logo

صور بر الوالدين بعد الموت


بتاريخ : السبت ، 21 شعبان ، 1442 الموافق 03 أبريل 2021
بقلم : تيار الاصلاح
صور بر الوالدين بعد الموت

بر الوالدين عبادة من أجل العبادات، وواجب من أهم الواجبات، وفريضة وقربة من أعظم الفرائض وأفضل القربات، وقد قرنه الله تعالى بتوحيده وعبادته، وقرن حقهما بحقه، وشكرهما بشكره في أكثر من موضع في كتابه فقال الله جل في علاه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وقال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وقال أيضًا: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].

قال مجاهد: {وَقَضَى} يعني: وصى، وكذا قرأ أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، والضحاك بن مزاحم: ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، ولهذا قرن بعبادته بر الوالدين فقال: {وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا} أي: وأمر بالوالدين إحسانًا، كما قال في الآية الأخرى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].

وقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] أي: لا تسمعهما قولًا سيئًا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} أي: ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} أي: لا تنفض يدك على والديك.

ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} أي: لينًا طيبًا حسنًا بتأدب وتوقير وتعظيم.

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي: تواضع لهما بفعلك، {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} أي: في كبرهما وعند وفاتهما (1).

قال الرازي: إنما أردف عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه:

أحدها: أن نعمة الله تعالى على العبد أعظم، فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعم النعم، وذلك لأن الوالدين هما الأصل والسبب في كون الولد ووجوده، كما أنهما منعمان عليه بالتربية، وأما غير الوالدين فلا يصدر عنه الإنعام بأصل الوجود، بل بالتربية فقط، فثبت أن إنعامهما أعظم وجوه الإنعام بعد إنعام الله تعالى.

وثانيها: أن الله سبحانه هو المؤثر في وجود الإنسان في الحقيقة، والوالدان هما المؤثران في وجوده بحسب العرف الظاهر، فلما ذكر المؤثر الحقيقي أردفه بالمؤثر بحسب العرف الظاهر.

وثالثها: أن الله تعالى لا يطلب بإنعامه على العبد عوضًا البتة؛ بل المقصود إنما هو محض الإنعام والوالدان كذلك، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضًا ماليًا ولا ثوابًا، فإن من ينكر الميعاد يحسن إلى ولده ويربيه، فمن هذا الوجه أشبه إنعامهما إنعام الله تعالى.

الرابع: أن الله تعالى لا يمل من الإنعام على العبد ولو أتى العبد بأعظم الجرائم، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه وروادف كرمه، وكذا الوالدان لا يملان الولد ولا يقطعان عنه مواد منحهما وكرمهما، وإن كان الولد مسيئًا إلى الوالدين.

الخامس: كما أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان، فكذا الحق سبحانه وتعالى متصرف في طاعة العبد فيصونها عن الضياع، ثم إنه سبحانه يجعل أعماله التي لا تبقى كالشيء الباقي أبد الآباد، كما قال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261].

السادس: أن نعمة الله وإن كانت أعظم من نعمة الوالدين ولكن نعمة الله معلومة بالاستدلال ونعمة الوالدين معلومة بالضرورة، إلا أنها قليلة بالنسبة إلى نعم الله؛ فاعتدلا من هذه الجهة، والرجحان لنعم الله، فلا جرم جعلنا نعم الوالدين كالتالية لنعم الله تعالى (2).

وقوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلًا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، فلذلك خص هذه الحالة بالذكر.

وأيضًا؛ فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل ويكثر الضجر؛ فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر (3).

وعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك» (4).

قال العلماء: وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه وشفقتها وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته وخدمته وتمريضه وغير ذلك (5).

وقال بن بطال مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها ثم تشارك الأب في التربية (6).

وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة» (7).

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة عاق» (8)، وجعل من أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين.

وإذا كان بر الوالدين في حياتهما قد جمع من الخير أكمله، ومن الإحسان أجمله، وحاز من المعروف أنفعه، وحوى من الفضل أرفعه؛ فإن الاستمرار على ذلك بعد وفاتهما أكمل وأجمل وأنفع وأرفع، فحاجتهما إلى هذا البر أكبر ونفعه لهما أعظم، فإن الإنسان إذا مات انقطع عمله، وتوقف رصيده؛ فيصبح أغلى شيء عنده أن يهدي إليه أحد من أهل الدنيا حسنة أو دعوة أو ثواب عمل يجري أجره عليه، وهنا يأتي دور الولد الصالح الذي أخبر عنه النبي صلوات الله عليه وسلامه بقوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» (9).

فيكون هذا الولد بما يعمله لهما من أعمال البر والخير امتدادًا لعمل قد انتهى، ووصلًا لحبل قد انقطع، وأجرًا لا يتوقع حصوله ولا حدوثه؛ فيسعد به الميت، ويدخل عليه السرور، وتُرفع به درجته، وتُغفر به زلته، وربما أنقذه به من النار.

البر بعد الموت في حياة الناس ربما كان من المسلمين من قصر في حق والديه في حياتهما، ولم يقم بحق برهما حق القيام.

وربما كان هناك من أساء إلى والديه، أو عقهما ويريد أن يتوب ويكفر عن هذا، ويود لو أمكنه برهما بعد موتهما.

وربما كان هناك من قام بواجب البر وحق الوالدين في حياتهما، ويتمنى لو أمكنه الاستمرار في هذا الفضل وذاك الواجب بعد وفاتهما، فنقول لهؤلاء جميعًا: إن من فضل الله تعالى على الآباء والأبناء جميعًا أنه لم يوقف البر على حياة الوالدين، ولم يقطعه بموتهما، بل أبقى حقوق البر على الابن بعد موت والديه لمن أراد الخير، وليفتح أبواب النفع أمام الحي والميت جميعًا.

فعن أبي أسيد الساعدي: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: «نعم؛ الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما» (10).

صور من البر:

فذكر النبي عليه الصلاة والسلام صورًا من صور بر الأبناء للآباء بعد موتهم فمن ذلك:

أولًا: الصلاة عليهما والاستغفار لهما: والصلاة هنا معناها الدعاء لهما، أي أن تكثر الدعاء لهما بكل خير ممكن حصوله لهما وينفعهما دار الآخرة، أن يوسع الله قبورهما، وأن يجعلها روضة من رياض الجنة، وأن يرزقهما النعيم فيها، وأن يرفع الله درجاتهما، ويتقبل أعمالهما، ويجعلهما مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وأن يجعلهما في رفقة النبي عليه الصلاة والسلام في أعلى عليين في الفردوس الأعلى.

والاستغفار لهما: هو طلب العفو والصفح والمغفرة، وهو أعلى وأغلى الأدعية، وهو دعاء الأنبياء لوالديهم كما قال نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28].

وقال إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]، وقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام هذا الدعاء علامة على صلاح الابن كما في الحديث السابق: «وولد صالح يدعو له»، قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له؛ إلا في هذه الأشياء الثلاثة، لكونه كان سببها؛ فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف (11).

وإنما ذكر دعاءه تحريضًا للولد على الدعاء لأبيه، حتى قيل: يحصل للوالد ثواب من عمل الولد الصالح سواء دعا لأبيه أم لا، كما أن من غرس شجرة يجعل للغارس ثواب بأكل ثمرتها سواء دعا له الآكل أم لا (12).

وثبت في الحديث الصحيح في مسند أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك»(13).

قال الطيبي: دل الحديث السابق على أن الاستغفار يحط من الذنوب أعظمها، وهذا يدل على أنه يرفع درجة غير المستغفر إلى ما يبلغها بعمله، فما ظنك بالعامل المستغفر، ولو لم يكن في النكاح فضيلة غير هذا لكفى به فضلًا، والله أعلم (14).

ثانيًا: وإنفاذ عهدهما من بعدهما، قال بعض العلماء: المقصود هنا هو الوصية، والحق أن العهد أكبر من الوصية؛ وإن كانت الوصية أوله وآكده، فإذا كانت بالثلث أو أقل وجب تنفيذها، وإن زادت استحب لهم تنفيذها من باب البر والفضل، لا من باب الوجوب والحتم.

ويدخل في معنى العهد: إذا كان أحد الوالدين عهد بالإحسان إلى أخ لحاجته، أو إلى أخت لفقر أو مرض، أو إلى جار أو قريب بعينه، أو صاحب أو صديق، أو بالاهتمام بشيء معين، فمن البر تنفيذ ذلك والقيام به ما لم يكن إثمًا أو معصية.

ثالثًا: وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما: فصلة الرحم واجبة في حد ذاتها، وتكون أوجبَ بعد وفاة الأصول كالأب والأم، وهذه الصلة تشمل الأعمام والعمات وأبنائهم، والأخوال والخالات وأبنائهم، والإخوة والأخوات من باب أولى، فنحرص على صلتهم والإحسان إليهم، وانتقاء الكلمات الطيبة لهم، وزيارتهم باستمرار حتى لا تنقطع الرحم بعد وفاة الوالدين، وإنما تظل متصلةً؛ فننال بها أجر صلة الرحم وبر الوالدين بعد موتهما.

خامسًا: إكرام صديقهما: فكلٌّ من الآباء والأمهات يكون لديهم أصدقاء مقربون منهم في حياتهم، فمن عظيم البر وعلامات الحب والتقدير للآباء والأمهات صلة هؤلاء الأصدقاء بعد وفاة الوالدين؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه» (15).

عن ابن عمر، أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروح عليه إذا ملَّ ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يومًا على ذلك الحمار، إذ مر به أعرابي فقال: ألست ابن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، وقال: اركب هذا، والعمامة وقال: اشدد بها رأسك، فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيت هذا الأعرابي حمارًا كنت تروَّح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك؟! فقال: إني سمعت رسول الله يقول: «إن من أبر البر صلة الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولى»، وإن أباه كان ودًّا لعمر (16).

وعن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وعن أبيه قال: قَدِمتُ المدينة فأتاني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: أتدري لِمَ أتيتُكَ؟ قلت: لا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب أن يصل أباه في قبره؛ فليصل إخوان أبيه بعده» أي: أصدقاء أبيه من بعد موته، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاءٌ وَوُدٌّ، فأحببتُ أنْ أصِلَ ذاك (17).

ومن صور بر الوالدين بعد موتهما أيضًا: قضاء الديون والنذور والكفارات: فالميت مرهون بدينه، أي محبوس عن الجنة بسببه حتى يقضى عنه، وفي الحديث: «القتل في سبيل الله يكفر كل شيء، إلا الدين» (18).

وأما النذر فقد جاء عن ابن عباس، أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهرًا، فنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت فجاءت، ابنتها أو أختها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأمرها أن تصوم عنها» (19).

وعنه أيضًا، أن امرأة من جهينة، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» (20).

ولا شك أن هذا الحديث يشمل الكفارات، فهي أخت للنذور.

واختلف العلماء فيمن عليه صوم من شهر رمضان فمات قبل أن يقضيه، فقالت طائفة: جائز أن يصام عن الميت، وهو قول طاوس، والحسن، والزهري، وقتادة، وبه قال أبو ثور، وأهل الظاهر، واحتجوا بهذه الأحاديث التي ذكرها البخاري.

وقال أحمد بن حنبل: يصوم عنه وليه في النذر، ويطعم عنه في قضاء رمضان، وذكر ابن وهب عن الليث أنه يصوم عنه وليه في النذر.

وقال ابن عمر، وابن عباس، وعائشة: لا يصوم أحد عن أحد، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعي، وحجة هؤلاء أن ابن عباس لم يخالف بفتواه ما رواه إلا لنسخ علمه، وكذلك روي عن عائشة أنها قالت: يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام عنه.

قال ابن القصار: ومعنى الأحاديث التي احتجوا بها عندنا أن يفعل عنه وليه ما يقوم مقام الصيام، وهو الإطعام، ويستحب لهم فيصيرون كأنهم صاموا عنه.

قال المهلب: ولو جاز أن يقضى عمل البدن عن ميت قد فاته لجاز أن يصلى الناس عن الناس، ويؤمنون عنهم، ولو كان سائغًا لكان رسول الله أحرص الناس أن يؤمن عن عمه أبى طالب لحرصه على إدخاله في الإسلام، والإيمان من عمل القلب، والقلب عضو من أعضاء البدن اللازم لها الأعمال، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يؤمن أحد عن أحد، ولا يصلى أحد عن أحد، واختلفوا في الصوم والحج، فيجب أن يرد حكم ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه.

قال ابن القصار: ولما لم يجز الصيام عن الشيخ الكبير في حياته كان بعد الموت أولى من ألا يجوز، وذهب الكوفيون والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى أنه واجب أن يطعم عنه من رأس ماله وإن لم يوص، إلا أبا حنيفة فإنه قال: يسقط عنه ذلك الموت، وقال مالك: الإطعام غير واجب على الورثة إلا أن يوصى بذلك إليهم فيكون في ثلثه، فإن قال من أوجب الإطعام أن النبي عليه السلام، شبهه بالدين قيل: هو حجة لنا، لأنه قال: أفأقضيه عنها؟ ونحن نقول: قضاؤه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، وقوله: «أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟»، إنما سأله هل كنت تفعل ذلك تطوعًا، لأنه لا يجب عليه أن يقضى دين أمه إذا لم يكنه لها تركة (21).

الصدقة عنهما: وهو الباب الأوسع والأضمن، فقد أجمع أهل العلم على وصول ثواب الصدقة إلى الميت، كما قال ابن المبارك: ليس في الصدقة خلاف، كما ثبت في صحيح البخاريّ عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: «نعم»، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها (22).

ومن أفضل الصدقة الوقفُ النافع لهما: لأن أجره دائم، ومن أمثلته ما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته» (23).

فبناء المساجد والربط، والمشافي والمستوصفات الخيرية لعلاج المحتاجين، وحفر الآبار، وطباعة المصاحف وكتب العلم النافع، وكفالة الأيتام والأرامل، وكفالة الدعاة وطلبة العلم، هذا كله من العمل الذي يستمر نفعه ويبقى أثره أوقاتًا طويلة.

إن من أعظم ما يقدمه الولد لوالديه بعد موتهما صلاحَه هو في نفسه، والتزامَه العمل الصالح، فإن الولد كسب أبيه، وكل ما يعمله مما أمره الوالد به ودله عليه وتمناه له من الدين والخير فهو في ميزان الأب والأم، فكلما أكثر من عمله كلما زاد في موازين والديه.

وقد ساق هذا المعنى الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، ويدل عليه أيضًا أمران:

الأول: حديث «مَن دعا إلى هُدًى، كان له من الأجْر مثلُ أُجُور مَن تبِعَه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالة، كان عليْه من الإثْم مثلُ آثام مَن تبِعه لا ينقص ذلك من آثامِهِم شيئًا» (24).

قال الطيبي: الهدى إما الدلالة الموصلة أو مطلق الدلالة، والمراد هنا ما يهدى به من الأعمال الصالحة وهو بحسب التنكير شائع في جنس ما يقال هدى أعظمه هدى من دعا إلى الله وعمل صالحًا، وأدناه هدى من دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المسلمين كان له، أي: للداعي (25).

والثاني: ما رواه الحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به ألبس يوم القيامة تاجًا من نور؛ ضوءه مثل ضوء الشمس، ويكسى والديه حلتان لا يقوم بهما الدنيا فيقولان: بما كسينا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن» (26).

فبروا آباءكم أحياء وأمواتًا تبركم أبناؤكم، وبروا آباءكم يرضى الله عنكم، وبروا آباءكم يوسع الله أرزاقكم، وبروا آباءكم يدخلكم الله الجنة (27).

إن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام؛ إلى الذرية، إلى الناشئة الجديدة، إلى الجيل المقبل، وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء، إلى الأبوة، إلى الحياة المولية، إلى الجيل الذاهب، ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف، وتتلفت إلى الآباء والأمهات.

إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات، وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية- إن أمهلهما الأجل- وهما مع ذلك سعيدان! فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله، ويندفعون بدورهم إلى الأمام؛ إلى الزوجات والذرية، وهكذا تندفع الحياة.

ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء، إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف، وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله (28).

_____________

(1) تفسير ابن كثير (5/ 64).

(2) تفسير الرازي (3/ 586).

(3) تفسير القرطبي (10/ 241).

(4) أخرجه لبخاري (5971)، ومسلم (2548).

(5) شرح النووي على مسلم (16/ 102).

(6) فتح الباري لابن حجر (10/ 402).

(7) أخرجه أحمد (8557).

(8) أخرجه ابن حبان (3384).

(9) أخرجه الترمذي (1376).

(10) أخرجه أبو داود (5142)، وابن ماجة (3664)، وضعفه الألباني.

(11) شرح النووي على مسلم (11/ 85).

(12) شرح سنن ابن ماجه للسيوطي وغيره (ص: 22).

(13) أخرجه أحمد (10610).

(14) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 61).

(15) أخرجه مسلم (2552).

(16) أخرجه مسلم (2552).

(17) أخرجه ابن حبان (432).

(18) أخرجه مسلم (1886).

(19) أخرجه أبو داود (3308).

(20) أخرجه البخاري (1852).

(21) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/ 100- 101).

(22) أخرجه البخاري (2756).

(23) أخرجه ابن ماجه (242).

(24) أخرجه مسلم (2674).

(25) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 242).

(26) أخرجه الحاكم (2086).

(27) بر الوالدين بعد موتهما - طريق الإسلام.

(28) في ظلال القرآن (4/ 2221).