النفقة على الأهل
عن سعد رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يَعُودني وأنا مريض بمكة، فقلت: لي مال، أُوصِي بمالي كله؟ قال: «لا»، قلت: فالشطر؟ قال: «لا»، قلت: فالثلث؟ قال: «الثلث، والثلث كثير، أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، ومهما أنفقت فهو لك صدقة، حتى اللقمة ترفعها في فيّ امرأتك، ولعل الله يرفعك، ينتفع بك ناس، ويضر بك آخرون»(1).
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أنفق المسلم نفقة على أهله، وهو يحتسبها، كانت له صدقة»(2).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك»(3).
وعن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم(4).
وعن أم سلمة قالت: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لي من أجر في بني أبي سلمة؟ فإني أنفق عليهم، وإنما هم بني، فلست بتاركتهم هكذا وهكذا، تقول: كان لي أجر أو لم يكن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، لكِ فيهم أجر ما أنفقتِ عليهم»(5).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»(6).
دليل على أن النفقة على الأهل أفضل من الصدقة؛ لأن الصدقة تطوع، والنفقة على الأهل فريضة.
قال أبو قلابة: «وأي رجل أعظم أجرًا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم».
قال الطبري: «وقوله عليه السلام: «وابدأ بمن تعول»، إنما قال ذلك؛ لأن حق نفس المرء عليه أعظم من حق كل أحد بعد الله، فإذا صح ذلك فلا وجه لصرف ما هو مضطر إليه إلى غيره؛ إذ كان ليس لأحد إحياء غيره بإتلاف نفسه وأهله، وإنما له إحياء غيره بغير إهلاك نفسه وأهله وولده؛ إذ فرض عليه النفقة عليهم، وليست النفقة على غيرهم فرضًا عليه، ولا شك أن الفرض أولى بكل أحد من إيثار التطوع عليه، وفيه: أن النفقة على الولد ما داموا صغارًا فرض عليه؛ لقوله: إلى من تدعني؟ وكذلك نفقة العبد والخادم للمرء واجبة لازمة»(7).
قال المهلب: «النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم، ترغيبًا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع»(8).
وقال ابن المنير: «تسمية النفقة صدقة من جنس تسمية الصداق نِحْلة، فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها في اللذة والتأنيس والتحصين وطلب الولد؛ كان الأصل ألَّا يجب لها عليه شيء، إلا أن الله خص الرجل بالفضل على المرأة بالقيام عليها، ورفعه عليها بذلك درجة؛ فمن ثم جاز إطلاق النِّحلة على الصداق والصدقة على النفقة»(9).
ويجب على الزوج أن يوفر لزوجته ما تحتاجه من النفقة والسكن والمأكل والملبس والمشرب كاملًا، دون مِنَّة أو أذى، فالنفقة واجبة عليه، وملزم بها في حدود إمكاناته المادية وقدرته المالية، قال تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236]، فردَّ الله الأزواج في النفقة إلى عرف النَّاس، من غير إسراف ولا تقْتير، وألَّا يُكلف الرَّجل إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته، وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجَّة الوداع: «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عَليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»(10).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت»(11).
لذلك أباح الله للزوجة أن تأخذ من مال زوجها دون علمه؛ إذا قصر في النفقة عليها وعلى أولاده، لكن في حدود الوسط دون إسراف ولا تقتير، روت عائشة رضي الله عنها أن هند بنت عتبة قالت: «يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم»، فقال صلى الله عليه وسلم: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»(12).
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني عن ابن المنذر: «وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم، ولأن ولد الإنسان بعضه، وهو بعض والده، فكما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله كذلك على بعضه وأصله»(13).
قال في المنتقى شرح الموطأ: «يقتضي أن النفقة إذا أريد بها وجه الله والتعفف والتستر وأداء الحق والإحسان إلى الأهل وعونهم بذلك على الخير من أعمال البر، التي يؤجر بها المنفق، وإن كان ما يطعمه امرأته، وإن كان غالب الحال أن إنفاق الإنسان على أهله لا يهمله ولا يضيعه ولا يسعى إلا له، مع كون الكثير منه واجبًا عليه، وما ينفقه الإنسان على نفسه أيضًا يؤجر فيه إذا قصد بذلك التقوي على الطاعة والعبادة»(14).
فمما تقدم يتبين لنا عظم أجر الإنفاق على الزوجة والأولاد إذا ابتغي به وجه الله، وأما هل يضاعف هذا الأجر إلى سبعمائة ضعف؛ فالأحاديث عامة في مضاعفة الحسنات إلى سبعمائة ضعف، ومنها ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن علمها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف»(15)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ابن آدم يضاعف؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به»(16).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدقوا»، قال رجل: عندي دينار، قال: «تصدق به على نفسك»، قال: عندي دينار آخر؟، قال: «تصدق به على زوجك»، قال: عندي دينار آخر، قال: «تصدق به على ولدك»، قال: عندي دينار آخر قال: «تصدق به على خادمك»، قال: عندي دينار آخر، قال: «أنت أبصر»(17).
جاء عن السلف رضي الله تعالى عنهم في باب النفقة على العيال أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه كانت له دار تصدق بها على مواليه، والمقصود بمواليه يعني: أولئك الذين كانوا من جملة الأرقّاء الذين كان يملكهم، ثم أعتقهم، فتصدق بها عليهم(18).
وجاء أيضًا عن عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله أنه قال: قلت لعكرمة: «تركتَ الحرمين وجئت إلى خراسان؟» قال: «أسعى على بناتي»(19)، يعني: يطلب الرزق بهذا السفر البعيد من الحرمين إلى خراسان؛ من أجل الاكتساب لهؤلاء البنات.
ويقول أبو موسى بن يسار: رأيت عكرمة جائيًا من سمرقند، وسمرقند الآن بعيدة كما هو معلوم، هي في جملة هذه الجمهوريات التي تسمى بالجمهوريات الإسلامية، يقول: رأيت عكرمة جائيًا من سمرقند على حمار تحته جوالقان فيهما حرير، أجازه بذلك عامل سمرقند، يعني الأمير، ومعه غلام، فقيل له: ما جاء بك إلى هذه البلاد؟ قال: «الحاجة»(20)، وهو من كبار أصحاب ابن عباس الذين أخذوا عنه التفسير، ومع ذلك يذهب هذه المسافات الشاسعة البعيدة من أجل الاكتساب لبناته.
وكان ابن المبارك رحمه الله يقول: «لا يقع موقع الكسب على العيال شيء، ولا الجهاد في سبيل الله»، يعني يقول: هو أفضل شيء، أن تكتسب من أجل العيال(21)، وهذا دلّت عليه بعض الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
ويقول زيد بن أبي الزرقاء رحمه الله: «ما سألت أحدًا شيئًا منذ خمسين سنة»، وقال: «إذا كان للرجل عيال وخاف على دينه فليهرب»(22).
يعني: أن الرجل قد يضعف، ولربما تُزَيِّن له نفسه من أجل هؤلاء العيال أن يطلب من الآخرين، أو أن يبيع شيئًا من دينه من أجل هذا الاكتساب.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الولد مَجبنة مَبخلة مَحزنة»(23)؛ أي: يكون سببًا للبخل والجبن، وأيضًا يكون سببًا للحزن الكثير، إذا مرض حزن الوالد وما أشبه ذلك.
ويقول الذهبي رحمه الله: «يهرب لكن بشرط ألَّا يُضَيِّع من يعول، وقد هرب زيد بن أبي الزرقاء، ونزل الرملة أشهرًا، وكان من العابدين».
ويقول محمد بن محمد بن أبي الورد رحمه الله: «قال لي مؤذن بشر بن الحارث، يعني الحافي: رأيت بشرًا رحمه الله في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: ما فعل بأحمد بن حنبل؟ قال: غفر له، فقلت: ما فعل بأبي نصر التمّار؟ قال: هيهات، ذاك في عليين، فقلت: بماذا نال ما لم تنالاه؟ قال: بفقره وصبره على بُنيّاته»(24).
هذه الآثار مع الأحاديث السابقة تدل على أن قيام الإنسان على من يعول، بالنفقة والعمل والاكتساب وطلب الرزق، أن هذا مما يؤجر الإنسان عليه، وهو من أفضل الأعمال، وليس المقصود بذلك أن الإنسان يطلب تكثرًا، يعني: من الناس من يشتغل ويواصل الصباح بالمساء، وعنده ما يكفيه ويكفي أولاده، ويكفي أحفاده، ولكن الذي يطلب الدنيا كالذي يشرب من ماء البحر؛ لا يرتوي، فهذا الذي يطلب تكثرًا هذا يكون سببًا لشغل قلبه.
وقد كان حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه يقول: «اللهم إني أعوذ بك من تفرق القلب»، فسُئل عن هذا فقال: «أن يكون له بكل وادٍ مال»(25)، هنا مصنع، وهنا منجرة، وهنا مكان للقماش، وهنا مكان للأوراق، وهنا مكان للسيارات، وهكذا؛ من أجل التكثر من الدنيا، فمثل هذا لا يؤجر الإنسان عليه؛ بل يكون شاغلًا له عن طاعة الله عز وجل، وسببًا لانصراف قلبه عما هو بصدده من عبادة الله والإقبال عليه، وذكره وحسن عبادته، لكن إذا كان الإنسان يطلب هذه الدنيا من أجل أن يستغني عن الفقر، يستغني عن الناس، أن يغني أهله عن هذا فهذا يؤجر، وعمله هذا من أفضل الأعمال.
وهذا هو المفهوم الواسع للعبادة، أن العبادة ليست مجرد ركعات يركعها الإنسان في المسجد، وإنما العبادة تمتد وتشمل هذه الأمور من الشعائر التعبدية، كما أنها تشمل أيضًا إقامة الناس لدنياهم، فيما لا يكون شاغلًا عن طاعة ربهم تبارك وتعالى، والأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أخبر الله عز وجل أنهم يمشون في الأسواق، فكانوا يتّجرون وهم أنبياء، ولو شاء الله عز وجل أنزل عليهم الخزائن، وأغناهم عن طلب التكسب، النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي، فالعمل ليس عيبًا، وإنما العيب أن يحتاج الإنسان للآخرين، أن يسألهم، أن يطلبهم، تجد الرجل شابًّا قويًّا معافى، وكلما تلوح له فرصة يسأل هذا، ويطلب من هذا، ويستجدي من هذا، وهذه غاية المذلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تحل الصدقة لغنيٍّ، ولا ذي مِرّة سويٍّ»(26)، إنسان سوي الخلقة، قوي، صحيح البدن، هذا لا تحل له الصدقة.
***
_______________
(1) أخرجه البخاري (5354).
(2) أخرجه البخاري (5351).
(3) أخرجه مسلم (995).
(4) أخرجه البخاري (5357).
(5) أخرجه مسلم (1001).
(6) أخرجه البخاري (5355).
(7) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (7/ 530).
(8) فتح الباري (9/ 498).
(9) المصدر السابق (9/ 498).
(10) أخرجه مسلم (1218).
(11) أخرجه أبو داود (1692).
(12) أخرجه البخاري (5364).
(13) المغني (8/ 212).
(14) المنتقى شرح الموطأ (6/ 158).
(15) أخرجه ابن ماجه (1638).
(16) أخرجه مسلم (1151).
(17) أخرجه أبو داود (1691) وأحمد (7419) واللفظ له، وحسنه الألباني.
(18) سير أعلام النبلاء (2/ 626).
(19) المصدر السابق (5/ 27).
(20) المصدر السابق (5/ 28).
(21) المصدر السابق (8/ 399).
(22) المصدر السابق (9/ 317).
(23) أخرجه الحاكم (4771).
(24) سير أعلام النبلاء (10/ 573).
(25) تاريخ دمشق، لابن عساكر (47/ 156).
(26) أخرجه أبو داود (1556).