كيف نتعامل مع الطفولة؟
إن مرحلة الطفولة عبارة عن (جسر) يعبر عليه الإنسان إلى معترك الحياة، وهي أهم محطة في حياة الإنسان؛ ففيها يتزود بكل ما من شأنه أن يدفعه إلى السعي في مضمار الحياة.
فهذه المرحلة لابد من التعامل معها على قدر أهميتها؛ فيجب تقدير الطفل واحترامه، وزرع الثقة في نفسه، وتنمية مهاراته وقدراته، وتصحيح أخطائه بطريقة لينة مع بيان الأسباب.
فإذا ما تعاملنا مع هذه المرحلة، كما السابق، كانت النتيجة على خير ما نأمل، حيث نُخْرج للأمة شبابًا فَعّالًا، يستطيع أن يقود هذه الأمة، وإذا ما أهملنا تلك التربية المنشودة فإن النتيجة، لا شك، مؤسفة مؤلمة، مستقبل ضائع، وطاقة شبابية مهدرة.
"إن التعامل مع الصغار يحتاج إلى وعي شديد، وحرص ورفق من المربي، ويحتاج كذلك إلى علم باحتياجات الطفل؛ النفسية والاجتماعية، ويحتاج أيضًا إلى سعة صدر، وطول بال وحلم؛ حتى تنجح عملية التوجيه والتربية.
ولقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كله، ولكنه حرص قبل ذلك على تأصيل محبته في نفوس الأطفال.
فالمحبة أولًا، ثم بعد ذلك تأتي عملية التوجيه والإرشاد وزرع المفاهيم، وبدون هذه المحبة لا يمكن أن نتوقع نجاحًا للعملية التربوية.
وهذه المحبة تنشأ من الرحمة بالأطفال، والعناية بهم، واحترام حقوقهم، وعدم الاستهانة بها، وحسن معاملتهم، وترغيبهم في الخير، وترك إيذائهم، ورفع الظلم عنهم، كل ذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففاز بمحبة الأطفال، واستطاع أن يزرع في نفوسهم ما يشاء من خصال نبيلة، وخلال حميدة، وآداب رفيعة"(1).
نماذج من تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأطفال(2):
أولًا: احترام وتقدير ذات الطفل:
وهذه من أهم الأمور التي يحتاج إليها الطفل دائمًا، ويغفل عنها الآباء غالبًا، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُشعر الناشئة بمكانتهم وتقدير ذاتهم.
فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بشراب، فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟»، فقال الغلام: لا والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحدًا(3).
فانظر إلى هذا الطفل المبارك الذي لم يؤثرْ بمكانه من رسول الله أحدًا, كيفلم يؤثر أيضًا بنصيبه من بركة ثغر النّبوة أحدًا! وقد قبل النبي رفضه, ولميغالب إرادته؛ بل سُرَّ به.
فما أحوجنا جميعًا إلى احترام عقول الأطفال، وعدم تسفيهها، وتقدير ذاتهم، واحترام مشاعرهم، وهذا يجعل الطفل ينمو نموًا عقليًا واجتماعيًا سليمًا، إن شاء الله.
ثانيًا: تعويد الطفل على تحمل المسئولية:
وهذه ضرورة لا بد من تعويد الأطفال عليها، ونحن في أوقات فرضت الاتكالية والاعتمادية نفسها على الكبار والصغار سواء بسواء، فالمربي الواعي يساعد الناشئ على تنمية مفهوم إيجابي عن نفسه، يعينه مستقبلًا على تحمل المسئولية.
فوالله لقد رأيت بأم عيني رجالًا جاوزوا الثلاثين وهم ما زالوا تحت كنف آبائهم، كما الطفل الصغير تمامًا، فهو لا يستطيع أن ينجز أي شيء إلا إذا ساعده فيه والده، ومازال يأخذ المال من والده، ولا يستطيع أن يُدِر دخلًَا خاصًا به؛ بل إنه صار عبئًا كبيرًا على والده؛ كل هذا لأن والديه لم يعلماه تحمل المسئولية منذ الصغر؛ بل كان هو الطفل المدلل، الذي تُلبَّى طلباته دائمًا.
لذا فقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء شخصية الناشئين من حوله، وتعويدهم على تحمل المسئولية.
فعن أنس رضي الله عنه قال: أتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأتُ على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا(4).
ثالثًا: الرحمة والرأفة بالأطفال:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «من لا يرحم لا يرحم»(5).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم، قالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة»(6).
إن تلك القبلة التي تطبعها على ولدك هي عنوان أمان، ورمز سلام واطمئنان، إنها فيضان من الحنان والسكينة، تبثه في نفس ولدك؛ بل إنها كذلك ثقة تغرسها في وجدانه، وسكينة تربيها في نفسه، فينشأ الطفل مرهف الحس، فياض المشاعر، رحيمًا بكل من حوله.
ومن صور رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال، أنه عليه الصلاة والسلام زار غلامًا يهوديًا مريضًا كان يخدمه فقال له: «قل لا إله إلا الله»، فنظر الغلام إلى أبيه، فقال له: أطع أبا القاسم، فقالها الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي أنقذه من النار»(7).
ومنها أنه عليه الصلاة والسلام دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، أي في سياق الموت، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف، إنها رحمة»، ثم أتبعها بأخرى، وقال: «إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»(8).
ولما مات ابن ابنته فاضت عيناه صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «إنها رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»(9).
رابعًا: هدية الأطفال:
الهدية تُدخِل الفرحة والبهجة إلى النفس، كما أن للهدية فعل السحر على القلوب؛ فهي تزيد الود، وتزيل الضغينة من النفوس، كما أنها وسيلة تعبير جيدة عن تقديرك واعتزازك لمن تهديه، والهدية للطفل مبدأ تربوي، وهو يُشعِر الطفل بأهميته ومكانته في قلب المُهِدي.
فعن أم خالد بنت خالد، وكانت صغيرة عندما هاجرت إلى الحبشة مع المهاجرين، قالت: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة، فقال: «من ترون أن نكسو هذه؟» فسكت القوم، قال: «ائتوني بأم خالد»، فأُتِيَ بها تُحْمَل، فأخذ الخميصة بيده فألبسها، وقال: «أبلي وأخلقي»، وكان فيها علم أخضر أو أصفر، فقال: «يا أم خالد، هذا سناه»، وسناه بالحبشية: حسن(10).
خامسًا: توفير جو المرح واللعب والمزاح للأطفال:
وهذه حاجة ضرورية للطفل وطبيعته، ما دام ذلك في الحدود الشرعية، فلا يجب أن تسرف فيها؛ حتى لا يتعود الطفل على التدليل، ولا تقتر فيها؛ فيحرم الطفل من أهم حاجياته الطبيعية، فيكون معقدًا، أو يتولّد عنده الانطواء والخجل.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمَّعن منه، فيسرِّبهن إليّ، فيلعبن معي(11).
أي: كنَّ يتخفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حياءً منه، وكان صلى الله عليه وسلم يرسلهن إليها لكي يلعبن معها.
وهكذا، لا تُحرَم الناشئة من الحنان الطبيعي، والمرح الذي يجدد النشاط، على أن يكون ذلك متوازيًٍا، يحفظ لهم شخصياتهم وتماسكهم الوجداني.
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال: أحسبه فطيمًا، وكان إذا جاء قال: «يا أبا عمير، ما فعل النُّغَيْر»، نغر كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا(12).
وعن عبد الله بن شداد، عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي، الظهر أو العصر، وهو حامل الحسن أو الحسين، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، فقال: إني رفعت رأسي، فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت في سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها، فظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، قال: «فكل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته»(13).
سادسًا: التنبيه على الخطأ برفق ولين ودون عنف:.
فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: «يا أنيس، أذهبت حيث أمرتك؟» قال قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله(14).
هذه كانت بعض نماذج من تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال، وإلا فالسيرة النبوية تعج بكثير من المشاهد التربوية الثمينة، والتي ينبغي لنا أن نجعلها نبراسًا ومنهاجًا في تعاملنا مع أطفالنا؛ حتى نستطيع أن نُخرج للعالم جيلًا يقوده إلى ما فيه سعادة وخيري الدنيا والآخرة.
__________________________________________
(1) النبي والأطفال، خالد أبو صالح.
(2) انظر: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال، موقع الأسرة السعيدة، وانظر: النبي والأطفال، لخالد أبو صالح.
(3) رواه البخاري (2451)، ومسلم (2030).
(4) رواه مسلم (2482).
(5) رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318).
(6) رواه البخاري (5998)، ومسلم (2317)، واللفظ له.
(7) رواه البخاري (1356).
(8) رواه البخاري (1303).
(9) رواه البخاري (1284)، ومسلم (923).
(10) رواه البخاري (5823).
(11) رواه البخاري (6130).
(12) رواه البخاري (6203)، واللفظ له، ومسلم (2150).
(13) رواه الإمام أحمد في مسنده (16033)، وصحح إسناده محققو المسند.
(14) رواه مسلم (2310).