمنها واجب، ومنها مستحب، لو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعًا، ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له لا يسمى واصلًا»(35).

أسباب قطع الرحم:

1- الجهل بفضل صلة الرحم وعاقبة قطيعتها.

2- ضعف الدين؛ وبالتالي يزهد بالثواب على صلة الرحم، ولا يأبه للعقاب على قطيعتها.

3- الكِبر: بأن يكون غنيًا، أو آتاه الله منصبًا رفيعًا أو جاهًا عريضًا؛ فيستنكف أن يبادر هو بصلة رحمه.

4- تأخير قسمة الميراث: مما يسبب العداوة بينهم، وربما اتهم كل واحد الآخر وأنه يريد أن يأكل من الميراث، وهكذا.

5- الانشغال بالدنيا؛ مما يجعل الإنسان لا يجد وقتًا للوصل.

6- بعد المسافة بين الأرحام؛ مما يولد التكاسل عند الزيارة.

7- عدم الاحترام المتبادل بين أفراد العائلة، وربما أدى ذلك إلى التقاطع، فالذي يسخر منه ويستهزأ به عند اجتماع العائلة لن يأتي إلى هذا الاجتماع مرة أخرى.

8- قد يكون السبب من بعض الزوجات؛ إذ إن هناك من الزوجات من تُنَفر زوجها من أقاربه.

الأمور المعينة على الصلة:

1- معرفة ما أعده الله للواصلين من ثواب، وما توعد به القاطعين من عقاب.

2- مقابلة الإساءة منهم بالعفو والإحسان، وقد سبق الحديث في ذلك.

3- قبول اعتذارهم عن الخطأ الذي وقعوا فيه إذا اعتذروا.

4- التواضع ولين الجانب.

5- التغاضي والتغافل: فلا يتوقف عند كل زلة أو عند كل موقف، ويبحث لهم عن المعاذير، ويحسن الظن فيهم.

6- ترك المنة عليهم، والبعد عن مطالبتهم بالمثل.

7- فهم نفسياتهم، وإنزالهم منازلهم.

8- تعجيل قسمة الميراث.

9- اصطحاب أولادك معك لزيارة الأقارب لتعويدهم على الصلة ولتعريفهم بأقاربهم.

10- حفظ الأنساب والتعرف على الأقارب(36).

الواصل الحقيقي:

الذي يصل من أرحامه من يصله ويقطع من يقطع صلته من أقاربه ليس هو الواصل الحقيقي؛ بل الواصل الحقيقي هو من يصل رحمه، سواء وصلوه أم قطعوه، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَتْ رحمُه وصلها»(37).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «ليس الوصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الوصل أن تصل من قطعك»(38).

***

_______________

(1) أخرجه الترمذي (1979).

(2) أخرجه الطبراني في الأوسط (5626).

(3) لباب التأويل في معاني التنزيل (3/ 15).

(4) فتح الباري، لابن حجر (10/ 416).

(5) المصدر السابق.

(6) فتح البيان في مقاصد القرآن (14/ 332).

(7) الأدب النبوي، ص115.

(8) التفسير المظهري (5/ 231).

(9) أخرجه ابن حبان (443).

(10) أخرجه مسلم (2555).

(11) أخرجه البخاري (4830).

(12) شرح النووي على مسلم (16/ 112).

(13) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 3086).

(14) فيض القدير (4/ 53).

(15) أخرجه البخاري (2592).

(16) تفسير القرطبي (14/ 35).

(17) تفسير الطبري (6/ 347).

(18) أخرجه ابن حبان (440).

(19) تفسير المنار (8/ 363).

(20) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 217).

(21) تفسير المراغي (10/ 45).

(22) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (3/ 587).

(23) أخرجه البخاري (1396)، ومسلم (14).

(24) أخرجه الطبراني في الصغير (758).

(25) أخرجه الترمذي (2485).

(26) أخرجه البخاري (6138)، ومسلم (47).

(27) أخرجه البخاري (5984).

(28) أخرجه الطبراني في الكبير (11931).

(29) شرح النووي على مسلم (16/ 113).

(30) تفسير القرطبي (16/ 248).

(31) أخرجه البخاري (2699).

(32) المغني (8/ 529).

(33) فتاوى نور على الدرب، ص2063.

(34) لقاء الباب المفتوح (73)، السؤال (26)؛ باختصار وتصرُّف يسيرين.

(35) شرح النووي على مسلم (16/ 113).

(36) معنى الرحم وصلة الرحم، شبكة مشكاة الإسلامية.

(37) أخرجه البخاري (5991).

(38) أخرجه البيهقي في الشعب (7586).