logo

الغيرة على الأعراض


بتاريخ : السبت ، 17 جمادى الأول ، 1447 الموافق 08 نوفمبر 2025
بقلم : تيار الإصلاح
الغيرة على الأعراض

الغَيْرة غريزة فطرية، وصفة ربانية، وسجية نبوية، وخلق محمود، وصفة حسنة، لقد كانت الغيرة أمرًا مهمًا، حتى في الجاهلية قبل الإسلام، حتى وصل بهم إلى الغلو في هذا الأمر أن كانت تدفن البنت وهي حية خوفًا من أن تعمل الفاحشة إذا كبرت.

والغيرة المتزنة هي شعور طبيعي ومطلوب، وهي علامة على قوة الإيمان والرجولة، وخاصة عندما تتعلق بالحفاظ على الأعراض والحدود الشرعية؛ لكنها تكون مذمومة إذا تجاوزت حد الاعتدال وأصبحت شكًا وسوء ظن واتهامًا دائمًا.

والإسلام يُشجع الغيرة المحمودة التي تُصون النفس والعِرض، ويُحذر من المبالغة فيها التي تؤدي إلى إفساد الحياة الزوجية وتُسبب الشك والاتهام دون دليل.

قال عياض في الغيرة: هي مشتقة من تغير القلب، وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين، وقال العلّامة بكر أبو زيد في كتابه القيّم حراسة الفضيلة: الغيرة هي ما ركبه الله في العبد من قوة روحية، تحمي المحارم، والشرف، والعفاف من كل مجرم وغادر (1).

إن من الضروريات الكبرى التي جاء الإسلام بها وحث عليها، هي المحافظة على الأعراض وصيانتها، ومن أجل ذلك حرَّم ربنا تبارك وتعالى الفواحش ما ظهر منها وما بطن، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» (2).

غيرة على عبده أن يقع فيما يضره وشرع عليها أعظم العقوبات، وذلك أشرف الغيرة.

سمع الشبلي قارئًا يقرأ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45]، قال: أتدرون ما هذا الحجاب؟ هذا حجاب الغيرة، ولا أحد أغير من الله، يعني أنه سبحانه لم يجعل الكفار أهلًا لمعرفته، ومن غيرة الله أن العبد يفتح له باب من الصفاء والأنس فيطمئن إليه ويلتذ به ويشغله عن المقصود، فيغار عليه فيرده إليه بالفقر والذل، ويشهده غاية فقره وإعدامه، وأنه ليس معه من نفسه شيء فتعود عزة ذلك الأنس والصفاء ذلة ومسكنة، وذرة من هذا أنفع للعبد من الجبال الرواسي من ذلك الصفاء والأنس المجرد عن شهود اليقين (3).

وكيف يصح لعبد أن يدعي محبةَ الله والإيمانَ به، وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت ولا لحقوقه إذا ضيعت، وإذا ترحلت الغيرة من القلب ترحل منه الدين.

 ولقد اعتبر الشارع مَنْ قُتل في سبيل الدفاع عن عرضه شهيدًا، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون أهله فهو شهيد» (4).

وإن من الناس من لا يبالي لو فقد نفسه وماله كله في سبيل الدفاع عن عرضه، ولله در حسان بن ثابت رضي الله عنه حين قال:

أصون عرضي بمالي لا أدنسه     لا بارك الله بعد العرض في المال (5).

 أنواع الغيرة: الغيرة نوعان هما:

1 - الغيرة المحمودة: وهي المعتدلة الشرعية التي تجعل صاحبها يحمي محارمه من الوقوع في المنكر، ومن اختلاطهن بالرجال الأجانب.

2- الغيرة المذمومة: وهي أن يشك الرجل في أهله، ويتجسس عليهم ويظن بهم السوء، وهم بعيدون عنه كل البعد، وكم انهارت من الأسر، وكم وقعت من نساء في الفاحشة بسبب اتهام الرجل لها بالفاحشة، فيوسوس بها الشيطان أن تعمل الفاحشة! فهي على كل حال متهمة، فتتجاوب مع ضعف إيمانها، وهذا بسبب هذه الغيرة المذمومة التي يبغضها الله ـ

وما نراه اليوم من انتكاس مفهوم الغيرة لدى كثير من الناس، لهو من أكبر المصائب التي تنبئ بهدم المجتمع بأسره، فالنساء اليوم أصبحن يملأن الشوارع والأسواق، يخرجن وهن متبرجاتٍ متهتكاتٍ سافراتٍ عن الوجوه، قد وضعن على وجوههن جميع أنواع المساحيق والزينة- إلا من رحم ربك- والعجيب في ذلك أنك ترى مع المرأة المتبرجة السافرة إما أخاها أو أباها أو زوجها، يمشي معها ويضاحكها على مرأى من الناس، لا يستحي من ربه، ولا يستحي من نفسه، ولا يخجل من مشاهدة الناس له، بل ولا يغار على زوجته أو ابنته أو أخته، وقد خرجت بهذه الهيئة في أبهى زينةٍ قد عصت الله ورسوله، ترمقها كل عين خائنة وكأنه لم يصنع شيئًا بدعوى التقدمية والحرية والتحضر.

فأين غَيرةُ الرجال من غَيرةِ نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم؟

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، قال سعد بن عبادة، وهو سيد الأنصار: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم؟» قالوا: يا رسول الله، لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرًا، وما طلق امرأة له قط، فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنها حق، وأنها من الله ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه، حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته (6).

عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني» (7).

وأين حياء النساء من ابنة شيخ مدين لما جاءت إلي موسى عليه السلام؟ حيث قال الله تعالى عنها: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25]

فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لم تكن سلفعًا من النساء خرَّاجة ولَّاجَة، قائلة بيدها على وجهها {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (8).

وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، قال: فأحفظته الغيرة أن قال: وما يدريك ما قوته وأمانته؟ قالت: أما قوته، فما رأيت منه حين سقى لنا، لم أر رجلًا قط أقوى في ذلك السقي منه؛ وأما أمانته، فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إليّ حتى بلغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين، فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت (9).

هكذا كانت غَيرَة الرجال، وهكذا كان حياء النساء.

ولقد كان العرب في الجاهلية يعُدُّون المرأة ذروة شرفهم وعنوان عرضهم، ولذا تفننوا في المحافظة عليها، حتى يظل شرفهم سليمًا من الدنس، وعرضهم بعيدًا من أن يمس.

حتى إن الواحد منهم لو رأى جارته خارجة غض طرفه عنها خوفًا على عرض جاره، لذا قال أحدهم:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي     حتى يواري جارتي مأواها

إني امرؤ سمح الخليقة ماجد       لا أتبع النفس اللجوج هواها

فأين هؤلاء اليوم من بعض الشباب الذين يتسكعون في الشوارع والأسواق يتلصصون حول الحرمات لا هم لهم سوى السعي وراء الشهوات؟

الغيرة من صفات الله وعباده المؤمنين:

لقد جاءت الأحاديث بإثبات صفة الغيرة لله عز وجل، ونحن نؤمن بأن الله يغار كما أخبر عنه أعرف الخلق به، وهي غيرةٌ تليق بجلال الله تعالى وعظمته، ولا تماثل غيرة أحد من المخلوقين، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (10).

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله» (11).

وفي لفظ: «المؤمن يغار، والله أشد غَيْرًا» (12).

قال ابن القيم: الغيرة نوعان: غيرة الحق تعالى على عبده، وغيرة العبد لربه لا عليه؛ فأما غيرة الرب على عبده: فهي أن لا يجعله للخلق عبدًا، بل يتخذه لنفسه عبدًا، فلا يجعل له فيه شركاء متشاكسين، بل يفرده لنفسه، ويضن به على غيره، وهذه أعلى الغيرتين (13).

وأعظم الناس غيرة على الأعراض الأنبياء صلوات الله عليهم ثم الأمثل فالأمثل، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: «بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته فوليت مدبرًا»، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله (14).

ومن غيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحجب نساءه، وذلك قبل نزول آية الحجاب، قال: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب (15).

وروى ابن كثير بسنده: أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا، فلما صمموا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه، فأقر بما ادعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها، فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه، وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو في حلٍّ من صداقي عليه في الدنيا والآخرة (16).

وكم في الناس من غيور؟

ولم تقتصر الغيرة على الرجال فقط؛ بل كان من النساء من يَغرْنَ على أعراضهن، ويخفن من غَيرَة أزواجهن.

وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: تزوجني الزبير، وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء، وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: «إخ إخ» ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني (17).

فالذي لا يغار على أهله وعرضه أين يهرب من سؤال الله عن ذلك؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم» (18).

فكيف ينعم إنسان يعلم أنه مسئول أمام الله عز وجل عن أهله، وهو يترك زوجته أو أخته أو بنته تخرج بزي غير شرعي؟

وقال محمد بن نصر المروزي: الغيرة من الإيمان، وعدمها من النفاق (19).

وهذه امرأة مسلمة تذهب إلى سوق يهود بني قينقاع لتبيع لها شيئًا في هذا السوق، فجلست إلى صائغ يهودي، فجعل اليهود يطلبون من هذه المرأة المسلمة أن تكشف لهم وجهها، وهكذا هي عادة اليهود عهر وفجور، ونقض للعهود، فأبت هذه المرأة، ورفضت أن تكشف وجهها، فعمد الصائغ اليهودي إلى طرف ثوبها وربطها إلى ظهرها؛ فلما قامت انكشفت عورتها، فضحك اليهود عليها، فجلست وصاحت؛ فأسرع رجل من المسلمين من أهل الغيرة على حرمات المسلمين إلى الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم، ثم أجلاهم عن المدينة، هكذا يفعل أصحاب الغيرة لحماية أعراضهم.

وليست الغيرة قاصرةً على الآدميين فقط، بل إنه لمن العجب ما ذُكر عن الحيوانات والطيور وغيرتها، كالمعز والديكة والإبل والقردة، ولله در ابن حزم  حين قال: ولعمري إن الغيرة لتوجد في الحيوان بالخلقة، فكيف وقد أكدتها عندنا الشريعة، وما بعد هذا مُصاب (20).

ومع هذا لا ندري أين ذهبت الغيرة عند الكثير من المسلمين؟

أسباب انعدام الغيرة:

ما دام أن الغيرة سجية من سجايا النفس البشرية، وغريزة من غرائزها الفطرية لذلك لا بد أن هناك أسبابًا أدت إلى موت الغيرة أو ضعفها، ومن هذه الأسباب ما يلي:

1- ضعف الإيمان: فكلما كان العبد أقوى إيمانًا كان أشد حفظًا لنفسه، ولأهله من أي شيء يلوث سمعتهم، أو يقتل حياءهم ودينهم، ولا يضعف الإيمان إلا الذنوب، وإذا ضعف الإيمان هان على العبد مخالفة الدين الصحيح والفطرة السليمة.

2- البعد عن تعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه: فالإسلام جاء بمكارم الأخلاق، والتي منها الغيرة على المحارم، وإذا ابتعد العبد عن تعاليم الإسلام بدأت أخلاقه عمومًا، وخلق الغيرة خصوصًا بالانهيار، حتى يصير مُنحلًا أخلاقيًا والعياذ بالله.

3- الجهل بخطورة موت الغيرة: فعلى المسلم أن يعلم أهمية الغيرة على الأعراض، وأن ضد الغيرة الدياثة، وضد الغيور الديوث، وهو الذي يقر الفحش في أهله، ولا غيرة له عليهم، والديوث محروم من دخول الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة قد حرَّم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث» (21)، والخبث: الفاحشة.

4 -الجهل بعظم المسؤولية تجاه الأهل: فإن كل رجل مسؤول يوم القيامة عن رعيته، ومن تحت رعايته من بنت، وزوجة، وغيرهما من أهل بيته من إناث أو ذكور؛ فهم أمانة في عنقه، وفي الحديث المتفق عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالرجل راعٍ في أهل بيته وهو مسؤول عنهم» (22)؛ فيجب عليه تربيتهم تربية إسلامية صحيحة، وأن يحميهم من الأقوال البذيئة والأفعال القبيحة، والعقائد الرديئة، والأفكار الدخيلة، والأخلاق السيئة، والسلوكيات الخاطئة، وجلساء السوء، وعليه أن يحرس عرضه متمثلًا بنساء أهل بيته، وأن يغار عليهم من أن يعبث بهن لصوص الأعراض.

5- قلة الحياء: فالحياء خلق إسلامي يبعث على صيانة العرض، ودفن المساوئ، والتحلي بالمكارم؛ فإن الذي لا يستحي لا يهمه ما يقال في أهله، ولا يستحي مما يفعله أهله من الرذائل، بل لو رأى زوجته جالسة مع رجل أجنبي تمازحه وتضحك معه لما تحركت فيه شعرة، وكأن الأمر لا يعنيه والمرأة ليست بقريبة له.

إذا لم تصن عرضًا ولم تخش خالقًا وتستحي مخلوقًا فما شئت فاصنع.

6- جلساء السوء: فللجلساء تأثير على الشخص، إن كانوا أهل صلاح كانوا سببًا في صلاحه، وإن كانوا أهل فساد كانوا سببًا في فساده؛ فإذا كان الرجل جلساؤه ممن لا غيرة له، ممن يزعم أنه واقعي عصري فإنه كلما غضب الرجل على أهله إذا ارتكبوا ما يخل بالشرف قال له جليس السوء: لا تشدد على أهلك! الناس كلهم يفعلون هذا، خلهم على حريتهم، ونحو ذلك.

7- الغلو في الثقة بالأهل: إلى حد التعامي عن أمور واضحة بينة تخدش الشرف والعفاف؛ بحيث يتساهل في خروج أهله ودخولهن، يذهبن إلى الأسواق متى شئن، ويرجعن متى شئن، يسافرن دون محرم، يعملن في أماكن لا تخلو من الاختلاط والخلوة، وإذا نُصح قال إنه يثق في أهله، إنهن سيحفظن أنفسهن، ولن يقعن في الرذيلة، وكأنهن معصومات من الخطأ.

قال هناد في حديثه: ألا تستحيون، أو تغارون، فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج (23).

فهذا الرجل يرمي بمحارمه إلى أماكن تقربهن من الفاحشة والرذيلة، ويتعامى عنهن باسم الثقة، حتى يضيع عرضه وشرفه، عند ذلك يعض أصابع الندم ويتحسر بعد فوات الأوان.

8- ضعف شخصية الرجل في بيته وعند أهله: بل الكلمة في البيت للمرأة؛ فهي الآمرة الناهية، وبالطبع فالمرأة ضعيفة، تتجاوب مع الإغراءات والشهوات، وعندما تكون متحكمة في أمور البيت فإنها ستفسد أهل البيت، خاصة مع ضعف التزامها، فستشتري لبناتها ملابس التبرج ظنًا أن هذا من التقدم والتحضر، والرجل لا يحرك ساكنًا، وإنما ينفذ أوامر زوجته المخالفة للشرع، المضيعة للعرض والعفاف؛ ولْتَبْكِ البواكي على مثل هذا الرجل.

فليعلم الرجل أن القوامة له على المرأة شرعًا، ولتعلم ذلك المرأة المسلمة المنقادة لأمر الله، تعالى قال عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].

قال العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره: أي قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى من المحافظة على فرائضه، وكفهن عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك، وقوامون عليهن أيضًا بالإنفاق عليهن والكسوة والمسكن (24).

9 -الإعلام الفاسد بوسائله المختلفة مقروءة ومسموعة ومرئية: ذلك أن للإعلام دورًا مهمًا في تشكيل عقول متابعيه، وأفكارهم وسلوكياتهم، والإعلام الموجود هذه الأيام ينشر الفساد والمنكرات والإباحية، والسلوكيات الشاذة عن تعاليم ديننا الإسلامي عبر البرامج المنحرفة، والأغاني الهابطة، والمسلسلات الخليعة، والأفلام القبيحة، والمفاهيم السقيمة الدخيلة التي تظهر الرذيلةَ فضيلةً، والقبيح حسنًا، والشر خيرًا، وغير ذلك من المفاهيم التي يقوم الإعلام بقلب حقائقها.

وفي عصرنا هذا عصر البث المباشر تنقل لنا القنوات الفضائية عادات وتقاليد، وسلوك أمم الكفر والفجور إلى داخل بيوت المسلمين؛ من خلال أفلام تعرض فاحشة الزنا من البداية إلى النهاية، والأخرى تعرض فاحشة اللواط، وصور نساء عاريات ـ نعوذ بالله من سوء الحال والمنقلب، وتُظهِر هذه المنكرات على أنها هي التقدم والتحضر، فتولد عند الرجل موتًا للغيرة، فلا حرج إن قلَّدت بنته أو زوجته أو أخته أو غيرهن ممثلة، أو راقصة، أو مغنية في لبسها أو سلوكها.

10- التأثر بحضارة الغرب وتقدمه التقني والاقتصادي: فيظن هذا الرجل ضعيف الإيمان أنه لا بد من تقليدهم في اللباس والهيئة والسلوك، حتى نتقدم ونتحضر مثلهم؛ لذلك تراه يسمح لنسائه بالتبرج وبالسفر إلى بلاد الكفر للتعلم، أو العمل، أو السياحة بمفردهن، أو مع أفواج مختلطة بين الرجال والنساء دون أن يغار عليهن ويحميهن؛ فعنده الأمر لا حرج فيه؛ فهو ليس رجعيًا متخلفًا، بل هو متحضر واقعي، زعم ذلك.

11- الجهل بالعقوبات: عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث، الذي يقر في أهله الخبث» (25).

قال الطيبي: الديوث الذي يرى في أهله ما يسوءه ولا يغار عليهم ولا يمنعهم، فيقر في أهله الخبث (26).

12- سوء التربية: إن الإنسان بطبعه يتأثر بمن يعاشرهم ويحتك بهم، وإن التربية من أكبر الأسباب التي تؤثر في بناء الإنسان، وإن الشخص إذا نشأ نشأةً غير مستقيمة، وقصَّر الأب أو قصرت الأم في تربية ابنها وابنتها؛ فإن الذي يجني عواقب سوء التربية هو ذلك الابن بعد سنين طالت أم قصرت، وإذا كان الابن ينشأ في بيتٍ مليءٍ بالخصام والسباب، وإذا رأي الابن أباه منشغلًا بمتابعة المباريات والأفلام والمسلسلات وما فيها من المخالفات الشرعية، لا يغار على أهله أن يروا مثل هذه التفاهات، فكيف يكون حال هذا الولد بعد ذلك؟! ثم هل سيكون هذا الولد رجلًا يومًا ما يتحمل المسئولية؟.

وإذا رأت البنت أمها منشغلةً بمتابعة أخبار الموضة، وأسعار الملابس والفساتين فهل ستكون البنت أمًا تتحمل مسئولية بيتها يومًا ما؟!

إن للتربية تأثيرًا قويًا في حياة الأبناء، فإذا نشأ الولد وتربى على سماع الحق صار من أهله بإذن الله، وإذا تربى على الباطل صار من أهله إلا من عصمه الله تعالى.

وكم من قتيلٍ بالمعاصي والكبائر والذنوب قُتل قديمًا حينما غفل أبواه عن تربيته؟!

ونسوا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]

ونسوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» (27).

13- التشبه بغير المسلمين: ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من التشبه بغير المسلمين فقال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه»، قلنا يا رسول الله: اليهود، والنصارى قال: «فمن؟» (28).

ولقد ظهرت في زماننا طائفةٌ من ضعفاء الإيمان ممن تأثروا بالحضارة الغربية، والتقدم التقني والاقتصادي الغربي، ظنوا أنهم لا بد من تقليدهم في اللباس والهيئة والسلوك، حتى يتقدموا ويتحضروا مثلهم؛ لذا تراه يسمح لنسائه بالتبرج، ولبس ثياب غير شرعية كالملابس الضيقة والقصيرة، والخفيفة التي تُظهر ما تحتها، مثل (البنطلون)، وغير ذلك من ملابس التبرج دون أن يغار عليهن ويحميهن.

ومن فضل الله علينا أن في شرعنا ما يكفينا، فلا حاجة لنا في تقليد غيرنا، ولقد نظم الإسلام جميع حياتنا، وحدد كل ما يحتاجه المسلم وما ينفعه من مطعمٍ وملبسٍ وغير ذلك.

فالنفع كل النفع في التمسك بمنهج الله ومنهج رسوله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

ولله در القائل:

من حاد عن خلق النبي وصحبه         والتابعين الغر فهو ليس بسالم

14- الخلوة والاختلاط: ولقد شدَّد الشارع في النهي عن الخلوة والاختلاط والتحذير منهما، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا لا يخلون أحدكم بالمرأة، فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» (29)، ولا يشك عاقل في أن كثرة الاختلاط بين الرجل والمرأة تفضي إلى الفاحشة وتُذهب الغيرة وتؤدي إلي هتك الأعراض وتدنيس الشرف، وقد قيل: إن كثرة المساس تذهب الإحساس (30).

وذكر أن امرأة من العرب يقال لها هند بنت الخس زنت بعبدها وكانت العرب تأنف من الزني بالحرائر فما بالك بالعبيد فقيل لها: لِمَ زَنَيْتِ بِعبدِك وأنتِ سيدة قومك؟ فقالت: قرب الوِساد، وطولُ السِّواد.

ومعناه: قُرْبَ وِسَادِ الرجل من وسادتي، وطول المساودة، أي المسارة، والمخالطة، والخلوة من وراء الأستار والأبواب (31).

كيفية السلامة والنجاة؟

إن من خلى قلبه من الإيمان خلت نفسه من الغيرة، وحرم حلاوة الإيمان ولذته، لأن صاحب الإيمان القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ومن خلى ذهنه وعقله من الفقه في الدين، فقلبه خالٍ مفلس من الغيرة.

1- حسن التربية:

إن تربية الأبناء على القيم والأخلاق من أعظم الأسباب التي تنمي الغيرة في قلوبهم، ولا يمكن أن تؤتي التربية ثمارها إلا إذا كانت قائمة على ضوء ما ثبت في الكتاب والسنة.

هي الأخلاقُ تنبتُ كالنباتِ        إذا سُقيت بماء المَكْرُماتِ

تقومُ إذا تعهدها المُربي        على ساقِ الفضيلة مُثمِرات (32)

ومن أفضل طرق التربية، التربية بالقدوة، ولله الحمد لم يخل تاريخنا من الصالحين الذين يُقتدى بهم، وليس أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم لنا قدوة، وقد قال الله عنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وليس أحدٌ يقتدى بأمره كله غير النبي صلى الله عليه وسلم.

2- قوامة الرجل على أهله:

وليست القوامة مغنمًا للزوج، ولا مغرمًا للزوجة؛ فللزوج حقوق وواجبات، وللزوجة حقوق وواجبات، وما من سفينةٍ إلا ولها قائدٌ واحدٌ يديرها بالتشاور والتعاون مع صحبته المرافقين له، وقد ثبتت القوامة للزوج بضوابطها الشرعية، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].

ولذا فإن الرجل هو المسئول الأول عن أهل بيته، فعليه أن يعلمهم أمور دينهم كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، ولا يتساهل الرجل في ترك أبناءه دون توجيهٍ ولا تربية، وليحذر من سؤال الله يوم القيامة.

ومن واجبات الرجل على أهل بيته:

- أن يُلزمَ أهله بالحجاب الشرعي أمام الأجانب.

- أن يصون الرجل أهله من الاختلاط.

- أن يحذر من دخول الأجانب إلى بيته: فخلوة المرأة بالأجانب من أقربائها، هذا الذي يفوت بعض الرجال فيتساهلون فيه إحسانًا للظن، وإعمالًا لعادات تخالف ما شرعه الله سبحانه.

فعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء» فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قَالَ: «الحمو الموت» (33)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الحمو الموت»، فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي (34)، والحمو: هو قريب الزوج، وقد شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالموت، وفي ذلك دلالةٌ بالغة الشدة في التحذير من دخول الأجانب إلى البيت، ولو كان القرين أخا الزوج إذا لم يكن مع الزوجة محرمٌ شرعي.

 أن يحفظ أهله من شبهات العصر ومن الفتن: فإن بعض الأزواج تجده أشد في غيرته على أهله، لكنه يناقض غيرته وحياءه، إذ يدخل إلى بيته من أسباب الفتنة العصرية ما يدفع أهله شيئًا فشيئًا إلى الشبهات. وتعد الفضائيات الأجنبية، والأغاني المسموعة والمرئية من الأسباب التي تلوث صفاء العفاف في البنات والزوجات.

3- حسن اختيار الزوجة:

فينبغي على صاحب البيت أن يختار الزوجة الصالحة بالشروط التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك» (35)، وإن كان العقد رغبةً في الدين فهو أوثق العقود حالًا وأدومها ألفًة وأحمدها بدءًا وعاقبًة؛ لأن طالب الدين متبعٌ له ومن اتبع الدين انقاد له، فاستقامت له حاله، وأمِنَ زلَلَه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «فاظفر بذات الدين، تربت يداك» (36).

وإذا كانت المرأة ديِّنَة غرست في أبنائها أعظم الأخلاق والقيم.

***

---------------

(1) حراسة الفضيلة (ص: 87).

(2) أخرجه البخاري (4634)، ومسلم (2760).

(3) فيض القدير (6/ 428).

(4) أخرجه الترمذي (1421).

(5) ديوان حسان بن ثابت (ص: 172).

(6) أخرجه أحمد (2131).

(7) أخرجه البخاري (6846)، ومسلم (17).

(8) أخرجه الحاكم في المستدرك (3530).

(9) تفسير الطبري (18/ 225).

(10) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/ 181).

(11) أخرجه البخاري (4925)، ومسلم (36).

(12) أخرجه مسلم (38).

(13) مدارج السالكين (3/ 45).

(14) أخرجه البخاري (3242)، ومسلم (20).

(15) أخرجه البخاري (402).

(16) البداية والنهاية (11/ 81).

(17) أخرجه البخاري (5224)، ومسلم (34).

(18) أخرجه البخاري (2554)، ومسلم (20).

(19) تعظيم قدر الصلاة (1/ 469).

(20) رسائل ابن حزم (1/ 279).

(21) أخرجه النسائي في الكبر(2354).

(22) أخرجه البخاري (2554)، ومسلم (20).

(23) غاية المقصد في زوائد المسند (2/ 261).

(24) تيسير الكريم الرحمن (ص: 177).

(25) أخرجه النسائي في الكبر(2354).

(26) شرح المشكاة للطيبي (8/ 2556).

(27) أخرجه البخاري (2554)، ومسلم (20).

(28) أخرجه البخاري (3456).

(29) أخرجه النسائي في الكبرى (9180).

(30) انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (3/ 28).

(31) انظر: المحاسن والأضداد للجاحظ (ص: 250).

(32) ديوان معروف الرصافي (ص: 71).

(33) أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (20).

(34) انظر: شرح النووي على مسلم (14/ 154).

(35) أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (3625).

(36) أدب الدنيا والدين (ص: 156).