logo

قواعد في الحوار الأسري


بتاريخ : الخميس ، 7 جمادى الأول ، 1444 الموافق 01 ديسمبر 2022
بقلم : تيار الاصلاح
قواعد في الحوار الأسري

من مؤشرات النجاح في الأسرة؛ التفاهمُ الإيجابي الذي تكمن فيه مصلحة الأفراد جميعًا، وإن الإيجابية في التفاهم بين أفراد الأسرة أكثر ما تكون في الحوار البناء الهادئ؛ فإن من طبيعة البشر الاختلاف؛ قال الله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118- 119]، إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم، يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض، إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة، واستعدادات شتى من ألوان متعددة كي تتكامل جميعها وتتناسق، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله، فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف، ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات.

ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعًا حين تصلح وتستقيم، هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح، الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات، فلا يقتلها ولا يكبحها؛ ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح (1).

هذا الاختلاف يحكمه الحوار؛ للوصول إلى أقرب نقطة يلتقي فيها المتحاوران ويتفقان فيها، وهذا الحوار الأسري قد يبني الأسرة، وقد يهدمها حسب التعامل مع هذا الحوار؛ وللحوار قيمة حضارية وإنسانية، وعلينا أن نعمل ونأخذ به في حياتنا وممارساتنا التربوية والأسرية، ويجب أن تؤمن به كل أمة.

والحوار يخلق التفاعل الدائم بين الطفل من ناحية وبين المنهج والمعلم من ناحية أخرى؛ فلا بد أن يوصل الحوار إلى كشف الحقيقة وخاصة إذا كانت غائبة؛ فهو الوسيلة المهمة في بناء شخصية الطفل كفرد وكشخصية اجتماعية، وهو يخلق أيضًا روح المنافسة بين الأطفال، فيحملهم على الدخول في ميادين المناقشة العلمية، وكذلك يثبت فيهم روح الجماعة والتعاون، ويبعد عنهم الأنانية وحب الذات المفرط، ويبث فيهم روح الألفة والمحبة، ويعودهم على النظام والتعاون، ويساعد على الابتكار واحترام الطفل لذاته (2).

ومشكلة الكثير من المربين مع الحوار هو عدم معرفة آدابه وأساليبه، بل إن الكثير من صور الحوار لدينا تنقلب إلى موعظة أو تحقيق أو مناظرة، ومع ذلك نظن أننا نؤدي الكم والكيف المطلوب من الحوار مع من نربي، وأن الخلل أتى من قِبَلهم وليس من قِبَلنا، يقول الدكتور عبد الكريم بكار: لم تترسخ بعدُ تقاليد الحوار الصحيح في حياتنا الاجتماعية والأسرية، ولهذا فإن من الملاحظ أننا كثيرًا ما نبدأ حديثنا مع من نربيهم من أبناء وطلاب على أنه محاورة تتجلى فيه النِّدِّية، ثم ينتهي إلى أن يكون مناظرة خشنة يملى فيه الرأي إملاءً مباشرًا؛ فهل نتخذ من العثور على طريقة جديدة في التفاهم هدفًا نسعى إليه؟ (3).

مفهوم الحوار الأسري:

هو نوع من أنواع الاتصال والتواصل الإيجابي مع الطرف الآخر من خلال احترام وتقدير الكبير للصغير، الذي يؤدي إلى تهذيب سلوك الأبناء، وذلك بمخاطبتهم بلغة هادئة، مما يؤدي إلى التفكير المنظم السليم، ويؤدي أيضًا إلى تدريب الأبناء على الجرأة ومواجهة الحياة، وتهيئة الأبناء لإنشاء أسر مترابطة يسودها الحوار الهادف البناء.

أهميّة الحوار الأسريّ:

يعد الحوار الأسري من أهم الأسس التي يجب الحرص عليها في الأسرة، وتتضح أهمية الحوار بين الآباء، والأبناء في النقاط الآتية:

- يعد مفتاح العلاقات الطيبة، والجيدة بين الزوجين، كما يعد عاملًا رئيسيًا في تربية الأطفال بصورة إيجابية.

 -يخفف من آثار النزاعات، والمشكلات الأسرية، والنفسية، والاجتماعية؛ التي قد تؤدي للطلاق.

- يقنع الأطفال بأية أفكار بصورة هادئة بعيدًا عن الصراعات، وعن فرض الآراء من الآباء.

- يشجع في الحفاظ على الاحترام المتبادل، والحرية في التعبير عن الآراء في المنزل.

- يمنح الحب، والراحة للأبناء من قبل الوالدين.

- يمنح القدرة للأطفال على التواصل مع الآخرين في المستقبل.

 -يساعد الاعتراف بالأخطاء الشخصية من قبل الآباء أثناء الحوار أمام الأبناء على تقليد هذا السلوك الإيجابي من قبلهم.

 -يساعد الحوار على مشاركة الأبناء القصص الشخصية، والتحدث عن التجارب الخاصة.

- يساعد على التعبير عن الاهتمام الحماسي بشؤون الطفل، والتركيز على مصالحه، حيث يضمن جذب الطفل للاشتراك في الحوار، وتعزيز وتقوية العلاقات الأسرية.

 -يساعد الحوار على تفهم إحباطات الطفل، وخيبات الأمل التي شعر بها، والمشاركة فيها، وتعليمهم المشاعر المتعلقة بالحزن، وخيبات الأمل، والقلق، وأنها جزء من الحياة الشخصية، وتعليمهم أنها مشاعر مؤقتة تزول مع مرور الوقت، ومساعدتهم على التعبير عنها (4).

قواعد وأسس الحوار الأسري الناجح:

لذلك كان لزامًا علينا أن نتعرف على قواعد الحوار فيما بيننا كأسرة واحدة؛ حتى نتفق بأكبر نسبة يمكن فيها الاتفاق، وسنتدارس جميعًا قواعد في الحوار مع الأفراد؛ لعلها أن تكون معينًا على الاتفاق ونبذ الخلاف.

القاعدة الأولى: حسن الظن بالطرف الآخر: فالشكوك والقدح في نيات الآخرين كفيلة بإيجاد جفوة وشقة بعيدة لا يمكن التلاقي فيها، فكل قول أو فعل يحمل على خلاف الظاهر المتبادر منه للذهن من دون قرينة تصرفه عن ظاهره فيه ظلم وتجنٍّ على الآخرين، ورحم الله الشافعي حيث قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وهكذا يتعايش الجميع وتُحتَرم الآراء، وذلك بخلاف من يقول: رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب، وفرق شاسع بين العبارتين؛ فالأولى تمهيد للتفاهم الإيجابي، أما الثانية فهي سلبية في الحوار، وقد يكون الحوار معها جدالًا عقيمًا، لا يسمن ولا يغني من جوع.

كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي     وإذا ما زدت علمًا زادني علمًا بجهلي

إذن من آداب الاختلاف الذي سوغته الشريعة وقبلته الطبيعة؛ احترام المخالف وحسن الظن به، ومخاطبته بالألفاظ المحترمة والعبارات الطيبة.

أما التعصب للرأي وعدم التسامح تترتب عليه كثير من المحاذير الشرعية التي حذر منها الإسلام، فإذا لم يكن هناك تسامح فإن الكراهية والبغضاء والشحناء والتنافر والشح والظلم والبغي والتناحر والتقاتل ستسود وتنتشر بين الناس.

ويكون الحوار فاشلًا إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة، فليت المسلمين يتخلصون من هذه الآفة التي فرَّقتهم، وأضعفتْ شوكتهم بين الأمم، ليتهم يذكرون دائمًا قول الله تعالى: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].

القاعدة الثانية: الإخلاص في تحري الحق: فالانتصار للذات، والتعصب للرأي، يؤدي إلى رفض الحق، ومخالفة وجهة النظر؛ فمن قصد الانتصار لنفسه وهواه فلا يوافق الآخرين في رأيهم؛ وإن بدا له أنه صواب، ولا شك أن هذا خلاف منهج الصالحين؛ فهذا الشافعي يقول: ما ناظرت أحدا وأحببت أن يخطئ بل أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه من الله رعاية وحفظ، وما كلمت أحدًا قط وأنا أبالي أن يظهر الحق على لساني أو لسانه (5)؛ فالتجرد للحق، والإخلاص لله، يزيل عقبات الاختلاف؛ ولكن الأمر يحتاج إلى مجاهدة النفس في ذلك، وإلزامها الحق بقوة.

القاعدة الثالثة: حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة: كما يطلب الالتزام بوقت محدد في الكلام، وتجنب الاطالة قدر الإمكان، فيطلب حُسن الاستماع، واللباقة في الإصغاء، وعدم قطع حديث المُحاور.

وإنّ من الخطأ أن تحصر همَّك في التفكير فيما ستقوله، ولا تُلقي بالًا لمُحدثك ومُحاورك، وقد قال الحسن بن علي لابنه، رضي الله عنهم أجمعين: يا بنيّ إذا جالست العلماء؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلًم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع على أحد حديثًا وإن طال حتى يُمسك (6).

ويقول ابن المقفع: تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام؛ ومن حسن الاستماع: إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول (7).

لا بدّ في الحوار الجيِّد من سماع جيِّد؛ والحوار بلا حُسْن استماع هو (حوار طُرْشان) كما تقول العامة، كل من طرفيه منعزل عن الآخر.

إن السماع الجيِّد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء، وتحديد نقاط الخلاف وأسبابه.

وحسن الاستماع يقود إلى فتح القلوب، واحترام الرجال وراحة النفوس، تسلم فيه الأعصاب من التوتر والتشنج، كما يُشْعِرُ بجدّية المُحاور، وتقدير المُخالف، وأهمية الحوار.

ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى النتيجة.

القاعدة الرابعة: تقدير الخصم واحترامه:

ينبغي في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف، وإعطاء كل ذي حق حقه، والاعتراف بمنزلته ومقامه، فيخاطب بالعبارات اللائقة، والألقاب المستحقة، والأساليب المهذبة.

إن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق، والبعد عن الهوى، والانتصار للنفس، أما انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر مَعيب مُحرّم.

وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام، لا ينافي النصح، وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة وطرقه الوقورة، فالتقدير والاحترام غير المَلَقِ الرخيص، والنفاق المرذول، والمدح الكاذب، والإقرار على الباطل.

ومما يتعلق بهذه الخصلة الأدبية أن يتوجه النظر وينصرف الفكر إلى القضية المطروحة ليتم تناولها بالبحث والتحليل والنقد والإثبات والنَّقص بعيدًا عن صاحبها أو قائلها، كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية؛ طابعها الطعن والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشات التصرفات، والأشخاص، والشهادات، والمؤهلات والسير الذاتية.

القاعدة الخامسة: التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام: إن من أهم ما يتوجه إليه المُحاور في حوار، التزام الحُسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن} [الإسراء: 53]، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} [النحل: 125]، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، فحق العاقل اللبيب طالب الحق، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.

ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، الانصراف عن التعنيف في الردّ على أهل الباطل، حيث قال الله لنبيه: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)} [الحج: 68- 69].

وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، مع أن بطلانهم ظاهر، وحجتهم داحضة.

ويلحق بهذا الأصل: تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث، ويعتمد إيقاع الخصم في الإحراج، ولو كانت الحجة بينه والدليل دامغًا؛ فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف، وقد تُفْحِم الخصم ولكنك لا تقنعه، وقد تُسْكِته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه، وأسلوب التحدي يمنع التسليم، ولو وُجِدَت القناعة العقلية، والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء واستكفاء الإناء.

وإنك لتعلم أن إغلاظ القول، ورفع الصوت، وانتفاخ الأوداج، لا يولِّد إلا غيظًا وحقدًا وحَنَقًا، ومن أجل هذا فليحرص المحاور؛ ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة فهذا رعونة وإيذاء للنفس وللغير، ورفع الصوت لا يقوّي حجة ولا يجلب دليلًا ولا يقيم برهانًا؛ بل إن صاحب الصوت العالي لم يَعْلُ صوته -في الغالب- إلا لضعف حجته وقلة بضاعته، فيستر عجزه بالصراخ ويواري ضعفه بالعويل، وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان، والفكر المنظم والنقد الموضوعي، والثقة الواثقة.

على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغيير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام ونوع الأسلوب، لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب، استفهاميًا كان، أو تقريريًا أو إنكاريًا أو تعجبيًا، أو غير ذلك، مما يدفع الملل والسآمة، ويُعين على إيصال الفكرة، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين.

على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر؛ وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد، وطغى وظلم وعادى الحق، وكابر مكابرة بيِّنة، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم} [النساء: 148].

ففي حالات الظلم والبغي والتجاوز، قد يُسمح بالهجوم الحادّ المركز على الخصم وإحراجه، وتسفيه رأيه؛ لأنه يمثل الباطل، وحَسَنٌ أن يرى الناس الباطل مهزومًا مدحورًا.

القاعدة السادسة: الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون، والالتزام الجادّ بها، وبما يترتب عليها، وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضربًا من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء، يقول ابن عقيل: وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة؛ فإنه أنبل لقدره، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق (8).

قال الشافعي رضي الله عنه: ما ناظرت أحدًا فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني، ولا ردَّها إلا سقط في عيني (9).

وليس شرطًا أن تقتنع برأيي؛ فليس من شرط الحوار الإيجابي أن تحصل القناعة التامة؛ بل الإيجابية تكمن في الاحترام المتبادل في الألفاظ والمفاهيم، ومحاولة الوصول إلى أقرب نقطة يتفق عليها الطرفان، وليستثمرا تلك النقطة لمزيد من الاتفاق المتبادل.

القاعدة السابعة: الاختلاف والخلاف بين البشر هو من طبيعتهم، فلنتعامل معه برفق، وكما نقبلهم باختلاف ألوانهم وأشكالهم، فلنحاول أيضًا قبولهم ولو نسبيًّا باختلاف أخلاقهم، ونقول هذا حتى تسير الحياة مستقيمة إلى حد كبير؛ فإن من البشر الجاهل والمتعجل ونحو ذلك، فلنتعامل مع كل ذي صفة بما يناسبه في الحوار؛ حتى لا تغرق السفينة.

القاعدة الثامنة: عندما تحاور ليكن في فكرك أنه يستحيل أن ترى كل شيء بزاوية 360 درجة، فأنت لا تعلم كل شيء، وليس لزامًا أن يكون كلامك هو الصحيح 100%؛ فقد تخفى عليك بعض الأمور، فعندما يحاورك الآخر بضد كلامك، اجعل له في ذهنك مساحة للتأمل والتعديل، ولا تستعجل الرد، وكن عادلًا في ذلك، فقد تكسب صاحبك ويكسبك.

القاعدة التاسعة: على المتحاورين أن يعلما عبارة: ما تصلح له أنت قد لا أصلح له أنا، فلكل نفس طبيعتها، فبعض الناس انطبع على صفة، ويريد أن يكون الناس كذلك، فقد تتحاور مع أحد في شيء يناسبك مائة في المائة، لكن قد لا يناسب صاحبك، فتحاور معه بهدوء، واعلم أن النفوس تحمل طباعًا مختلفة، فأوقف حوارك معه على أقرب نقطة تتفقان عليها.

القاعدة العاشرة: اعلم أن ما يزعجك قد لا يزعج الآخر والعكس بالعكس؛ فلا تتعمق في إلزام الناس بالتزاماتك الخاصة بك، بل اطرح رأيك من غير إلزام بامتثاله؛ فإن بعض الناس يجعل نفسه مقياسًا للخلق، فما وافقه ألزم الناس به، وما خالفه نهى الناس عنه، ولو بلسان الحال، وليعلم الجميع أن لكل طبيعته ما لم يكن الأمر شرعيًّا؛ فإنه محسوم شرعًا.

القاعدة الحادية عشرة: كن إيجابيًّا في الخلاف معي، واعلم أن اختلاف الألوان في اللوحة يعطيها جمالًا، وإن كان هذا مكلفًا للطرفين، لكن أشد منه كلفة وضررًا أن يستمر الخلاف، ولا نقترب من الوفاق.

القاعدة الثانية عشرة: عاملني في الحوار بما تحب أن أعاملك به، فكل ما تريد أن أمتثله معك في الحوار من الإستراتيجيات حاول تفعيلها معي؛ لأبادلك أنا أيضًا التفاعل.

القاعدة الثالثة عشرة: ابنك ليس مثلك، وزمانك ليس زمانه، ففي حوارك معه لا بد من تغيير بعض قناعاتك، ما لم تكن محذورة شرعًا، فلا تستعجل الرد عليه حتى تتأمل، ولا في الفرض عليه حتى توازن.

القاعدة الرابعة عشرة: من خلال الحوار اصطحب ألفاظ الشكر فيما يعجبك ولو كانت يسيرة؛ فإن ذلك الشكر هو عتبة للوصول إلى الهدف المقصود، فكلماتك هي عتباتك بالوصول إلى الهدف، فابْنِها أو اهدمها.

القاعدة الخامسة عشرة: الحوار للإقناع وليس للإلزام، فإذا أقنعت الآخر، فقِفْ عن درجة الإلزام؛ لأن الأمر راجع إليه ما لم يكن حكمًا شرعيًّا؛ فإنه محسوم في دين الله تبارك وتعالى.

فإذا صار الحوار خاليًا من الاحترام المتبادل فإنه قد ينقلب إلى جدل عقيم، وهذا مذموم شرعًا وعُرفًا، فترك الجدل والمراء له مصالح عديدة؛ منها: التآلف، وتقارب القلوب، وسد مداخل الشيطان، واستكمال الحكمة، والحفاظ على الوقت، كما أنه أيضًا سبب كبير من أسباب دخول الجنة؛ حيث ورد في حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا» (10)، ومعنى زعيم: ضامن وكفيل.

فإذا كان الجدال عقيمًا، فكن أنت قويًّا بقطعه وإنهائه على حال حسن؛ حتى لا تتردى الحال في مهاوي السلبية، وإن الشيطان يحضر حال الجدال فيؤز الطرفين أزًّا، حتى يحصل ما لا تحمد عقباه لا قدر الله (11).

القاعدة السادسة عشرة: ضبط النفس والابتعاد عن الانفعال: وهو ما يطلبه الحوار حول مشكلة تمس أحد أفراد الأسرة، أو في الحوار حول خطأ قام به أحد أفراد الأسرة، وفي هذه الحالة يكون ضبط النفس وعدم الانفعال عنصرًا أساسيًا في التوصل إلى الحلول واستيعاب المشكلة بشكل كامل، لأن الانفعال في هذه الحالات سيزيد سوء التفاهم، ويبعد الحوار عن مجراه الرئيسي، كما يؤدي إلى فقدان الاحترام في الحديث، وفي العلاقة الأسرية بشكل عام، فيؤدي الحوار إلى نتائج عكسية.

القاعدة السابعة عشرة: الوضوح في الحوار والابتعاد عن التهرب: من أهم الأسس التي تجعل الحوار مثمرًا هي الوضوح في طرح موضوع النقاش، وعدم استخدام الأسلوب المبطن الذي لا يعبر عن المشكلة للطرف الآخر بصورة واضحة، فتنشأ الالتباسات، ويبتعد الحوار عن مجراه الرئيسي، وفي هذه الحالة الأفضل أن يطرح كل فرد من أفراد الأسرة رأيه بطريقة واضحة وشفافة؛ حتى يفهم كل الأفراد الآخرين مباشرة، ومن ثم يقدمون آرائهم أيضًا بصورة واضحة بناءً على رأيه، فتتضح المشكلة أو القضية التي تناقش بشكلٍ أفضل.

القاعدة الثامنة عشرة: الابتعاد عن هدف إثبات الذات في الحوار: إن غاية الحوار الأسري تقريب وجهات نظر أفراد الأسرة، ووضع حلول للمشاكل العالقة، أو التخطيط لمسائل تخص المستقبل..، لذا فإن الهدف ليس أن يظهر كل شخص نفسه بأنه هو الذي يملك الحلول وأن وجهة نظره هي الأفضل (في حال نقاش إحدى المسائل أو المشروعات التي تمس مستقبل الأسرة).

أما في حال محاولة حل مشكلة بين طرفين في الأسرة (سواء الأب والأم أو الإخوة)، فإن إثبات الذات يكون بالتغلب على الآخر بالنقاش فقط لإثبات أن وجهة نظره هي الصحيحة، وأن الآخر هو الخاطئ، فيصبح الهدف من الحوار فقط كيف يستخدم كل طرف أسلوبه بهدف التغلب على الآخر وإثبات ذاته، فيبتعد الحوار عن مجراه، ويصبح أشبه فقط بمنافسة غير مثمرة.

لذا يكون من الأفضل لأفراد الأسرة أن يضعوا نصب أعينهم الهدف الرئيسي للحوار، أو المشكلة الرئيسية التي تناقش، ويحددوا قبل البدء لماذا هم يتحاورون؟ ومن ثم يتقبل كل طرف رأي الطرف الآخر، حيث يستخدم أفراد الأسرة الحوار التشاركي وليس التسلطي.

القاعدة التاسعة عشرة: توضيح الإيجابيات والسلبيات في رأي الآخر: لكي يكون الحوار مثمرًا ويغطي كل جوانب الموضوع الذي تتم مناقشته، على الأفراد -وبعد أن ينهي الطرف الآخر طرح رأيه- مناقشة رأيه بأن يسدي كل فرد بما لمسه من إيجابيات أو سلبيات في رأي الطرف الآخر، وكلٌّ يتبادل الأفكار بشكلٍ منظم، وبذلك يتوسع النقاش ويغطي كل جوانب الموضوع، كما يتم بذلك حصر كل سلبيات وإيجابيات الموضوع، ومن ثم يتم ترجيح الرأي الأقل سلبية، ووفق ما توصل إليه نقاش الأفراد.

أخيرًا:

يشكل الحوار الأسري أساسًا لنجاح العلاقات بين أفراد الأسرة من خلال تعزير الاحترام والمودة بينهم، أيضًا من خلال تبادل الآراء والأفكار التي تساهم في تحقيق أهداف الأسرة، ولكن الحوار الناجح يقوم على عدة أسس كتقبل رأي الآخر، والإصغاء الجيد، كذلك ضبط النفس والوضوح؛ حتى يكون مثمرًا يحقق الأهداف المرجوة منه، في حين أن الحوار السلبي الذي لا يكرس القيم التي ذكرت يؤدي إلى خلاف ذلك، ويؤثر على العلاقات الأسرية بشكلٍ سلبي أيضًا (12).

---------

(1) في ظلال القرآن (1/ 215).

(2) الحوار وبناء شخصية الطفل (ص: 51).

(3) 175 بصيرة في التربية (ص: 56).

(4) الحوار الأسري وأهميته بين أفراد العائلة/ بشرى.

(5) فيض القدير (3/ 90).

(6) جامع بيان العلم وفضله (1/ 521).

(7) الأدب الصغير والأدب الكبير (ص: 130).

(8) وسطية الإسلام ودعوته إلى الحوار (ص: 28)، بترقيم الشاملة آليًا.

(9) أصول الحوار وآدابه في الإسلام/ أرشيف ملتقى أهل التفسير.

(10) أخرجه أبو داود (4800).

(11) قواعد في الحوار الأسري/ الألوكة.

(12) الحوار الأسري وأهميته بين أفراد العائلة/ بشرى.