logo

عندما يغيب العفاف عند المرأة


بتاريخ : الاثنين ، 3 جمادى الآخر ، 1447 الموافق 24 نوفمبر 2025
عندما يغيب العفاف عند المرأة

العفة هي: خلق إيماني رفيع للمؤمن، وثمرة من ثمار الإيمان بالله تعالى، العفة دعوة إلى البعد عن سفاسف الأمور وخدش المروءة والحياء، العفة لذة وانتصار على النفس والشهوات وتقوية لها على التمسك بالأفعال الجميلة والآداب النفسانية، العفة إقامة العفاف والنزاهة والطهارة في النفوس، وغرس الفضائل والمحاسن في المجتمعات.

ولا يصل الإنسان إلى العفة الكاملة حتى يكون عفيف اللسان واليد والسمع والبصر والبطن والفرج، فلا يسخر ولا يهزأ ولا يتجسس ولا يغتاب ولا ينم ولا يهمز ولا يلمز ولا يمد عينه إلى ما حرم الله.

إن العفاف في حياة المرأة المسلمة ليس خُلُقًا جانبيًا، بل هو عماد شخصيتها، وسور كرامتها، ودليل إيمانها.

العفاف هو جوهرة المرأة، والحياء تاجها، والالتزام بضوابط الشرع زينتها التي لا تبلى.

العفاف هو سبيل الحياة الزَّوجية السَّعيدة، وسبيل راحة البال، وأنَّ العفَّة فيها نجاةٌ من الفواحش، وفيها طهارةٌ للفرج ونقاءٌ للمجتمع، وأنَّ العفيف في ظلِّ الله كما جاء في حديث السَّبعة، وأنَّه يُضاعف له الثَّواب ويتحقَّق لديه الإيمان، ويصرف الله عنه السُّوء والفحشاء.

وليس العفاف انطواءً ولا ضعفًا، بل هو قوة داخلية تضبط الغريزة وتسمو بالنفس عن الرخص والدنايا.

معنى العفاف ومكانته في الإسلام:

العفاف هو كفّ النفس عمّا لا يليق من قولٍ أو فعلٍ أو نظرةٍ أو لباسٍ، طلبًا لرضا الله، وصونًا للنفس عن دنس الشهوة المحرمة.

ونظرة القرآن الكريم إلى حياة العفاف على أنه الأساس في بناء المجتمعات الإنسانية يحفظ لها توازنها وقيامها، وبمثابة الضابط الذي يضبط شهوات النفوس ومراداتها، به تصان المجتمعات الإنسانية من الهتك، وبامتثالها تسلم من الفتك، وبالتزامها تنجو من البوار، إضافة إلى أنها الوسام الذي يتميز به المؤمن الصادق من غيره، فهو من هذا المنطلق يشكل قاعدة أساسية لتقويم الإنسان في هذه الحياة لارتباط مصيرهم به.

وقد أثنى الله على من تحلّى به فقال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33].

فـإذا أطلـق لفـظ العفـة فإنه ينـصرف إلى صـون الفـرج عـن الوقـوع فـي الحـرام، ولا يعـذر المـرء بعـدم قدرتـه على الـزواج تجاوزه حدود العفة أو انتهاكه ســياج العفاف، فإن الآية واضحة في إرشـادها لمن لا يتيـسر لـه النكاح، بـل الواجـب فـي جميع الأحـوال التعفـف والأخـذ بالأسـباب المعينة عليه، ولقـد أثنى الله تعالى فـي عـدة مـواطن في كتابه الكريم على من يتعفف ويحفظ عرضه وشـرفه، ويـبين ذلـك بأنـه صـفة مــن صــفات أهــل الإيمان فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)} [المعارج: 29- 30]، وهذا يدل دلالة واضحة علـى أن العفـة ذات مكانـة جليلـة، حتـى كأنهـا هـي كـل الـشرف، ثـم الحياء مـن الله يكـرم الله العبـد مـن واسـع فـضله ويغنيه برحمته بزوجـة مناسـبة تمـلأ بيتـه خيرًا وسـعادة، وتعينـه علـى أمـور دينـه ودنياه فـضلًا منـه واحـسانًا، وصـدق الله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ}، ليطلـب مـن الله العفة ومنعه فـي الوقـوع فيمـا لا يحل، وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله» (1).

قال القاري: يعفه الله أي يجعله عفيفًا من الإعفاف وهو إعطاء العفة، وهي الحفظ عن المناهي يعني من قنع بأدنى قوت وترك السؤال تسهل عليه القناعة وهي كنز لا يفنى (2).

الميل الجنسي يجب أن يظل نظيفًا بريئًا موجهًا إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة، وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج، فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجًا خاصًا، وبذلك لا تحتاج إلى البغاء، وإلى إقامة مقاذر إنسانية، يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس، فيلقي فيها بالفضلات، تحت سمع الجماعة وبصرها! إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج، بحيث لا تخرج مثل هذا النتن، ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة، في صور آدمية ذليلة.

وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف، الذي يصل الأرض بالسماء، ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله (3).

وعلى المؤمنين والمؤمنات {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور: 33] أي: الذين لا يجدون الوسائل والأسباب التي توصلهم إلى الزواج بسبب ضيق ذات اليد، أو ما يشبه ذلك، عليهم أن يتحصنوا بالعفاف، وأن يصونوا أنفسهم عن الفواحش، وأن يستمروا على ذلك حتى يرزقهم الله تعالى من فضله رزقًا، يستعينون به على إتمام الزواج.

ارتفع الإسلام بالمرأة وبالعلاقات الزوجية إلى ذلك المستوي الرفيع الطاهر الكريم الذي سبقت الإشارة إليه، وأنشأ للمرأة ما أنشأ من القيمة والاعتبار والحقوق والضمانات.. وليدة لا توأد ولا تهان، ومخطوبة لا تنكح إلا بإذنها ثيبًا أو بكرًا، وزوجة لها حقوق الرعاية فوق ضمانات الشريعة، ومطلقة لها هذه الحقوق المفصلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وغيرها..

شرع الإسلام هذا كله، لا لأن النساء في شبه الجزيرة أو في أي مكان في العالم حينذاك شعرن بأن مكانهن غير مرض، ولا لأن شعور الرجال كذلك قد تأذى بوضع النساء، ولا لأنه كان هناك اتحاد نسائي عربي أو عالمي، ولا لأن المرأة دخلت دار الندوة أو مجلس الشورى، ولا لأن هاتفًا واحدًا في الأرض هتف بتغيير الأحوال، إنما كانت هي شريعة السماء للأرض، وعدالة السماء للأرض، وإرادة السماء بالأرض، أن ترتفع الحياة البشرية من تلك الوهدة، وأن تتطهر العلاقات الزوجية من تلك الوصمة، وأن يكون للزوجين من نفس واحدة حقوق الإنسان وكرامة الإنسان.

هذا دين رفيع لا يعرض عنه إلا مطموس، ولا يعيبه إلا منكوس، ولا يحاربه إلا موكوس، فإنه لا يدع شريعة الله إلى شريعة الناس إلا من أخلد إلى الأرض واتبع هواه (4).

وقال سبحانه في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5].

قال ابن القيم رحمه الله: إن للعفة لذة أعظم من لذة قضاء الوطر، لكنها لذة يتقدمها ألم حبس النفس، ثم تعقبها اللذة، أما قضاء الوطر فبالضد من ذلك (5).

مظاهر اهتمام الإسلام بالعفاف:

فمن مظاهر هذا الاهتمام، اهتمامه بمرتكزات العفة وأسسها والحيلولة بينها وبين معاول هدمها، من ذلك:

١- تشريع الحجاب ليبقى الكيان الإنساني محتشمًا محفوظًا من الانحلال ومن ارتكاب الرذائل، وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] (6).

2- الأمر بغض البصر أمانا من الفتنة، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 30، 31]

تمتد أو تتجاوز اليد أو العين حدود العفة، وكما قال أيضًا: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131]

٣- الأمر بالستر وعدم المجاهرة بالمعاصي، لئلا تذبل العفة بالمجاهرة بالفواحش، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19].

4- تشريع الاستئذان حفاظًا على الأسرار وسترًا على الأعراض: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)} [النور: 27 - 29].

٥- الأمر بالتزام الحدود وعدم تخطيها أو تجاوزها إلى ما لا يليق أو يجوز، ضمانًا من الوقوع فيما لا يجوز أو لا يحمد عقباه، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]، {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 13، 14].

٦- النهي عن قربان مظان المفاسد ومزالق الأنفس ومواطن الأوبئة حتى لا يقع المسلم فيها، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، وقال: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34].

٧- الأمر باتقاء مواطن الشبهات تعففًا من الوقوع في المشتبهات أو المشبهات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12].

عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» (7).

والعفاف في المرأة المسلمة ليس فقط ستر الجسد، بل ستر الروح والفكر واللسان والنظرة والسلوك.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» (8).

والحياء نوعان:

أحدهما: غريزي، وهو خلق يمنحه الله العبد ويجبله عليه فيكفه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثه على فعل الجميل وهو من أعلى مواهب الله للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثر ما يؤثره الإيمان من فعل الجميل والكف عن القبيح، وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان؛ فهو وسيلة إليه كما قال عمر: من استحيى اختفى، ومن اختفى اتقى ومن اتقى وقي.

والنوع الثاني: أن يكون مكتسبًا، إما من مقام الإيمان كحياء العبد من مقامه بين يدي الله يوم القيامة فيوجب له ذلك الاستعداد للقائه، أو من مقام الإحسان، كحياء العبد من اطلاع الله عليه وقربه منه، فهذا من أعلى خصال الإيمان (9).

  العفاف في المظهر:

بارتداء الحجاب الشرعي الذي أمر الله به، زينةً في الطاعة لا في الفتنة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59].

إن الآيات التي تدعو إلى الحجاب هي في الحقيقة تدعو إلى العفاف وتحض عليه، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب : 59]، وهكذا نجد أن حجاب المرأة المسلمة بالإضافة إلى كونه صيانة لها فهو وسيلة من وسائل إشاعة العفة والفضيلة في المجتمع.

العفاف في القول:

بالبعد عن الخضوع بالقول أو التكسّر في الحديث، قال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32].

 

العفاف في العلاقات:

بعدم التهاون في الاختلاط غير المنضبط، أو الحديث المبتذل، أو التوسع في المراسلات بحجة “النية الطيبة”.

ذكر أبو الفرج ابن الجوزي: أن امرأة جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج، فنظرت يومًا إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها: أترى أحدًا يرى هذا الوجه ولا يفتن به؟ قال: نعم، قالت: مَنْ؟ قال: عبيد بن عمير، قالت: فائذن لي فيه فلأفتننه، قال: قد أذنت لك، فأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحية في المسجد الحرام، فأسفرت عن وجه مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أَمَةَ الله استتري، فقالت: إني قد فتنت بك، قال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتيني نظرت في أمرك، قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك، قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاكِ ليقبض روحك أكان يسركِ أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت. قال: فلو أُدخلتِ قبركِ، وأجلستِ للمسألة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم، ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو أردت الممر على الصراط، ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقتِ، قال: فلو جيء بالميزان، وجيء بك، فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقتِ، قال: اتقي الله، فقد أنعم عليك وأحسن إليك، قال: فرجعت إلى زوجها، فقال: ما صنعتِ؟ قالت: أنت بطالٌ ونحن بطالون، فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة، فكان زوجها يقول: مالي ولعبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروسًا فصيرها راهبة (10).

العفاف في الفكر والقلب:

بصيانة الخواطر والنية عن الانحراف، وغض البصر عما يثير الشهوة، فعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العينان تزنيان، واللسان يزني، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويحقق ذلك الفرج أو يكذبه» (11).

وقيل: إنما سميت هذه الأشياء زنا لأنها دواعي إليه (12).

أثر العفاف في حياة الفرد:

الطمأنينة الداخلية:

العفاف يمنح القلب راحة وضياءً، ويغرس في النفس ثقةً وإحساسًا بالعزة، فالمستعففة تعرف أنها أغلى من أن تُبتذل، وأرفع من أن تكون سلعة للأنظار.

صيانة الشرف والسمعة:

العفاف سياج يصون المرأة من التهمة والريبة، ويجعلها محل تقدير واحترام بين الناس.

رضا الله ورفعة الدرجات:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا، ففاضت عيناه والمرأة المستعففة في مقامٍ لا يقلّ عن هذا الرجل في طهرها وصبرها» (13).

فالذي يتمسك بحياة العفة والشرف أمام الإغراء ولا يلين جعله الرسول صلى الله عليه وسلم من الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.

أسباب ضياع العفة:

ويؤدي إلى ضياع العفة أسباب، وهذه الأسـباب إمـا مباشـرة، وذلـك بتـشويه صورة القيم والمثل والثوابت كحال المجتمعات الغربية، أو غير مباشرة كانتشار بعض العادات التي تصادم العفة وتزاحمها، وهي كثيرة منها:

١- التساهل منذ البداية في التربية بالقدوة، وفي طلب الحياة الاجتماعية الطيبة، سواء من الوالدين أو من المجتمع: {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]، فإنها من أعظم عوامل الإصلاح أو الإضلال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» (14).

٢- فتح أبواب مصادر الانحرافات وتسهيل سبل الوصول إليها، أعظمها المرأة بمسخ صورتها وسلب مكانتها، قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء» (15).

وكارتیاد أماكن الاختلاط، والمجون لغير ضرورة، واقامة نوادي وحفلات اللهو، وصرف الطاقات من العقول والأوقات والمال والجهود لترويجها.

٣- تحويل بعض نعم الله إلى أداة فساد وتدمير كالإعلام بأنواعه، وترويج وسائل المحرمات والممنوعات وسبل الغواية وطرق الفواحش.

٤- تزيين نظم دعاة المفسدين للعقل كالفن وتحرير المرأة، عروض الجمال والأزياء، ومسخ المفاهيم بتقليدهم والإعجاب والانبهار بحضارتهم ومدنيتهم.

٥- تعطيل برامج التوجيه والإرشاد، أو عدم الاكتراث به، أو تقييدها وحصرها الاعوجاج والانحراف في حينه، في مصب قليل النفع، أو إهمال متابعة المجتمع من حيث إصلاح

٦- وضع معوقات أمام اكتساب طرق العفة، كتصعيب أمر الزواج بمختلف العفة. الأشكال، بالتالي یتجه أفراد المجتمع إلى طرق معوجة ينتج عنها ضياع.

٧- الرفقة الفاسدة: قال تعالى مبينًا مآل الصحبة والصداقة المنحرفة: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)} [الفرقان: 27، 28].

نطق عقبة بالشهادة لسبب فعاتبه خليله أمية فارتد عن الإسلام ارضاء لخليله متغافلًا عن مصيره.

وما أبلغ وأصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه، أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك، أو ثوبك، أو تجد منه ريحا خبيثة» (16).

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي» (17).

٨- القيود الشرعية: الإنسان بجبلة خلقته يميل إلى الانفلات من القيود التي تتسم بطابع الثقل على النفس، لكنه بترويض نفسه باستحضار عظمة الله على التقيد بأحكام الشرع يصبح شخصية إسلامية، وتبعًا لذلك تتكيف شخصيته على كيفية إشباع غرائزه ورغباته، فإذا كانت العقيدة الإسلامية هي الأساس لتوجهاته كانت شخصيته إسلامية ناضجة واعية متميزة، فتتأتى منه التكاليف الشرعية أمرًا ونهيًا عن علم وطواعية منضبطة، وهذا صحيحًا وفق أحكام الشرع، فيعرف الحلال والحرام، ويعي جيدًا واجباته، حينئذ يصدر الإنسان الأحكام على أفعاله وأقواله إصدارًا لا يعني عصمته من الزلات والهفوات، غير أنها لا تأخذ مكانا فتؤثر في توجهه، وكلما استزاد ثقافة شرعية قويت نفسه واستقام توجهه حتى يستولي على تصرفات نفسه، ويكون هواه تبعًا لما أنزله الله وبما جاء به النبي ولا يسع بعد ذلك من نطق بالشهادة بربوبية الله وبألوهيته وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع هواه (18).

أثر غياب العفاف على الفرد والمجتمع.

إذا ضعف العفاف وانهار الحياء، انهارت معه قيم الأسرة، واستُبيحت الأعراض، وتفكّك المجتمع من داخله، فغياب العفاف يورث:

ضياع الهوية الإيمانية للمرأة:

حين تنساق وراء التقليد الأعمى للغرب، وتظن أن الحرية تعني التبرج والانفلات، تفقد ذاتها وتضيع رسالتها.

انتشار الفاحشة والتحلل الأخلاقي:

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19].

تفكك الأسرة وضعف الثقة بين أفرادها:

فحين يغيب الحياء من المرأة، يفقد الرجل الأمن النفسي، ويختلّ ميزان المودة والرحمة.

ضياع الأجيال وفساد النشء:

لأن المرأة إذا انحرفت، ضاع من بعدها البيت والأبناء، فهي الأم والمربية والمُلهمة، فإذا غاب عفافها، غابت القدوة.

قال الشاعر الحكيم:

وإذا النساءُ نشأنَ في أمّيةٍ     رضعَ الرجالُ جَهالةً وخُمولَا

مسؤولية المجتمع في حفظ عفاف المرأة:

- بالتربية على الحياء منذ الصغر.

- بتشجيع الزواج وتيسير أسبابه.

- بضبط الإعلام والتواصل الاجتماعي من الانحراف والإغراء.

- إحياء القدوة الطاهرة في البيت والمدرسة والمسجد.

فالعفاف لا يُصان بالوعظ وحده، بل ببيئةٍ نظيفةٍ تغرس الحياء وتُحاصر الفتنة.

دعوة إيمانية

يا أختاه، إن العفاف ليس تقييدًا لحريتك، بل هو تحريرٌ لروحك من أن تُستعبد للشهوة والنظر، هو جسر الكرامة إلى رضا الله، وسرّ القبول في الدنيا والآخرة.

تذكّري أن جمالك الحقيقي هو جمال الإيمان والخلق، لا المساحيق ولا الزينة الزائلة.

وما التمست المرأة رضا الله بمثل أن تقعد في بيتها وتعبد ربها وتطيع بعلها، قال علي رضي الله عنه لزوجته فاطمة رضي الله عنها: يا فاطمة، ما خير للمرأة؟ قالت: أن لا ترى الرجال ولا يروها، وكان علي رضي الله عنه يقول: ألا تستحون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها (19).

إنّ العفاف حصن المجتمع وسياج الأمة، وإنّ غيابه طعنة في قلب الإيمان، ومؤذنٌ بزوال البركة والأمن، فلنربِّ بناتنا وأمهاتنا وأخواتنا على الحياء والعفة، ولنجعل بيوتنا بيئة نقية تُثمر طهرًا وإيمانًا.

قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حق على الله عونهم: الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف» (20).

نشر ثقافة العفة في مجتمعاتنا وذلك من خلال العمل على الأمور التالية:

 1- التشجيع على الحجاب الشرعي بلا تشدد على مظهره.

2- الحرص على أن يكون تواصل المرأة مع الآخرين بلا ابتذال ولا تهتك ولا خضوع في القول.

3- الارتقاء بمستوى الخطاب الدعوي عن الإسفاف والانحدار والتشفي والانتقام والشتائم.

4- بذل النصيحة في موضعها لتلافي الأخطاء الأسرية السلوكية.

5- تنظيم العلاقة المشتركة بين النساء والرجال وحصرها ضمن دائرة الضرورة.

6- كشف خطر التبرج والزينة واتباع الموضة والأزياء الوافدة من بلاد الغرب.

7- محاربة أماكن اللهو والفجور والمسابح المختلطة وشواطئ البحار وأماكن التعري والتحذير من ارتيادها.

8- التحذير من الألبسة الضيقة والشفافة والقصيرة والجينز والشورت والبنتاكور وغيرها من أدوات الغزو الاجتماعي الخطير.

9- العناية بألبسة الأطفال المحتشمة، وتعوديهم على خلق الستر والحياء من نعومة أظفارهم.

***

--------------

(1) أخرجه البخاري (1427).

(2) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 262).

(3) في ظلال القرآن (4/ 2517).

(4) في ظلال القرآن (6/ 3598).

(5) روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 344).

(6) الأخلاق الإسلامية وأسسها (3/ ٥٨٢).

(7) أخرجه مسلم (1599).

(8) أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35).

(9) فتح الباري لابن رجب (1/ 103).

(10) روضة المحبين (ص: 340).

(11) أخرجه ابن حبان (4419).

(12) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (23/ 157).

(13) أخرجه البخاري (1423).

(14) أخرجه مسلم (2674).

(15) أخرجه مسلم (2740).

(16) أخرجه البخاري (2101).

(17) أخرجه أبو داود (4832).

(18) العفة في ضوء القرآن الكريم (ص: 145).

(19) الكبائر للذهبي (ص: 176).

(20) أخرجه الترمذي (1655).