logo

حقًا إنها ابنتي


بتاريخ : الثلاثاء ، 22 ربيع الآخر ، 1439 الموافق 09 يناير 2018
بقلم : تيار الاصلاح
حقًا إنها ابنتي

نظرت إلى قول ربي تبارك وتعالى: {للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} [الشورى:49-50]، فعلمت أن من أعظم الهبات وأجل النعمات ابنتي، حجابي من النار، وعوني على تلافي المحن والشدائد والأخطار، زهرة القلب، وسعادة النفس، وزهرة البيت، وريحانة المجلس، وعبير الدار، منحة ربانية، وعطية إلهية، وثواب وأجر من الغفار.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ابتلي بشيء من البنات فصبر عليهن كن له حجابًا من النار»(1).

جاء في فتح الباري: «وقال النووي تبعًا لابن بطال: إنما سماه ابتلاءً لأن الناس يكرهون البنات، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك، ورغب في إبقائهن وترك قتلهن، بما ذكر من الثواب الموعود به من أحسن إليهن، وجاهد نفسه في الصبر عليهن، وقال شيخنا في شرح الترمذي: يحتمل أن يكون معنى الابتلاء هنا الاختبار، أي من اختبر بشيء من البنات لينظر ما يفعل؛ أيحسن إليهن أو يسيء، ولهذا قيده في حديث أبي سعيد بالتقوى، فإن من لا يتقي الله لا يأمن أن يتضجر بمن وكله الله إليه، أو يقصر عما أمر بفعله، أو لا يقصد بفعله امتثال أمر الله وتحصيل ثوابه، والله أعلم»(2).

وفيه تأكيد حق البنات؛ لما فيهن من الضعف غالبًا عن القيام بمصالح أنفسهن، بخلاف الذكور؛ لما فيهم من قوة البدن، وجزالة الرأي، وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال(3).

قال ابن باز: «وهذا يدل على فضل الإحسان إلى البنات والقيام بشئونهن، رغبةً فيما عند الله عز وجل، فإن ذلك من أسباب دخول الجنة والسلامة من النار، ويُرْجَى لمن عال غير البنات، من الأخوات والعمات والخالات وغيرهن من ذوي الحاجة، فأحسن إليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن أن يحصل له من الأجر مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حق من عال ثلاث بنات، وفضْل الله واسع، ورحمته عظيمة، وهكذا من عال واحدة أو اثنتين من البنات أو غيرهن فأحسن إليهن يُرجى له الأجر العظيم والثواب الجزيل».

وقال: «الإحسان للبنات ونحوهن يكون بتربيتهن التربية الإسلامية وتعليمهن، وتنشئتهنّ على الحق، والحرص على عفتهن، وبعدهن عما حرم الله من التبرج وغيره، وبذلك يُعلم أنه ليس المقصود مجرد الإحسان بالأكل والشرب والكسوة فقط؛ بل المراد ما هو أعم من ذلك من الإحسان إليهن في عمل الدين والدنيا»(4).

لقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم قيمة ومنزلة البنات، وجعل لمن رزقه الله بنات، بل بنتًا واحدة، من الفضائل والمِنح ما تمتد نحوها الأعناق، وتهفو إليها القلوب، فيا عائلًا للبنات، أبشِر بحجاب من النار، وأبشر بالجنة بصحبة النبي المختار صلى الله عليه وسلم، فهو القائل: «مَن عال ابنتين أو ثلاثًا، أو أختين أو ثلاثًا حتى يَبِنَّ أو يموتَ عنهن كنتُ أنا وهو في الجنة كهاتين»، وأشار بأصبعه الوسطى والتي تليها(5).

عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني، فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة، فأعطيتها إياها، فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار»(6).

وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في الأدب مع البنات القريبات منه والبعيدات في النسب عنه؛ فقد كان يصلي أحيانًا وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها(7).

وترَكَ البنت الصغيرة التي تُدعى أم خالد تلعب بخاتم النبوة؛ قالت أم خالد بنت خالد بن سعيد: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي، وعليَّ قميص أصفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَنَهْ، سَنَهْ»، قال أحد رواة الحديث: وهي بالحبشة: حسنة.

 قالت: وذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزبرني أبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعها»، ثم قال: «أَبلي وأَخلقي، ثم أبلي وأخلقي»(8).

وترك صلوات الله وسلامه عليه البنتين الصغيرتين تحتفلان بالعيد بالغناء والضرب بالدف في بيت عائشة، ولما انتهرهما أبو بكر وانتهر بنته عائشة قائلًا: «مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!»، أقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «دعهما يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا»(9).

عن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم لا تخطئ مشيتها مشيته، فلما رآها رحب بها فقال: «مرحبًا بابنتي»، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثًا فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ ثم أسر إليها حديثًا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزنٍ، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قُبِض النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها فقالت: أسر إليَّ: «إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنكِ أول أهل بيتي لحاقًا بي»، فبكيت، فقال: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين» فضحكت لذلك(10).

وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يأتي بنته التي لها ابن على فراش الموت، لما أرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيًا لها في الموت أمر الرسول أن يرجع إليها فيخبرها: «أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب»(11)، وهذه أفضل صيغ التعزية، أن تقول لمن مات له ميت: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبر واحتسب.

فقال: إنها قد أقسمت لتأتينها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، وقال أسامة: انطلقت معهم، فرفع إليه الصبي ونَفْسُه تقعقع كأنها في شَنَّة، [اضطراب الروح في الجسد عند الغرغرة عند الموت]، ففاضت عيناه صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: «ما هذا يا رسول الله؟»، قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»(12)، من هم الرحماء، هل انتهت مسئولية النبي صلى الله عليه وسلم عن ابنته فاطمة لما زوجها ابن عمها انقطعت العلاقة؟ كلا؛ بل كان يأتيهما، ولما شكت إليه ما تلقى من أثر الرحى فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمها أن تكبر أربعًا وثلاثين، وتسبح ثلاثًا وثلاثين، وتحمد ثلاثًا وثلاثين، وأن هذا خير لها من الخادم، وقال: «إن فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني»(13)، وهكذا عبر لابنته عن شعوره صلى الله عليه وسلم، وكان يقبل شفاعتها حتى فيما شجر بين أزواجه.

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عال جاريتين حتى تَبلُغا جاء يوم القيامة أنا وهو»، وضم أصابعه(14).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم له ابنتان فيُحسن إليهما ما صحبتاه، أو صحبهما، إلا أدخلتاه الجنة»(15).

حقًا إنها ابنتي سبب سعادتي وفرحتي ومهجتي في الدنيا والآخرة, إنها مَن زرع ابتسامات الحب على شفتي, وحَلّق بقلبي إلى سماء السعادة.

أملي لابنتي أن أرى قدوتها في الجهاد نسيبة, وخولة بنت الأزور في الشجاعة, وعائشة بنت الصديق في العلم, وسمية في الشهادة, وأسماء في تحدي الأخطار, وآسية بنت مزاحم في الثبات, ومريم بنت عمران في الصبر على المدلهمات, وأم موسى في اليقين, والخنساء في التضحية, وفاطمة بنت محمد في الحياء.

إنها ذكرياتي الحلوة, ونسماتي الدافئة, نعم هي تفاحة قلبي, وبهجة عمري, وخفقان مشاعري، إنها الطائر الصغير الذي غرّد في حديقة قلبي، لقد أطربني بتغريده الفريد, وأضحكني برقصه المثير, لا أستطيع أن أصفَ فرحتي عند ولادتها, حمدتُ الله وخررتُ بين يديه شاكرًا, من أول يوم قدمت إلى حياتي, احتفل الأمل في أرجاء قلبي بقدومها, وزقزقت أيامي بنزولها, وصفّقت أحلامي بوجودها, ابنتي كيف لا أحبها؟ وهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بيديه وهو يصلي, فإذا ركع وضعها وإذا قام رفعها, وكان يحب ابنته فاطمة ويقبّلها ويكنيها بأرق كنية تدعى بها، إنها «أم أبيها».

كلما نأيتُ عنها ذُبتُ حسرةً وهَمًا, أناجي القمر قائلًا: لقد ذكرّتني بأنوار ابنتي, كأن وجهها التصق على القمر.

إنها لقلبي سناه, ولروحي ضياه, إنها بسمة الأمل وضحكة المستقبل ونغمة الغد, إنها ربيع العمر وأنوار الحياة, وبديع زماني, ورياض هنائي.

هديل صوتها يملأ أذني, ويطرب خاطري، في نفسي ظمأ لا يرويه إلا زلال حبها, في قلبي ظلمة لا ينورها إلا سراج وجهها, في روحي جمر لا يطفئه إلا ضحكات قلبها, في عيني دمع لا يمسحها إلا حرير كلماتها, في أذني وحشة لا يزيلها إلا ترانيم حداها, في حياتي فراغ لا يملأه إلا قربها.

إذا كبرت غاية ما أتمناه لها زوجًا صالحًا, يطير بها إلى سماء الأفراح, ويشيّد لها قصرًا من السعادة، فغدًا يبتسم الربيع، وتتفتح الزهور، وتخضرُّ الأيام .

أنتِ أخت الشهيد المجاهد, وأم القتيل الثكلى, وسند الأسير المكبّل .

انتِ العظيمة التي يولد منها العظماء, كفكفي طوفان دموعكِ في أعماق قلبكِ الفسيح, أميطي الألم واليأس عن وجهك، أسرجي من كل دمعة شمعة, وانسجي من كل محنة منحة.

يا سلوة الفؤاد، وريحانة الخاطر، وحشاشة القلب, أبعثُ إليك روحي, وأسطرُ لك مشاعري, وأنسج لك خيوط حبي.

لو استطعت، يا ابنتي، لجعلت حضني مهدًا لطفولتك, ويدي أرجوحة لبراءتك، إذا غبتِ يومًا واحدًا عن بيتي أحس أن النور ينطفئ منه, أحس كابوسًا يطوّق عنق فرحتي, أحس بيتي سجنًا, وصرتُ أترقب الحرية من أنوار وجهك, وأشم ريحها من أثوابك, ووضعتُ خدي على كفي أشتاق لمرآك وأنتظر عودتك من جديد إلى بيتي, فإذا عدتِ أحسُّ الحياة تسري في أطراف بيتي, وينعش الربيع المزهر قلبي.

يا ابنتي، أنتِ شرايين تغذّين حياتي، أنتِ شمس سطعت في أفق ذكرياتي, يطوف حبكِ حول قلبي كل لحظة, وكلما طاف خيالكِ أسرعتُ أقبله وأستلمه .

ابنتي، في راحتيكِ الصغيرة غرستُ سنابل أحلامي, أنت زهرة عمري وربيع قلبي, كلما هبت ريح الصبا حملت شذا عبيركِ فيطرب لها خاطري, ويتراقص على أنفاسها قلبي, وإذا أجدبتْ مشاعري نظرتُ إلى سحابة حبكِ فتنعش أمطارها جفاف قلبي, فيهتز فرحًا, حتى غدا قلبي أرضًا تهتز ربيعًا وجمالًا إذا غشاها أمطارك.

ابنتي الغالية، بحثتُ عن أجمل حلة أهديها لكِ فلم أجد أجمل من التقوى, بحثتُ عن أفضل حصن يحميكِ فلم أجد أفضل من الحجاب, بحثتُ عن أعظم كتاب أهديه لكِ فلم أجد أعظم من كتاب الله, بحثت عن أفضل نساء قدوات لك فلم أجد أفضل من الصحابيات الطاهرات, بحثت عن أفضل دواء للقلب فلم أجد أفضل من الذكر, بحثت عن أجمل مطهّر ومنظّف فلم أجد أفضل من العفة, بحثت عن أفضل مسكن فلم أجد أفضل من بيتك, بحثت عن أغلى هدية في الدنيا فلم أجد أفضل من سجدة أو دمعة تتناثر منكِ في جوف السحر، فتكون كنجم مضيء يتلألأ في ليلة ظلامها حالك.

ابنتي، يا بستان عمري، وألحان قلبي، وفردوس حياتي, أنت سعادتي، أنتِ ريحانتي، أمنيتي أن تكوني متوجة بالسعادة, أكبر أحلامي أن أراكِ من الله قريبة.

عندما أفتح عيني في صباح كل يوم أرى صورتكِ أمامي مطبوعة، تسبح كالزورق، تلعب في بحار عيني, كلما اقتربتْ من سواده دفعتها فتطير كالأرجوحة في الهواء, حتى غدوتِ كقنديل الأمل يتراقص أمامي يمنة ويسرة، وبصري يرمقه مرة, ويحرّكه إذا توقف, فأصبحتِ، يا ابنتي، صورة تتجول في حياتي تتحرك ولا تقف .

مع كل دقة من دقات قلبي يتدفق شلال ذكرياتكِ, فتسبح صورتك في دمائي، وكلما ابتعدتْ جذبها قلبي, فتعود إليه من جديد, فتلتصق بشغاف قلبي حتى لكأن لنا قلبًا واحدًا يسكن صدرًا واحدًا, إذا مرض أحدهما تفجرت عيون الآخر حزنا حتى تندمل جراحه, بحثتُ، يا ابنتي، عن أجمل ابتسامة تعيد لقلبي الحياة فلم أجد أفضل من ابتسامة تطير من فمك ويتلقفها قلبي كالملهوف, فتسري الحياة في أوصاله، وتنبض بالفرحة أحلامه، وتضيء بالآمال أركانه.

ابنتي نظرتُ إلى كنوز الدنيا فلم أجد أغلى وأنفس من كنز العافية, وجربتُ كل الصداقات فلم أجد صداقة تفوق صحبة الكتاب, وجرّبت كلام الناس فلم أجد أعظم من ذكر الله .

أنتِ موكب السرور يزف إلى روحي، أنتِ غيث المحبة ينهمر في صهريج قلبي, أنت نهر الأمل تمتد أمواجه إلى جزيرة نفسي, أنتِ طيف الفرح يشرق أنواره في أعماقي، أنتِ أحرفي الغالية، أنتِ رسالتي الثمينة، أنت قصائدي الجميلة, أنتِ إبداعي وإمتاعي، أنتِ راحتي وإسعادي.

أنتِ قصتي الحلوة, وروايتي العذبة, لا تحزني إن أهانكِ أقوام جهلًا, فقد كرّمك الرحمن .

لا تبكي إن كرهكِ أقوام, يكفيك أنه أحبك سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم, لا تأسي إن دفنكِ أقوام فقد أحياكِ الإسلام, وقلّدك وسام العطف بنتًا, ووسام البر أمًا, ووسام الرحمة أختًا، ووسام المودة زوجة.

لن تجدي، يا ابنتي، أعدل ولا أنصف من هذا الدين، الذي رفعك كنجمة تتلألأ أنوارها في سماء الكرامة والعزة.

أنتِ فضاء من حب واسع ليس له حدود, أنتِ مساحة فسيحة من وجدان ليس لها سدود, أنتِ حمامة سلام تحارب الظلم والقيود, أنتِ راية من حب وحولها ضلوعي كالجنود, أنتِ مدرسة من أخلاق تصنع القيم والمبادئ, أنت إكليل من تهاني وورود من أماني أزيّن بها لوحة قلبي.

ابنتي، ليست السعادة في قصر منيف وحسب شريف, إنما السعادة في التمرغ في عتبة العبودية ومحراب الطاعة والتوحيد.

لم أرَ شيئًا يزيد المرأة جمالًا مثل جمال الحياء، إياكِ وأن تكوني خرّاجة ولاجة إلى الأسواق, فإن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدح إحدى بنات الرجل الصالح في قصة موسى, قال الله تعالى عنها: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25]، قال عنها: جاءت متلثمة بدرعها، لم تكن خراجة ولاجة.

ابنتي، يا نورس أحلامي، ومحفل أيامي، وعروس زماني, إياكِ ودعاة التحرير، احذري أن يخدعوكِ فإنهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها.

إنهم حسدوكِ على حياءكِ, فطمعوا في إنزالك من العلياء إلى الحضيض, ومن الجوزاء إلى الحفر, ومثلهم احذري دعاة الموضة والتقليد والتغريب .

هذه الشمس تهديكِ حلة ذهبية نسجتَها أصابعها من حرير أشعتها, ثم ضمخّتها عطرًا من ورسها الأصفر الذي أنتجته من رحيقها, ثم قدمته لك في طبق مرصع بالنجوم واللآلئ، التي غدت كألوان الطيف تطير إلى عدسة عينيك, وجعلتِ تنظرين إلى الطبيعة بعدسة ملونة تترقرق أهازيج الطيور على شفتيك، وأقبلت الورقاء تغني على أغصان خديك، وضج الفضاء حواليك بالنشيد والتغريد.

لقد توّجكِ مولاك بعقل رشيد، وقلدك برأي سديد, كوني في الحق كالحديد, لا تراعي من الباطل ونقمته, ولا يغرنك خلخاله ورونقه.

ابنتي، كوني كالنخلة؛ ترمى بالحجر فترمي بأطيب الثمر, ابنتي، كوني كالنحلة؛ تأكل طيبًا وتضع طيبًا، وإن سقطت لا تكسر شيئًا .

ابنتي، هذه ضلوعي لحبك شاهدات, هذه نبضاتي لعطفك ناطقات، ابنتي لوّني الحياة بألوان التفاؤل, اسكبي من رحيق تجاربك في خزانة ذاكرتك, وتعلّمي من مواعظ الحياة فإن الحياة أكبر مدرسة.

أنا إنْ عشتُ لن أنساك طول حياتي, فإن متُ فلا تبخل سماؤك عليّ من أمطار الدعوات, صبّي على قبري بحارًا من دعائك, فإن الدعاء من الولد الصالح يبقى أجره ينهمر إلى وديان قبري الجافة وصحراء لحدي القاحلة، عسى الملك الكريم يغفر زلتي ويستر حوبتي .

ابنتي، أرجوكِ اجعلي لك في الحياة بصمة تبقى آثارها وتشع أنوارها لتُسعدي من حولكِ, ويذكرها من خلفكِ.

ابنتي، لا تعيشي لنفسكِ وعيشي للآخرين, فالمسلم كالغيث أينما حل نفع, وكالماء إذا كثر زادت منفعته, أوصيك، يا ابنتي، بالقرآن فإنه أنيس تحلو به الحياة، وهو لكِ طوق النجاة(16).

_______________

(1) رواه الترمذي (1913).

(2) فتح الباري (10/ 429).

(3) تحفة الأحوذي (6/ 36).

(4) مجموع فتاوى ابن باز (25/ 364).

(5) موارد الظمآن (2045).

(6) أخرجه البخاري (5995)، ومسلم (2629).

(7) أخرجه البخاري (516)، ومسلم (543).

(8) أخرجه البخاري (3071).

(9) أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892).

(10) أخرجه البخاري (3623)، ومسلم (2450).

(11) أخرجه البخاري (1284).

(12) المصدر السابق.

(13) أخرجه البخاري (3714).

(14) أخرجه مسلم (2631).

(15) أخرجه ابن ماجه (3670).

(16) ابنتي حياتي، أبو سعد النشوندلي الحضرمي.