من وصايا الآباء للأبناء
قال ربنا جل ثناؤه: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:12]. قال غير واحد: معنى قوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} أي: علموهم وأدبوهم.
ورُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما نحل والد ولدًا من نحل أفضل من أدب حسن» (1).
إن وصايا الآباء للأبناء عبادة أمر الله بها ضمن جماعة المؤمنين فإذا كنا مأمورين بإيصاء الآخرين فإن أقربهم حقًّا عليهم وآكدهم في هذه الحقوق الأهل والأبناء.
قال تبارك وتعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: ١– ٣].
ونقلت لنا كتب السنة شيئًا من وصايا المصطفى لأبنائه، فمن ذلك وصيته لابنته؛ عن أسامة بن زيد، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه، وتخبره أن صبيًا لها، أو ابنًا لها في الموت، فقال للرسول: «ارجع إليها، فأخبرها: أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب» (2).
عن علي بن أبي طالب، أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة، فقال: «ألا تصلون؟» فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر، يضرب فخذه، ويقول: {وَكَانَ الإنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]» (3)، فأوصاها مع زوجها وهي متزوجة وعند غيره ولم ينس حقها في النصيحة والاهتمام.
وقد أوصى ابن عمه الغلام بوصايا نفيسة ودرر رائعة، حفظها وبلغها كأروع ما تكون الوصية والتوجيه، وحسن رعاية الصغار وتربيتهم؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: «يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعَت الأقلام وجفت الصحف» (4).
فما أحوجنا لإعادة صياغة التناصح والوصايا بين الآباء والأبناء (5).
عن عثمان الحاطبي قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول لرجل: أدب ابنك؛ فإنك مسئول عن ولدك ماذا أدبته وماذا علمته؟، وإنه مسئول عن برك وطواعيته لك (6).
قال حكيم لابنه: يا بني، إني مُوصِيك بوصية، فإن لم تحفظ وصيتي عني لم تحفظها عن غيري، اتقِ الله ما استطعت، وإن قدرت أن تكون اليوم خيرًا منك أمسِ، وغدًا خيرًا منك اليوم؛ فافعل، وإياك والطمعَ؛ فإنه فقر حاضر، وعليك باليأس؛ فإنك لن تيأس من شيء قط إلا أغناك الله عنه، وإياك وما يُعتذَر منه؛ فإنك لن تعتذر من خير أبدًا، وإذا عثر عاثر فاحمد الله ألا تكون هو.
يا بني، خذ الخير من أهله، ودع الشر لأهله، وإذا قمت إلى صلاتك فَصَلِّ صلاةَ مُوَدِّعٍ وأنت ترى ألا تصلي بعدها (7).
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن نبيَّ الله نوحًا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني قاصٌ عليك الوصية: آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين: آمرك بلا إله إلا الله؛ فإن السماوات السبع، والأرَضين السبع، لو وُضعَتْ في كفة، ووُضِعَتْ لا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع، والأرَضين السبع، كُنَّ حَلْقة مبهمة، فَصَمَتْهُنَّ لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده؛ فإنها صلاة كل شيء وبها يُرزق الخلقُ، وأنهاك عن الشرك، والكبر» (8).
عن شهر بن حوشب، قال: بلغني أن لقمان الحكيم كان يقول لابنه: يا بني، لا تعلم العلم لتباهي به العلماء، أو لتماري به السفهاء، أو ترائي به في المجالس، ولا تترك العلم زهدًا فيه، ورغبة في الجهالة، يا بني اختر المجالس على عينك، وإذا رأيت قوما يذكرون الله، فاجلس معهم، فإنك إن تكن عالمًا، ينفعك علمك، وإن تكن جاهلًا، يعلموك، ولعل الله أن يطلع عليهم برحمته، فيصيبك بها معهم، وإذا رأيت قومًا، لا يذكرون الله، فلا تجلس معهم، فإنك إن تكن عالمًا، لا ينفعك علمك، وإن تكن جاهلًا، زادوك غيًا، ولعل الله أن يطلع عليهم بعذاب فيصيبك معهم (9).
كتب عمرُ بنُ الخطابِ إلى ابنه عبد الله رضي الله عنهما فى غَيْبَةٍ غابها: أما بعد: فإنه مَن اتقى الله وَقَاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن شكره زاده، ومن أقرضه جَزَاه، فاجعل التقوى جِلاءَ بصرك، وعِمَادَ ظهرك، فإنه لا عمل لمن لا نِيَّة له، ولا أَجْرَ لمن لا حسنة له، ولا خير لمن لا خشية له، ولا جديد لمن لا خَلَقَ له (10).
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابنه الحسن رضي الله عنه: يا بني! إن استطعت ألا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، ولا تكن عَبْدَ غيرِك وقد جعلك الله حرًّا؛ فإن اليسير من الله سبحانه وتعالى أكرم وأعظم من الكثير من غيره، وإن كان كلٌّ منه كثيرًا (11).
قال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما لابنه: يا بني! إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرصَ منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثًا وإن طال حتى يمسك (12).
عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر قال: أوصاني أبي، فقال: لا تصحبن خمسة، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم في طريق، قلت: جُعِلتُ فداك يا أبت! مَن هؤلاء الخمسة؟
قال: لا تصحبن فاسقًا؛ فإنه بائعك بأكلة فما دونها، قلت: يا أبت! وما دونها؟! قال: يطمع فيها ثم لا ينالها.
قلت: يا أبت! ومَن الثاني؟ قال: لا تصحبن البخيل؛ فإنه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه.
قلت: يا أبت! ومن الثالث؟ قال: لا تصحبن كذابًا؛ فإنه بمنزلة السراب، يبعد منك القريب، ويقرب منك البعيد.
قلت: يا أبت! ومَن الرابع؟ قال: لا تصحبن أحمقَ؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك.
قلت: يا أبت! ومَن الخامس؟ قال: لا تصحبن قاطع رحم؛ فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضعَ (13).
وقال محمد الباقر لابنه جعفر: يا بني! إن الله خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة:
- خبأ رضاه في طاعته، فلا تَحْقِرَنَّ شيئًا من الطاعة؛ فلعل رضاه فيه.
- وخبأ سخطه في معصيته؛ فلا تحقرن شيئًا من المعاصي؛ فلعل سخطه فيه.
- وخبأ أولياءه في خلقه، فلا تحقرن أحدًا من خلقه؛ فلعله في ذلك (14).
وعنه أيضًا أنه كان يوصي ابنه موسى بهذه الوصية: يا بُنيَّ! اقبل وصيتي، واحفظ مقالتي، فإنك إن حفظتها تعش سعيدًا، وتمت حميدًا.
يا بني! من رضي بما قُسم له استغنى، ومن مد عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرًا، ومَن لم يرضَ بما قسمه الله له اتهم الله في قضائه، ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره، ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه.
يا بني! مَن كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومَن سَلَّ سيف البغي قُتل به، ومن احتفر لأخيه بئرًا سقط فيها. ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم.
يا بني! إياك أن تُزري بالرجال فيزرَى بك، وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك.
يا بني! قل الحق لك أو عليك؛ تستشان من بين أقرانك.
يا بني! كن لكتاب الله تاليًا، وللسلام فاشيًا، وبالمعروف آمرًا، وعن المنكر ناهيًا، ولمن قطعك واصلًا، ولمن سكت عنك مبتدئًا، ولمن سألك معطيًا.
وإياك والنميمةَ؛ فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال، وإياك والتعرض لعيوب الناس؛ فمنزلة المتعرض لعيوب الناس بمنزلة الهدف.
يا بني! إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه، فإن للجود معادنَ، وللمعادن أصولاً، وللأصول فروعًا، وللفروع ثمرًا، ولا يطيب ثمر إلا بأصول، ولا أصل ثابت إلا معدن طيب.
يا بني! إن زرت فزر الأخيار، ولا تزر الفجار؛ فإنهم صخرة لا يتفجر ماؤها، وشجرة لا يخضر ورقها، وأرض لا يظهر عشبها (15).
ومن وصية عروة بن الزبير رحمه الله لبنيه: يا بَنِيَّ! إن أزهد الناس في عالم أهله، فهلموا فاطلبوا العلم؛ فإن تكونوا صغار قوم لا يُحتاج إليكم، فعسى أن تكونوا كبار قوم آخرين لا يُستغنى عنكم.
واسَوْءَتا! ماذا أقبح من شيخ جاهل؟!.
يا بَنِيَّ! لا يُهْدِيَنَّ أحدكم إلى ربه ما يستحي أن يُهديه إلى حريمه؛ فإن الله أكرم الكرماء، وأحق من اختير له.
يا بني! إذا رأيتم خَلَّةً رائعة من شر من رجل فاحذروه، وإن كان عند الناس رَجُلَ صدق؛ فإن لها عنده أخوات.
وإذا رأيتم خلة رائعة من خير من رجل فلا تقطعوا إنَاتَكم منه، وإن كان عند الناس رَجُلَ سوءٍ؛ فإن لها عنده أخوات.
يا بني! الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم (16).
ومن وصية أحدهم لابنه:
إن الدنيا تجربة، والعاقل فيها من كثرت تجاربه، والعمر قليل، ولا يسع لكل تجربة، ومن نكد الدنيا أنه إذا مرت عليك التجارب، واستحكم عقلك، كنت قد كبرت وشخت، فلا تنفع كنفعها في وقت الصبا، ومن شقاء الإنسان أنه لا يسمع من جرب، حتى يقع في محذوره فيندم، فهو غارق في الشقاء إلا قليل، وإني لأرجو أن تكون من هذا القليل، يا أحب إلي من نفسي.
يا بني، الإنسان ضعيف بذاته، لا يكاد يقوم بعمل إلا بأسباب ليست من ذاته، ولا يأمن بعد القيام به أن ينتقض، فتقوَّ بقوي في كل حياتك، فمن الناس من يتقوَّى بصاحب منصب أو مال، وقد جربتُ هذا، فلم أَرَهُ يفيد، وضَرَرُهُ يغلب نفعه، والأموال تنفع أحيانًا، ولكنها قد تذهب في جائحة تنزل بك، ولا تدفع عنك بلاء عظيمًا أحيانًا، فلا ينبغي أن يكون توكُّلُكَ عليها، وتكون هي ما تحسن فحسب، ولا بد أن تعرف ضعف الناس لكيلا تتعلق بهم، وتأمل منهم ما هو فوق وُسْعِهم، وإذا عرفتَ أنهم جُبلوا على الطمع والحرص وإيثار أنفسهم، فلا يتعلق قلبك بهم.
فإن عرفت ضعفك وضعف الخلق، فلا بد لك من قويٍّ غيرهم تتقوَّى به، فاعرفِ اللهَ والزمه، وارتبط بالله ارتباطًا وثيقًا، تكن أقوى الناس، ليس كعلاقة مألوفة فحسب، أو في ظروف معينة كانقطاع من دونه، بل بكل الأوقات في السراء قبل الضراء، ومحل كل ذلك القلب، احرص على قلبك.
أفضل ما أتركه لك ليس مالًا ترِثه، ولا اسمًا ذا سمعة حسنة، ولكنه ارتباطك بالله، هذه العلاقة التي تخوض بها حياتك كلها، تحارب بها كل أوجه الدنيا السوداء.
أما المال، فهذا الذي قُتل لأجله الكثير وكفر لأجله كثير، المال قوة عظيمة، فإن وقعت بيد غير صالحة أضرَّها غاية الضرر، فأصلِحْ قلبك أولًا ثم تملك ما شئت، فيكن المال حينئذٍ كما قالوا في يدك لا في قلبك، وهكذا وردت الخيرية: «نعم المال الصالح عند الرجل الصالح».
المال غايته أن تُقيمَ حياتك به، ويُعينك على العبادة، وأن تستغنيَ به عن الناس وتساعدهم، فالمال ضرورة لتبقى، وجُنَّةٌ عن الحاجة للناس، ويدٌ لك عليهم، وعاصِمٌ عن كثير من الزَّلَلِ، فاستكثر منه ما استطعت، واستعِنْ على ذلك بالصدقة، فتخيَّر من مالك أطيبه وأنفقه.
والمال كذلك شره كثير، فإن رزقته فاحذره، وأنا لم أغتنِ قط، ولا أعلم عن شرور الغِنى وفساده في القلوب، ولا أعلم إن كان يصلحني الكثير أم يفسدني، ولكنَّ كثيرًا من حقائق الأمور تكشَّفت لي في غياب المال، وكثيرًا من رِقَّةِ القلب بانت عند فقري وحاجتي، كل علاقتي بالله وعلاقتي بالناس وفهمهم كانت في فقر وحاجة، وأظن أن المال لو أتاني من قبلُ، لَما تجاوزت مرحلة الفجور، فلله الحكمة البالغة في ذلك، وهو الذي قسم، ونحن علينا العمل والاجتهاد، وقلوبنا مطمئنة، تعلم يقينًا أن الواهب الله، ولذلك سلِّم أمرك لله، واسأله خير الغِنى، واستعِذْ به من شره.
وأكملُ رجال المال في نظري من إن أصابته جائحة، فأذهبت ماله، اتَّجر واغتنى، إن ذهب لمكان أو كان في ظرف مختلف، اتَّجر واغتنى، لا يُوقِفه عن الاتِّجار بيئة معينة، أو أشخاص يعرفهم.
لا تدِنْ أحدًا بمالٍ إلا وأنت مستغنٍ عنه؛ فإن الناس بين جاحد وضعيف، جاحد وخائن، وهذا الأكثر، وضعيف عاجز عن السداد، وهذا الأقل، فإنك إن منحته مالًا تحتاجه ولم يسدد، كان فيه أذيَّتُك، وتقطعت الوصال بينكما، وإذا أردت استبقاء مودة أحد، فلا تعامله بمالٍ قط، ولا تستدِنْ ما استطعت، فإن الدَّيْنَ مذلة، فإن فعلت، فالزم الأبعدَ عنك، والأغنى مالًا.
يا بني، إنه مرت عليَّ سنون، كنتُ فيها غافلًا عن الله، ولو قبضني فيها، لكنتُ من أصحاب النار، فقد رحمني الله بأن قضى عليَّ بعض المصائب التي أيقظتني، فهذه منحٌ لا محنٌ، فَسَلِ الله العافيةَ، فإن أتاك ما تكره فهو خير لك، فلا تتسخط، بل ارضَ بما قسمه الله لك، فإنك لا تعلم ما الخير الموجود فيه، فالشر ليس إلى الله، فمن رضيَ فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
تقبَّل الناس بكل اختلافهم، اعلم أن الاختلاف يسري على الجميع، في العقل والوعي والعلم وغير ذلك، فهذا يعني أن تتقبل نفسك، ولا تُحمِّلْها فوق طاقتها، وتتقبل أصدقاءك وزوجتك وأولادك، تتقبل من تعمل معه أو يعمل عندك، تكن أكرم الناس وأعلاهم، أن تعرف أن وعيهم بالأشياء يختلف، وعلمهم ومدى تقبلهم للعلوم يختلف، تعلم أن لو سكبت العلم في عقول مائة منهم، ما قبلوه كلهم، ولو قبلوه كلهم، ما تساوَوا في إدراكهم العلم والفقه به ثم العمل به، ثم تطبيقه على واقعهم، وكثير من الناس يحسن الحفظ والفهم والتنظير، أما في واقعه، فلا يستطيع التطبيق والممارسة، وهو في ذلك إما جاهل بما يفعل، أو عالم ولكن لا عزيمة لديه، ومع ذلك إما أنه يتعذب أو لا يبالي.
احرص على تجارِب الذين من قبلك، والقواعد التي وضعها الناس، ولا تتمسك بها طوال عمرك، بل هي تضعك على بداية الطريق، ثم لا بد أن تبدع وتنطلق، وسماع التجارب لا يقتصر على كبار السن، بل حتى من الأطفال، وممن هم دونك أو من المجانين، فتعلم الإنصات لكل شيء.
تعلم العربية، اقرأ في الأشعار والنثر، هؤلاء أسلافك، وأنت امتداد لهم، هؤلاء عباقرة وعمالقة ربما أساء بعضهم تصويرهم، أو رموهم بالسوء وهم أكبر من ذلك، ستجد أنك أبحرت في عقول عظيمة، وأخذت حِكَمًا كبيرة لو مكثت عمرك كله لم تأتِ بمثلها، فلا يفُتْكَ هذا الكنز الذي انبهر به عَجَمُ الناس قبل عربهم، من ذاقه لم يَمَلَّ منه.
كن مع قرابتك كالجسد الواحد، كونوا يدًا واحدة تدفعون عن بعضكم الألم، وتغسلون الذل وتتشاركون الهمَّ، لا تكره منهم مخالفًا لرأيك، بل ألِنْ جانبك له بكل حال، هم سندك في هذه الدنيا وعزوتُك وأمانك، إن أصاب أحدهم خيرًا، فَخَرْتَ به بين الناس، وإن أصابه مسبَّةٌ شتموك به.
وآخر الكلام: لا تنسَ سبب خلقك، "عبادة الله"، لا أُلْفِيَنَّكَ تمشي في الدنيا وقلبك مشغول بتفاهاتها، مضطربة أعضاؤك فيها، غافلًا عن ذكر الله وعبادته.
أعيذك بالله وذريتك من الشيطان الرجيم، ربي، استودعتك نفسي وولدي، أصلحنا وأدخلنا الجنة، وألْحِقْ بنا ذرياتنا (17).
وهذه وصية أبٍ رحيم إلى ابنه وفلذة كبده، الأب هو: الخطاب بن المعلا كتب وصيته لابنه، فقال فيها: يا بني! عليك بتقوى الله وطاعته، وتجنب محارمه باتباع سنته ومعالمه، حتى تصح عيوبك، وتقر عينك، فإنها لا تخفى على الله خافية.
وإني قد وسمت لك وسمًا، ووضعت لك رسمًا إن أنت حفظته ووعيته وعملت به؛ ملأت أعين الملوك، وانقاد لك به الصعلوك، ولم تزل مرتجًا مشرفًا يُحتاج إليك ويُرغب إلى ما في يديك.
قال: فأطع أباك، واقتصر على وصية أبيك، وفرغ لذلك ذهنك، وأشغل به قلبك ولبك، وإياك وهذر الكلام، وكثرة الضحك والمزاح، ومهازلة الإخوان، فإن ذلك يذهب البهاء، ويوقع الشحناء.
وعليك بالرزانة والتوقر من غير كبرٍ يوصف منك ولا خيلاء يحكى عنك، والقَ صديقك وعدوك بوجه الرضا، وكف الأذى من غير ذلة لهم ولا هيبة منهم.
وكن في جميع أمورك في أوسطها فإن خير الأمور أوسطها.
وقلل الكلام، وأفشِ السلام، وامش متمكنًا قصدًا، ولا تخطَّ برجلك، أي: اجعل مشيتك مشية عسكرية ثابتة كما كان يمشي صلى الله عليه وسلم (كأنما يتحدر من صبب) أي: من مكان منحدر، الواحد عندما يريد أن ينزل من مكان منحدر يقلع رجله انقلاعًا ويخبطها في الأرض على طريقة مشي العسكري الألماني، لا يسحب أرجله مثل الذي ما يُذكر.
ولا تسحب ذيلك، ولا تلوي عنقك ولا رداءك، ولا تنظر في عطفك، ولا تكثر الالتفات، ولا تقف على الجماعات، ولا تتخذ السوق مجلسًا، ولا الحوانيت متحدثًا، ولا تكثر المراء، ولا تنازع السفهاء، فإن تكلمت فاختصر، وإن مزحت فاقتصر، وإذا جلست فتربع، وتحفظ من تشبيك أصابعك وتفقيعها، والعبث بلحيتك وخاتمك، وذؤابة سيفك، وتخليل أسنانك، وإدخال يدك في أنفك، وكثرة طرد الذباب عنك، وكثرة التثاؤب والتمطي وأشباه ذلك مما يستخفه الناس منك، ويغتمزون به عليك.
وليكن مجلسك هادئًا، وحديثك مقسومًا، واصغِ إلى الكلام الحسن ممن حدثك، بغير إظهار عجب منك ولا مسألة إعادة، وغض عن الفكاهات من المضاحك والحكايات.
ولا تحدث عن إعجابك بولدك، ولا جاريتك، ولا عن فرسك، ولا عن سيفك، وإياك وأحاديث الرؤيا -حلمت البارحة- فإنك إن أظهرت عجبًا بشيءٍ منها طمع فيها السفهاء -كل يوم يأتي يقول: حلمت فيك طال عمرك وأنت راكب على قطار...- فولدوا لك الأحلام، واغتمزوا في عقلك.
ولا تصنَّع تصنُّع المرأة -أي: تضع لك مكياجًا وتحمر وتكحل- ولا تبذَّل تبذُّل العبد -العبد المملوك الخادم- ولا تهلب لحيتك -تهليب الشهد هو: نتف ما غلظ منه- ولا تبطنها، أي: لا تأخذ ما تحت الذقن، واجعلها مثل لحية الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتوق كثرة الحك، ونتف الشيب، وكثرة الكحل -توق ذلك كله- والإسراف في الدهن؛ تجد بعض الناس شعره يقطر.
قال: ولا تلح في الحاجات؛ أي: إذا صارت لك حاجة عند شخص لا تلح، إن تيسرت تيسرت وإلا السؤال مذلة.
ولا تخشع في الطلبات، أي: إذا بقيت تطلب لا تتذلل بل كن عزيزًا.
قال: ولا تعلم أهلك وولدك فضلًا عن غيرهم عدد مالك، فإنهم إن رأوه قليلًا هنت عليهم، وإن كان كثيرًا لم تبلغ به رضاهم، وأخفهم في غير عنف، ولِن لهم في غير ضعف، ولا تهازل أمتك.
وإذا خاصمت فتوقر وتحفظ من جهلك، وتجنب عن عجلتك، وتفكر في حجتك، وأرِ الحاكم شيئًا من حلمك، ولا تكثر الإشارة بيدك، ولا تحفز على ركبتيك، وتوق حمرة الوجه -يعني: لا تعمل عملًا يحمر به وجهك من الخجل- وعرق الجبين -النابع من الخجل ومواقف الإحراج- وإن سُفه عليك فاحلم، وإذا هدأ غضبك فتكلم، وأكرم عرضك، وألق الفضول عنك، أي: لا تتطفل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36].
قال: وإن قربك سلطان؛ فكن منه على حد السنان، أي: إذا قربك سلطان لا تأخذ راحتك معه، بل كأنك قاعد على رأس رمح، فكن دائمًا في حذر، وإن استرسل إليك، أي: أخذ راحته معك في الحديث وينكت وألقيت الكلفة- فلا تأمن من انقلابه عليك، وارفق به رفقك بالصبي، ولا يحملنك ما ترى إلطافه إياك وخاصته بك أن تدخل بينه وبين أحد من ولده وأهله وحشمه، وإن كان لذلك منك مستمعًا، وللقول منك مطيعًا، فإن سقطة الداخل بين الملك وأهله صرعة لا تنهض، وزلة لا تقال.
وإذا وعدت فحقق، وإذا حدثت فاصدق، ولا تجهر بمنطق كمنازع الأصم، ولا تخافت به كتخافت الأخرس، وتخير محاسن القول بالحديث المقبول، وإذا حدثت بسماعٍ فانسبه إلى أهله، وإياك والأحاديث العابرة المشنعة التي تنكرها القلوب، وتقف لها الجلود، وإياك ومضعف الكلام مثل نعم نعم، ولا لا، وعجل عجل وما أشبه ذلك.
وإذا توضأت فأجد عرك كفيك، وليكن وضعك من الأشنان في فيك كفعلك بالسواك، ولا تنخَّع في الطست -يعني: لا تتنخم وتتفل فيه أمام الناس- وليكن طرحك الماء من فيك مترسلًا -تمج الماء على مراحل وليس بقوة ويبصق على العالم، مثل واحد توقف بجانبه تريد تتوضأ تطلع عليك سحابة من كثر ما طش عليك من الماء- ولا تمج فتنضح على أقرب جلسائك، ولا تعض نصف اللقمة -يأخذ الطعام ويقضم نصف اللقمة ويرد الباقي، من يشتهي الأكل بعدك؟ فهذا ليس من آداب الطعام، لقد كانوا رحمة الله عليهم يتأدبون في كل شيء- ثم تعيد ما بقي منها فإن ذلك مكروه، ولا تكثر الاستسقاء على مائدة الملك، ولا تعبث بالعظام، ولا تعب شيئًا مما يقرب عليك على مائدة؛ بقلة أو خلًا أو تابلًا أو عسلًا فإن السحاب قد صيرت لنفسها مهابة.
ولا تمسك إمساك المثبور، ولا تبذر تبذير السفيه المغرور، واعرف في مالك واجب الحقوق، وحرمة الصديق، واستغن عن الناس يحتاجون إليك، واعلم أن الجشع يدعو إلى الطبع، والرغبة كما قيل تدق الرقبة، ورب أكلة تمنع أكلات، والتعفف مالٌ جسيم وخلق كريم، ومعرفة الرجل قدره تشرف ذكره، ومن تعدى القدر هوى في بعيد القعر كما قال الشاعر:
من لم يقف عند انتهاء قدره تقاصرت عنه فسيحات الخطا
والصدق زين، والكذب شين، ولصدق يصرع عطب صاحبه أحسن من عاقبة من كذب يسلم عليه قائله.
قال: ومعاداة الحليم خير من مصادقة الأحمق، ولزوم الكريم على الهوان خير من صحبة اللئيم على الإحسان، ولقرب ملك جواد خير من مجاورة بحر طراد، وزوجة السوء الداء العضال، والزواج من العجوز يذهب بماء الوجه، وطاعة النساء تزري بالعقلاء.
تشبه بأهل العقل تكن منهم، وتصنع للشرف تدركه، واعلم أن كل امرئ حيث وضع نفسه، وإنما ينسب الصانع إلى صناعته، والمرء يعرف بقرينه، وإياك وإخوان السوء فإنهم يخونون من رافقهم، ويحزنون من صادقهم، وقربهم أعدى من الجرب، ورفضهم من استكمال الأدب، واستخفار المستجير لؤم، والعجلة شؤم، وسوء التدبير وهن، والإخوان اثنان: فمحافظ عليك عند البلاء، وصديق لك في الرخاء، فاحفظ صديق البلاء وتجنب صديق العافية فإنه أعدى الأعداء.
ومن اتبع الهوى مال به الردى، ولا يعجبنك الجهل من الرجال، ولا تحتقر ضئيلًا فإن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، ولا ينتفع به بأكثر من أصغريه، وتوق الفساد وإن كنت في بلاد الأعادي، ولا تفرش عرضك لمن دونك، ولا تجعل مالك أكرم عليك من عرضك، ولا تكثر الكلام فتثقل على الأقوام، وامنح البشر جليسك، والقبول ممن لاقاك، وإياك وكثرة التبريق والتزيلق -يعني تتلمع- فإن ظاهر ذلك ينسب إلى التأنيث، وإياك والتصنع لمغازلة النساء، وكن متقربًا متعززًا منتهزًا في فرصتك، رفيقًا في حاجتك، متثبتًا في حملتك، والبس لكل دهرٍ ثيابه، ومع كل قوم شكلهم، واحذر ما يلزمك اللائمة في آخرتك، ولا تعجل في أمر حتى تنظر في عاقبته، ولا ترد حتى ترى وجه المصدر.
قصر في المقالة مخافة الإجابة، والساعي إليك غالبٌ عليك، وطول السفر ملالة، وكثرة المنى ضلالة، وليس للغائب صديق، ولا على الميت شفيق، وأدب الشيخ عناء، وتأديب الغلام شقاء، والفاحش أمير، والوقاح وزير، والحليم مطية الأحمق، والحمق داء لا شفاء له، والحلم خير وزير، والدين أزين الأمور، والسماجة سفاهة، والسكران شيطان، وكلامه هذيان، والشعر من السحر، والتهدد هُجر، والشح شقاء، والشجاعة بقاء، والهدية من الأخلاق السرية، وهي تورث المحبة، ومن ابتدأ المعروف صار دينًا، ومن المعروف ابتداءٌ من غير مسألة، وصاحب الرياء يرجع إلى السخاء، ولرياء بخير خير من معالنة بشر، والعرق نزاع، والعادة طبيعة لازمة، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ومن حل عقدًا احتمل حقدًا، ومراجعة السلطان خرقٌ بالإنسان، والفرار عار، والتقدم مخاطرة، وأعجل منفعة إيسار في دعة، وكثرة العلل من البخل، وشر الرجال الكثير الاعتلال، وحسن اللقاء يذهب بالشحناء، ولين الكلام من أخلاق الكرام (18).
صار كثير من الآباء يحرصون على وصية أبنائهم بالدنيا، فنشأ كثير من الصغار على حفظ أمثال شعبية وأقوال قديمة على أنها مسلَّمات وقواعد في الحياة، فبعض الآباء يذكر ابنه بين الحين والآخر بأن من معه قرش فإنه يساوي قرشًا، فيغرس فيه من صغره الميزان المالي لوزن الناس، فلا غرابة أن يُعجَب بخاله فلان دون عمه الآخر؛ لأنه طبق المثل الذي حفظه من أسرته على أقاربه، وكان الأَوْلى أن تنصرف عناية الآباء إلى إرشاد أبنائهم إلى الميزان الأخروي في النظر للأمور {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وآخر يوصي ابنه بأن البلد بلد شهادات وأوراق، فيجدُّ في سرقة الإجابات والظهور على أكتاف الأقران، رغبة في تحصيل الشهادة من أي وجه كان... وهكذا.
وآخر يوصي ابنه ويسمعه كثيرًا يذكر أن الأقارب عقارب، فينشأ مبتور الصلات الاجتماعية كارهًا لأقاربه.
وآخر يوصي أبناءه بأن من شتمك اشتمه، ومن ضربك اضربه، ومن، ومن، دون توجيه أو تفصيل، وأمر تلك الوصايا يطول.
وهناك بعض الآباء يهتمون بجسد الأبناء وتغذيتهم أكثر من توجيههم لخيري الدين والدنيا، فتراه لا يوصي الأبناء ولا أمهم إلا بحسن تغذيتهم، والقيام على رعاية أجسامهم حتى تنمو، ولكنها تتضخم في أجساد سمينة وعقول صغيرة.
وآخرون صار همهم الأكبر مستوى تحصيل الأبناء في أمور الدراسة والتعليم والتدريب، ولا يلقى أولاده إلا ويذكرهم ويوصيهم بالجد والاجتهاد والمتابعة، وحسن التأسي بأفضل الطلاب وتحصيل أعلى الدرجات، ويكون ذلك هو المقياس للتفاضل بين الأبناء وذم هذا ومدح ذاك.
ومن الأمور المهمة أن بعض الآباء يعتقد أنه بمجرد زواج ابنته، فإن حق وصيتها ونصيحتها قد زال عنه، وأنها في عصمة زوج ينصحها ويوجهها حتى لو نصحها بباطل أو وجَّهها إلى محرم، تراهم يقولون: هي مع زوجها ويستلون أيديهم من النصيحة لها أو وصيتها وتوجيهها، وهذا خطأ؛ فالمعيار في الوصايا هي الوصايا الشرعية المقبولة.
----------
(1) أخرجه الترمذي (1952).
(2) أخرجه مسلم (923).
(3) أخرجه البخاري (7465)، ومسلم (775).
(4) أخرجه الترمذي (2516).
(5) وصايا الآباء للأبناء خواطر وتنبيهات/ مجلة البيان (العدد: 290).
(6) أخرجه الإمام البيهقي (3/ 84).
(7) العقد الفريد (3/ 98).
(8) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (548).
(9) أخرجه الدارمي (389).
(10) كنز العمال (16/ 155).
(11) أدب الدنيا والدين (ص: 330).
(12) جامع بيان العلم وفضله (1/ 521).
(13) صفة الصفوة (1/ 357).
(14) المنتخب من وصايا الآباء للأبناء (ص: 42)، بترقيم الشاملة آليًا.
(15) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 195).
(16) المنتخب من وصايا الآباء للأبناء (ص: 46)، بترقيم الشاملة آليًا.
(17) وصية والد لولده/ طريق الإسلام.
(18) وصية والد لولده/ إسلام ويب.