قل له "لماذا لا" ولا تقل له "لا" فقط
لقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم في تصرفه مع أصحابه وزوجاته وأبنائه وأبنائهم، وأيضًا مع غير المسلمين، أمر عجيب، فهو صلى الله عليه وسلم كانت له سمة عامة في تعامله مع كل هذه الأصناف، ألا هي سمة الرفق؛ لذلك كنت تجد كل من ارتكب خطأً أو أتى عيبًا أو حرامًا، كان يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رغم أنه المنوط به تطبيق الأحكام، ورغم ذلك كانوا يلجئون إليه؛ لأنهم يجدون عنده الأمن والأمان والطمأنينة والسكينة، يجدون عنده الصدر الرحب، يجدون عنده الآذان الصاغية لكل ما يقولون، وصدق الله عز وجل إذ يقول:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران:159].
إن الرفق من أهم الأمور والسمات والصفات التي يجب على الآباء والأمهات أن يتحلوا بها، فهي الصفة التي ستجمع الأبناء حولهم في حب وود، أما إذا كان الأب أو الأم ممن يستفزهم الخطأ ويعصف بهم الغضب سريعًا، فيصبح العنف والضرب هو الرد التلقائي لمثل تلك الحالات، فلن يخرج من تحت أيديهم إلا إنسان ضعيف الشخصية، مسلوب الإرادة، وإنما يجب عليهم التزام هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»[رواه مسلم (2593)].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: «يا عائشة، إن الله رفيق، يحب الرفق في الأمر كله» [رواه البخاري (6927)].
وركبت عائشة بعيرًا، فكانت فيه صعوبة، فجعلت تردده، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالرفق» [رواه مسلم (2594)].
فإذا كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق مع الدابة ومع غير المسلم، فما بالنا بالرفق مع أبنائنا.
إن الرفق بالأبناء أمر لازم وهام، وهو أيضًا فن يجب تعلمه لمن لم يتقنه، فالرفق يكون باختيار الألفاظ المناسبة، فتقول لابنك: «نريد أن نصل معًا إلى حلٍ لتلك المشكلة»، ولا تقل له: «لقد أخطأت خطًأ كبيرًا، ويجب أن تحاسَب عليه»، هذا تهديد وليس إرشاد بالرفق.
الرفق يكون في درجة الصوت، فلا يتم رفع الصوت لفرض ما يريد الوالد فرضه على ابنه، وإنما يكون ذلك بالحوار الهادئ، والابتسامة على الوجه، كل هذا من الرفق الذي يأسر قلب الابن، ويجعله ملك والديه.
الرفق يكون في الإشارة باليد، فلا يشيح بيده في الهواء ويهدد بها، ويبرق ويرعد، فكل هذا يزيد الابن نفورًا، ويجعله يفكر في الاستمرار في الخطأ؛ لأن هذا الأسلوب في التعامل مع الابن لم يجعله يفكر في خطأ ما ارتكب، وإنما يفكر في تعامل والده معه.
الرفق يكون حتى في طول النصيحة، فيجب على الآباء والأمهات الإيجاز في الإرشاد وعدم التطويل، وذلك كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه إذا أراد أحد أن يعد كلامه في مجلسه لعده، وكان صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة مرارًا حتى تعقل عنه، أما طول الكلام فقد يصيب المستمع بالملل، فلا يعقل الكلام، ولا يدرك النصيحة.
الرفق يكون ببيان السبب وراء منع الابن من عمل ما، لا أن يكون المنع لأنك قلت له: «لن تفعل»، وإنما لا بد من بيان الحكمة والسبب، أما من كان معتادًا على مواجهة أبنائه بالصرامة الدائمة والانفعال والغضب، فيجب عليهم تنفيذ أوامره ورغباته، دون حتى بيان للحكمة من وراء ذلك، فإنه لا شك لن يحصل على الطاعة من أبنائه أبدًا؛ ذلك لأن الخوف يؤدي إلى الكراهية، فإذا ما خشي الأبناء والدهم فإنهم سيكرهونه فيما بعد، وإذا وجدت الكراهية فلن توجد طاعة بإرادة خالصة.
أما إذا كانت العلاقة بين الآباء والأمهات وبين الأبناء قائمة على جو من الحب والأمان، بعيدًا عن التهديد والتخويف، وفيها كثير من المصارحة بأسباب المنع، وكذلك بيان لأهداف الطلبات التي يطلبها الآباء والأمهات، فستكون النتائج مذهلة، فستجد هناك طاعة سريعة في تلبية الطلبات، وكذلك امتثالًا للأوامر التي تنهى الابن عن أداء ما كان يرغب بفعله، ما دام سبب المنع مبينًا له بأسلوب راقٍ وهادئ.
إن بيان أسباب منع الأبناء من أداء ما كانوا يرغبون بأدائه، والشرح والتعليل لهم، يفيد الأبناء إفادة في غاية الأهمية، فهو بناء للعقلية السببية لدى الطفل؛ "حيث نعوده منذ الصغر أن يربط بين الظواهر وأسبابها، والنتائج ومقدماتها، وذلك يقوي لديه الرؤية المنطقية والمنهجية، ويساعده على النجاح في الحياة، كما يجعل عقله في مأمن من تسرب الخرافة إليه، فحين نقول للطفل: «لا تخرج إلى اللعب اليوم؛ لأن الجو بارد»، وحين نقول له: «نظف أسنانك كي تبقى قوية وسليمة»، فإننا بذلك نساعده على أن يفهم مفردات الوجود في إطار من الترابط والتعالق، وهذا هو واقع الحياة في الحقيقة.
كذلك يفيد الشرح والتعليل الأبناء في الحفاظ على كرامتهم؛ إذ إن الشرح ينطوي على اعتراف بأهمية الطفل، ونحن لا نريد أن نربي "إمعة"، يتصرف كالتابع الذليل، وإنما نريد أن نربي رجلًا مستقل الشخصية، متميز الكيان، يعمل ما يقتنع به، ونحن حين نشرح للطفل مواقفنا وأسباب رفضنا لأمر يرغب في القيام به، فإننا نمنحه فرصة الدفاع عن رأيه، والمجادلة عن وجهة نظره، وقد تكون صحيحة ومقنعة" [دليل التربية الأسرية، د. عبد الكريم بكار (143-144)].
إن رفق الآباء والأمهات في حل أخطاء الأبناء هو في الحقيقة يعينهم على تصحيح هذه الأخطاء، وتوجيه الأبناء وإرشادهم، فكلما كانت الكلمات مناسبة ومنتقاة كلما كان التوجيه أوقع، وكلما كان الصوت منخفضًا وهادئًا كلما كانت النصيحة أنفع، وكلما كانت الحكمة من المنع أو الطلب واضحة كلما كانت الطاعة أسرع، فإرشاد الأبناء وتوجيههم يكون بالرفق لا بالشدة، يكون بالحوار لا بالتسلط، يكون بالتفاهم لا بالقسر، يكون بالحب والحنان لا بالقهر.