logo

زوجة الأسير


بتاريخ : الجمعة ، 1 جمادى الأول ، 1444 الموافق 25 نوفمبر 2022
بقلم : تيار الاصلاح
زوجة الأسير

يقع في الأسر؛ سواء كان في يدي الأعداء أو أذنابهم، وتبدأ قصة مأساوية ليس بطلها الوحيد هو الأسير؛ لكن هناك بطل آخر لا يقل درجة أو منزلة عن الأسير؛ إنها زوجته، رفيقة دربه، حاملة همه وهم أبنائه، فما أن يحدث الأسر حتى يحدث معه على التوازي مشوار المعاناة، فمن سيتولى مسئولية البيت في غياب الزوج غيرها، ومن سيتحرك في أكثر من مجال سواها، فمن مسئولية الأبناء إلى مسئولية البحث عن الزوج، وأين انتهى به الأمر، وكيفية الخروج من هذا الأسر، مرورًا بمصاريف البيت والأبناء، ومصاريف الزيارة والانتقال للزوج، إلى جانب أتعاب المحاماة والقضاء، كل ذلك مع فقد العائل الأساسي لميزانية الأسرة، والذي قد يكون هو العائل الوحيد.

وتجرعت عبر السنين مرارة     وبنى الأسى في وجهها أهراما

ذابت حشاشة قلبها مما رأت      فغدت تعاني شدة وسقاما

ذكرت شريك حياتها فاسترجعت     أيام أنس قد غدت أحلاما

وتتجرع المرأة مرارة فقد الزوج -الأنيس والصاحب-، ومرارة جهل مصيره؛ وفقدان مكان احتجازه، مع سوء معاملة الجهات الآسرة لزوجها، وتعنتهم معها في إرشادها إلى مكان احتجازه، ثم تظل تنتقل من جهة إلى جهة لعلها تجد من لديه قلب بشري -متخفي لا يعرف عنه ذلك-؛ فيرشدها إلى غايتها ويحدد لها وجهتها.

وفي الليل آهات الفراق تحيط بها من كل جانب، ويعم الصمت الرهيب كل مكان، فما يسعفها إلا عبرات ودمعات تسَّكن آلامها وتهدئ من روعها، حتى يغلبها النعاس من شدة التعب والارهاق والمعاناة التي عاشتها على مدار اليوم كله.

ويزيد الأمر حسرة ومرارة وألمًا سؤال الصغير عن أبيه، ومتى سيأتي؟ ولماذا غاب عنا؟ ومتى سيأتيني بهديتي؟ وأريد رؤيته؟؟؟

كلمات تقال ببراءة الطفولة، لكنها خناجر تقطع فؤاد الزوجة المكلومة، والتي لم تجد لها جوابًا، ولا تعرف ماذا تقول، وبعد دمعات الحزن والأسى تصبر نفسها ووليدها أن هذا كله عند الله معلوم، وفي كتاب مختوم، وسيأتي يوم عند الله تجتمع فيه الخصوم، فتبًا لكل ظالم وهنيئًا لكل مظلوم.

وتظل الزوجة الصابرة تستعين بالله على أمرها، وتلجأ إليه في كل حين، وهي توقن بأن النصر وتفريج الكروب جزاء الصابرين، والجنة مصير المحتسبين.  

وتمر الأيام والشهور والأعوام، وهي تنتظر زوجها؛ تحلم بعودته وتأمل برجوعه، لا تفقد الأمل في الله، ولا الثقة في عودة الغائب، فإما أن يقر الله عينها فيرجع إليها سالمًا غانمًا، أو يرجع إليهًا شهيدًا في كفنه، مدرجًا بدمائه.

فيا ابنة الإسلام، ويا حفيدة الأبطال، لك في خير النساء أسوة، وفي السابقين عبرة.

إن خديجة رضي الله عنها كانت في الأربعين من عمرها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الخامسة والعشرين من عمره، وكان زواجًا سعيدًا ميمونًا مباركًا، ضربت فيه خديجة أروع المثل في الوفاء والبر والصلاح، والإيثار والكرم، وأكمل الله السعادة، فولدت له خديجة: القاسم ثم زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة؛ عليهم جميعًا سلام الله وصلواته.

وامتلأ البيت بالحب والرحمة والحنان، ودبت في جنباته حياة جديدة مزينة بأسمى العواطف وأنبل المشاعر، عواطف الأبوة الرحيمة من رسول الله، ومشاعر الأمومة الكريمة من خديجة، وضم هذا البيت المبارك إلى جانب أولادها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدها من زوجها السابق هند بن أبي هالة، وكذلك ضم هذا البيت عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه، وزيد بن حارثة وأم أيمن، وهي حاضنة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا هو بيت خديجة.

ومرت الأعوام تلو الأعوام على أكرم زوجين، ولما اقترب النبي عليه الصلاة والسلام من الأربعين من عمره الشريف بدأت إرهاصات النبوة تلوح في أفق حياته، فكان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح كما في صحيح البخاري.

وحبب إليه في هذه المرحلة الخلاء، فخلا بنفسه واعتزل الناس، فكان يخرج إلى غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وتزوده الزوجة الوفية المخلصة بما يحتاج إليه من طعام وشراب، فما سفهت رأيه، وما احتقرت عمله، فهو الذي كان يترك الدار والأولاد وينطلق بعيداً عن مكة بأصنامها ليتعبد لله جل وعلا في هذه الخلوة في غار حراء.

وكانت خديجة تقطع هذه المسافة على قدميها لتقدم له الطعام والشراب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

ومرت الشهور الستة للرؤيا الصادقة، وجاء شهر رمضان، وخلا النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وفي ليلة كريمة مباركة خيم على الكون هدوء خاشع، ثناه جبريل عليه السلام يقف أمام الغار، ويضم النبي المختار صلى الله عليه وسلم ضمة شديدة ويقول له: اقرأ.

والرسول يقول: ما أنا بقارئ، قال: «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1- 5]، فرجع النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الآيات الكريمات يرجف فؤاده، فدخل على خديجة -رمز الوفاء وسكن سيد الأنبياء- وهو يرتعد ويضطرب ويقول: زملوني زملوني! فزملته حتى ذهب عنه الروع.

فسيدتنا خديجة رضي الله عنها ما صرخت في وجهه وما قالت: ما الخبر؟ وإنما هدأت من روعه، فلما استيقظ واستراح وذهب عنه الروع، قالت له: ما الخبر؟ فقال لها: «لقد خشيت على نفسي» وأخبرها بما كان، فقالت الزوجة الصابرة الوفية الذكية: كلا! والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل -أي: تساعد العاجز الضعيف- وتكسب المعدوم -أي: تعطي المحروم- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وها هي الزوجة العاقلة التي تُذكر زوجها بفضائله ومناقبه إذا وقع في وقت عسرة أو أزمة أو في شدة، فلا تصرخ في وجهه ولا تعنفه ولا توبخه إذا رأته في أزمة أو ضيق.

ولم تكتف خديجة بهذا، بل ذهبت برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، وكان شيخًا كبيرًا قد فقد بصره، فقالت له خديجة: يا ابن عم؛ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ماذا ترى يا ابن أخي؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال له ورقة: هذا هو الناموس الذي نزل الله على موسى عليه السلام، يا ليتني فيها جذعًا -أي: شابًا صغيرًا- ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشب أن توفي ورقة، وفتر الوحي، أي: انقطع (1).

ثم بعد ذلك نزل على رسول الله قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 1- 4]، وبهذا بعث النبي عليه الصلاة والسلام.

وفي ميدان السبق الإيماني كانت الطاهرة الفائزة بالدرجة العليا، برتبة صديقة المؤمنات الأولى، لم يتقدمها رجل ولا امرأة كما قال جمهور أهل العلم، ومن يومها قامت بدور جديد في تثبيت وتبشير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومؤازرته ومعاونته في تبليغ الدعوة إلى الله، والصبر على عناد المشركين، وقدمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالها وعقلها وفكرها ونفسها ووقتها، بل وجعلت من دارها حصن أمن وهدوء واستقرار، بل ومن دارها سطع نور الإسلام، ومنها أضاء على الدنيا كلها.

وازداد أهل مكة عداء وإيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام، وتمادت قريش في طغيانها، وقاطعت بني هاشم مقاطعة اقتصادية كاملة مدة ثلاث سنوات، ودخلت الحصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته الصابرة الطاهرة، التي راحت تبذل مالها كله، ووقفت تشد أزره، وتشاركه في تحمل الأذى بنفس راضية صابرة محتسبة، حتى انتهى هذا الحصار الظالم وقد ازداد حب النبي صلى الله عليه وسلم لها، وازداد النبي صلى الله عليه وسلم تقديرًا لمواقفها.

وهكذا تعلمنا خديجة درسًا آخر من دروس الوفاء والصبر -أيتها الأخت المسلمة المؤمنة- فإن وقع الزوج في شدة وضيق فالزوجة الصابرة هي التي تقف إلى جوار زوجها، هي التي ترفع عنه الكرب بكلمة حانية طيبة، ولا تفرط في بيته، وسرعان ما تهرول إلى بيت أبويها حتى يرجع إلى الزوج خيره وماله، ويسترد عافيته، فهذا ليس من الوفاء، بل يجب على الزوجة أن تصبر مع زوجها في السراء والضراء على الخير والشر، لتعاونه وتؤازره إذا مر بضيق أو بأزمة من الأزمات، صبرت خديجة رضي الله عنها راضية مطمئنة، وخرجت من هذا الحصار مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد ازداد النبي صلى الله عليه وسلم حبًا لها وتعلقًا بها.

ثم ما لبثت خديجة بعد هذا الحصار أن لبت نداء الله تبارك وتعالى راضية مرضية، مبشرة من سيد النبيين بجنات ونهر بمقعد صدق عند مليك مقتدر.

هذه هي أم المؤمنين وزوجة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين، فلتقتدي بها من ترجو النجاة وتأمل في وعد الله، ولتسير على دربها كل امرأة وفتاة.

وهذه زوجة أخرى صابرة محتسبة، مجاهدة في سبيل الله، زوجة نبي كريم مصاب مبتلى، فتعينه على مصيبته، وتتحمل معه آلامه وأحزانه، وتساعده وتؤازره في شدته ومحنته، إنها زوجة نبي الله أيوب عليه السلام.

يقول ابن كثير: يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب عليه السلام، وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليمًا سوى قلبه، ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه، وما هو فيه، غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة، وتطعمه وتخدمه نحوًا من ثماني عشرة سنة.

وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا، فسلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها، ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها، فإنها كانت لا تفارقه صباحًا ولا مساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبًا.

فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر المقدور وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، وفي هذه الآية الكريمة قال: رب {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، قيل: بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي.

فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله، ففعل، فأنبع الله عينًا وأمره أن يغتسل منها، فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينًا أخرى وأمره أن يشرب منها، فأذهبت ما كان في باطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهرًا وباطنًا، ولهذا قال تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ} [ص: 42] (2).

وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكته امرأته بيده حتى يبلغ، وهذا من أعظم صبر هذه المرأة، فقد صبرت مع أيوب صبرًا عظيمًا، وصبر هو أيضًا صبرًا يضرب به المثل عليه الصلاة والسلام، وهو نبي وحق له ذلك.

وأما المرأة فليست نبية، ومع ذلك صبرت مع أيوب عليه الصلاة والسلام صبرًا عظيمًا قل أن تصبره امرأة مع زوجها، فكانت تخرج معه إلى حاجته، وتمسكه بيده حتى يبلغ. 

فإلى زوجة صابرة محتسبة، أبشرك بقول الله تعالى: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب، ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلاج الشافي، وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة، ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب.. فسبحان العليم بهذه القلوب، الخبير بمداخلها ومساربها، المطلع فيها على خفي الدبيب (3).

وإليكِ هذه المكافأة من سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، عن أبى سعيد وأبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» (4).

ولتعلمي أن كل إنسان خاضع للبلاء والامتحان من الله تعالى، ليتميز البشر، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155- 157].

أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن، ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر.

هذه فائدة المحن، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين، فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} من الأعداء {وَالْجُوعِ} أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك.

{وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ} وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية، وغرق، وضياع، وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة، وقطاع الطريق وغير ذلك.

{وَالأنْفُسِ} أي: ذهاب الأحباب من الأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد، أو بدن من يحبه، {وَالثَّمَرَاتِ} أي: الحبوب، وثمار النخيل، والأشجار كلها، والخضر ببرد، أو برد، أو حرق، أو آفة سماوية، من جراد ونحوه.

فهذه الأمور، لا بد أن تقع، لأن العليم الخبير، أخبر بها، فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين وصابرين، فالجازع، حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب، وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران، وحصل له السخط الدال على شدة النقصان.

وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط، قولًا وفعلًا واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه، لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.

فالصابرين، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره.

{قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها، فقد تصرف أرحم الراحمين، بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد، علمه، بأن وقوع البلية من المالك الحكيم، الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك، الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره، لما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله، فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورًا عنده، وإن جزعنا وسخطنا، لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله، وراجع إليه، من أقوى أسباب الصبر.

{أُولَئِكَ} الموصوفون بالصبر المذكور {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي: ثناء وتنويه بحالهم {وَرَحْمَةٌ} عظيمة، ومن رحمته إياهم، أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع، علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به وهو هنا صبرهم لله.

ودلت هذه الآية، على أن من لم يصبر، فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله، والعقوبة، والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين، وأعظم عناء الجازعين، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها، لتخف وتسهل، إذا وقعت، وبيان ما تقابل به، إذا وقعت، وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر، وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر، بضد حال الصابر.

وأن هذا الابتلاء والامتحان، سنة الله التي قد خلت، ولن تجد لسنة الله تبديلًا وبيان أنواع المصائب (5).

-----------

(1) أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160).

(2) تفسير ابن كثير (7/ 74).

(3) في ظلال القرآن (5/ 3043).

(4) أخرجه البخاري (5641).

(5) تيسير الكريم الرحمن (ص: 76).