logo

الرسول صلى الله عليه وسلم زوجًا


بتاريخ : الثلاثاء ، 24 شوّال ، 1441 الموافق 16 يونيو 2020
بقلم : تيار الاصلاح
الرسول صلى الله عليه وسلم زوجًا

عن أنس بن مالك قال: كانت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان ذلك يومها فأبطأت في المسير، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي وتقول: حملتني على بعير بطيء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويسكتها، فأبت إلا بكاء، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركها.

فقدمت، فأتت عائشة فقالت: يومي هذا لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنت أرضيته عني، فعمدت عائشة إلى خمارها، وكانت صبغته بورس وزعفران، فنضحته بشيء من ماء، ثم جاءت حتى قعدت عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لك؟» فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، فرضي عن صفية.

وانطلق إلى زينب، فقال لها: «إن صفية قد أعيا بها بعيرها، فما عليك أن تعطيها بعيرك» قالت زينب: أتعمد إلى بعيري فتعطيه اليهودية؟

فهاجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر، فلم يقرب بيتها، وعطلت زينب نفسها، وعطلت بيتها، وعمدت إلى السرير فأسندته إلى مؤخر البيت، وأيست من أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هي ذات يوم، إذا بوجس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد دخل البيت فوضع السرير موضعه، فقالت زينب: يا رسول الله، جاريتي فلانة قد طهرت من حيضتها اليوم، هي لك فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها (1).

سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ما أجملها من سيرة، يطيب لها الحديث، وتهفو لها الأرواح، وتخفق لها القلوب، فقد أرسله الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين، وبشيرًا يبشر الناس بالخير، والحب، والأمل، والحياة، والسعادة، والرحمة، والغفران، والجنة لمن أطاعه، ونذيرًا للغافلين العاصين وللكافرين وما ينتظرهم من عذاب ونكال، فلا يؤخذوا على غفلة، ولا يعذبوا إلا بعد إنذار.

ولقد تعجبت من أناس مسلمين يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كل وقته وحياته جالسًا على المنبر، عابسًا متجهمًا، حاملًا سيفه، يخطب بالناس ويتحدث معهم هذا حلال وهذا حرام، خذو هذا، واتركوا ذلك، وهي صورة وللأسف الشديد نتيجة تراكم إعلامي خبيث، وجهل بحياة الرسول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وابتعاد عن قراءة سيرته صلى الله عليه وسلم من مصادرها الأصلية.

لقد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها أسوة حسنة لنا نقتدي بها، فقد كان عليه الصلاة والسلام بشرًا وليس من الملائكة، وكان إنسانًا يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ويلهو ويلعب، ويستمتع بالطيبات، ويتزوج، ويضحك ويبكي، ويفرح ويحزن، ويحس ويتألم، ويمشي في الأسواق، ويستشير أصحابه، ويسأل أهل الخبرة والاختصاص، ومع هذا كان نبيًا معصومًا وقائدًا ومربيًا وزوجًا كريمًا.

كانت حياته الزوجية تطبيقًا لمعنى الآية الكريم: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، فيقول صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (2)، فكان صلى الله عليه وسلم لزوجاته الزوج الحبيب، والصاحب الأنيس، والصديق الوفي، والموجه الأمين، والجليس الناصح، وكان يمازح زوجاته ويداعبهن، ويدخل البهجة والفرح لقلوبهن، ويسمع شكواهن، وينصت لكلامهن، ويحلم ويصبر عليهن، ويكفكف دمعهن، ويحسن إليهن، فلا يؤذيهن بلسانه، ولا يجرح مشاعرهن بكلامه، ولا ينتقص منهن، ويمدحهن ويثني عليهن، ويتبادل معهن السمر بالأحاديث الخفيفة، والقصص الجميلة، ذات الموعظة الحسنة، ويعترف بالجميل لهن حتى بعد وفاتهن، فلم تشغله دعوة الناس، وهموم الأمة، ومتطلبات المجتمع، من أن يعطي شريكات عمره حقهن.

يقول أنس رضي الله عنه: بلغ صفية أن حفصة قالت: يا بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: «ما يبكيك؟»، فقالت: قالت حفصة إني بنت يهودي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، فبم تفخر عليك»، ثم قال: «اتقى الله يا حفصة» (3).

ربما وجدت حفصة بنت عمر في أصل صفية اليهودي مكانًا جيدًا للوخز والإيلام، وإشباعًا لغيرتها منها، لكن صفية وجدت الإنصاف في كلمات زوجها العذبة الحانية.

وهو فن يجيده النبي صلى الله عليه وسلم، ويتفنن في تشكيله لنساء الأمة ورجالها، وهن معذورات؛ فالرجل الذي يغرن عليه ليس كبقية الرجال، إنه محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانت عائشة من فرط حبها ووَلَهِهَا به تتحسس فراشه وهو نائم خشية أن يغادره.

وفيه: حسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته، مع العدل التام، وحسن التأديب، وكمال رحمته وشفقته عليهن، فيرجع عن الغضب إلى الرضا، وعن الإعراض إلى الإقبال، بعد التعليم والتأديب، فيجمع بين كمال الأدب وحسن الخلق وطيب العشرة.

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: استأذن أبو بكر رحمة الله عليه على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة عاليًا، فلما دخل تناولها ليلطمها، وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر «كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟» قال: فمكث أبو بكر أيامًا، ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد فعلنا، قد فعلنا» (4).

تمر الحياة الزوجية بأيام حلوة، وأيام أخرى عكس ما نشتهي، ونرى فيها المرارة والأسى والخلافات، وهذه هي طبيعة الحياة الزوجية، ومن طبيعة الحياة بشكل عام، فتجد التنوع والاختلاف، فالزمان لا يثبت على حال، ولكن الإنسان الواعي العاقل يلزم أمرًا واحدًا في كل الأحوال وهو تقوى الله، في الفرح والحزن، وفي السرور والألم، وفي الضحك والبكاء.

هي الأمور كما شاهدتها دول      من سره زمن ساءته أزمان

فقد سمع أبو بكر رضي الله عنه صوت ابنته عائشة وهي ترفع صوتها على زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظم رجل، وخير الأنبياء، وأفضل الرسل، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع لها، تاركًا إياها تفرغ ما في داخلها من غضب أو كلام بصوت عال، ولكن أبا بكر رضي الله عنه وهو والدها لم يعجبه هذا التصرف، فهجم يريد ضربها، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم هجوم أبي بكر، جعل نفسه حاجزًا بين أبي بكر وبينها، يمنعه من ضربها.

فلما رأى أبو بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يمنعه من ضربها، وهي التي كانت تصرخ وترفع صوتها عاليًا عليه، خرج غاضبًا وتركهما، والتفت النبي الكريم إلى عائشة فلم يعاتبها على صوتها العالي، ولا على كلامها التي تكلمت به وهي تنفس عن غضبها، فالرسول الحليم يعلمنا أن هذه طبيعة المرأة، وأن من طبيعتها رفع الصوت، والغضب، والكلام، فتغافل عن هذه الأمور، وقال لها: «كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟»، فالخلاف لا يجعل من الزوج أو الزوجة عدوًا لشريكه، فيشتد وطيس الحرب بينهما بالكلام والصراخ، وقد يصل إلى أسلحة الأيدي، وبروز عضلات الزوجين، وقياس لمدى صوتهما، بل ينقلهما إلى الخلاف الأخلاقي، والخلاف السوي، حيث أفق الحوار، وفضاء النقاش السليم،  الذي يثمر بنتيجة بينهما، ويصلهما إلى حل.

وبعد أيام استأذن أبو بكر رضي الله عنه فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما، كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد فعلنا، قد فعلنا».

إنها الروح العالية في التعامل مع الآخر.

وثبت من ممازحته عليه الصلاة والسلام وتلطيف الجو بين نسائه، والضرائر يكون بينهن ما يكون، عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: «غارت أمكم»، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت (5)، هذا من مزاحه عليه الصلاة والسلام، ومن ملاطفته أو من تلطيف الجو المتجهم نتيجة الغيرة بين نسائه.

إن هذه الدعابة المرحة من الرسول صلى الله عليه وسلم لزوجته في هذا الموقف المتأزم تدفع الغضب، وتحل محله الحلم.

يقول العلماء: إن الغيرة يعذر فيها صاحبها أو صاحبتها ما لا يعذر الشخص الذي لا يكون عنده هذه الغيرة، حتى قيل: الغيرة لا ترى أسفل الوادي من أعلاه، أي: إذا بلغت بها الغيرة شدتها لا تعرف أسفل الوادي من أعلاه، تنقلب الأمور عندها وتنعكس.

قال ابن حجر: وقوله: «غارت أمكم» اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحمل صنيعها على ما يذم؛ بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة، فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها (6).

قال الطيبي رحمه الله: الخطاب عام لكل من يسمع هذه القصة من المؤمنين اعتذارًا منه صلى الله عليه وسلم، لئلا يحملوا صنيعها على ما يذم، بل يجري على عادة الضرائر من الغريزة، فإنها مركبة في نفس البشر بحيث لا تقدر أن تدفعها على نفسها (7).

وعن رزينة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن سودة اليمانية جاءت عائشة تزورها، وعندها حفصة بنت عمر، فجاءت سودة في هيئة، وفي حال حسنة، عليها درع من برود اليمن، وخمار كذلك، وعليها نقطتان مثل العدستين من صبر وزعفران في مؤقيها، فقالت: حفصة لعائشة: يا أم المؤمنين، يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم فشقا وهذه بيننا تبرق؟ فقالت لها أم المؤمنين: اتقي الله يا حفصة، اتقي الله يا حفصة، قالت: لأفسدن عليها زينتها، قالت: ما تقلن، وكان في أذنها ثقل، قالت لها حفصة: يا سودة خرج الأعور، قالت: نعم، ففزعت فزعًا شديدًا، فجعلت تنتفض، قالت: أين أختبئ؟ قالت: عليك بالخيمة - خيمة لهم من سعف يطبخون فيها - فذهبت فاختبأت فيها، وفيها القذر ونسج العنكبوت، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما تضحكان لا تستطيعان أن تتكلما من الضحك، قال: «ماذا الضحك؟»، ثلاث مرار، فأومأتا بأيديهما إلى الخيمة، فذهب فإذا سودة ترعد، فقال لها: «يا سودة، ما لك؟»، قالت: يا رسول الله، خرج الأعور، قال: «ما خرج، وليخرجن، ما خرج وليخرجن، ما خرج وليخرجن»، ثم دخل فأخرجها، فجعل ينفض عنها الغبار ونسج العنكبوت (8).

من المهام الرئيسية للرجل أن يعطي الحنان للمرأة، وقد قال سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان: يعني هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن (9).

قال الرازي: أما قوله تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قد ذكرنا في تشبيه الزوجين باللباس وجوها أحدها: أنه لما كان الرجل والمرأة يعتنقان، فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، سمي كل واحد منهما لباسًا، قال الربيع: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن، وقال ابن زيد: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، يريد أن كل واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار الناس.

وثانيها: إنما سمي الزوجان لباسًا ليستر كل واحد منهما صاحبه عما لا يحل، كما جاء في الخبر «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه».

وثالثها: أنه تعالى جعلها لباسًا للرجل، من حيث إنه يخصها بنفسه، كما يخص لباسه بنفسه، ويراها أهلًا لأن يلاقي كل بدنه كل بدنها كما يعمله في اللباس.

ورابعها: يحتمل أن يكون المراد ستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت، لو لم تكن المرأة حاضرة، كما يستتر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار (10).

وإذا عدنا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ينادي السيدة عائشة باسمها، إنما كان يدللها بعائش، وكان يطعمها في فمها بيده، وكان إذا جاءها الحيض يبحث عن موضع شفتيها على الإناء حين تشرب الماء، فيضع شفتيه حيث وضعت شفتيها ليشعرها بالحنان، وكان يلعب معها ويسابقها وتسبقه.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدنُ، فقال للناس: «تقدَّموا» فتقدموا، ثم قال لي: «تعالي حتى أسابقك» فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدُنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: «تقدَّموا»، ثم قال لي: «تعالي أسابقك»، فسابقني فسبقني فضرب بيده كتفي ويقول: «هذه بتلك» (11).

وتقول زوجات الرسول: كان رسول الله عليه وسلم ضاحكًا في بيته، أي كان يضحك ويُضحك أهل بيته، ولم يكن صامتًا مثل أزواج هذه الأيام حيث تشكو الزوجات من الخرس الزوجي، فيقلن: كان رسول الله يحدثنا ونحدثه، فإذا نودي للصلاة كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه، وكانت السيدة عائشة تجلس بالساعات تحدثه ويسمع منها وتسأله: كيف حبك لي؟ فيقول لها: «كعقدة الحبل»، تقول فكنت أتركه أيامًا وأعود لأسأله: كيف العقدة يا رسول الله؟ فيقول عليه وسلم: «هي على حالها» (12).

ويسأله عمرو بن العاص: من أحب الناس إليك يا رسول الله؟ فيقول: عائشة (13).

كان الصحابي ابن عباس يقص شعره ويتزين ويتعطر، ويقول: أحب أن أتزين لزوجتي، كما أحب أن تتزين لي.

 عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا، امرأة امرأة، فيدنو ويلمس من غير مسيس، حتى يفضي إلى التي هو يومها، فيبيت عندها (14).

وقد يحصل أن يجتمعن في بيت التي يكون مبيته عندها، فإذا جاء وقت النوم انصرفن إلى حجرهن، وقد تحصل بعض المشادات بينهن خلال ذلك، ولنستمع إلى أنس رضي الله عنه، يقص علينا حديثه في ذلك:

قال أنس: كان للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، فكان إذا قسم بينهن، لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع، فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها، فكان في بيت عائشة، فجاءت زينب، فمد يده إليها، فقالت: هذه زينب، فكفَّ النبي صلى الله عليه وسلم يده، فتقاولتا حتى استخبتا، وأقيمت الصلاة، فمر أبو بكر على ذلك، فسمع أصواتهما، فقال: اخرج يا رسول الله إلى الصلاة، واحث في أفواههن التراب.

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: الآن يقضي النبي صلى الله عليه وسلم صلاته فيجيء أبو بكر فيفعل بي ويفعل، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، أتاها أبو بكر، فقال لها قولًا شديدًا، وقال: أتصنعين هذا؟ (15).

وقد ترتفع أصواتهن على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تهجره إحداهن..

قال عمر رضي الله عنه: صخبت على امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، قالت: ولمَ تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهنَّ لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني ذلك وقلت لها: وقد خاب من فعل ذلك منهن، ثم جمعت عليَّ ثيابي، فنزلت فدخلت على حفصة، فقلت لها: أي حفصة، أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم، فقلت: قد خبتِ وخسرتِ، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلكي؟ لا تستكثري النبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك ولا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم (16).

قال المهلب: وفيه بذل الرجل المال لابنته لتحسن عشرتها مع زوجها؛ لأن ذلك صيانة لعرضه وعرضها، وبذل المال لصيانة العرض واجب، وفيه: تعريض الرجل لابنته بترك الاستكثار من الزوج إذا كان ذلك يؤذيه ويحرجه (17).

ولقد بات صلى الله عليه وسلم يعرف غضب الواحدة منهن من رضاها، عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى»، قالت: فقلت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: «أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين: لا ورب محمد وإذا كنت غضبى، قلت: لا، ورب إبراهيم»، قالت: قلت: أجل، والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك (18).

قال النووي: فدل على أن قلبها وحبها كما كان، وإنما الغيرة في النساء لفرط المحبة (19).

قال الطيبي: هذا الحصر لطيف جدًا؛ لأنها أخبرت أنها إذا كانت في حال الغضب الذي يسلب العاقل اختياره لا تتغير عن المحبة المستقرة، فهو كما قيل:

إني لأمنحك الصدود وإنني       قسمًا إليك مع الصدود لأميل

وقال ابن المنير: مرادها أنها كانت تترك التسمية اللفظية ولا يترك قلبها التعلق بذاته الكريمة مودة ومحبة (20).

***

_______________

(1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (9117).

(2) أخرجه الترمذي (3895).

(3) أخرجه الترمذي (3894).

(4) أخرجه أبو داود (4999).

(5) أخرجه البخاري (5225).

(6) فتح الباري لابن حجر (5/ 126).

(7) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 1970).

(8) أخرجه أبو يعلى (7160).

(9) تفسير ابن كثير (1/ 510).

(10) مفاتيح الغيب (5/ 269- 270).

(11) أخرجه النسائي (8896).

(12) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 44).

(13) أخرجه الترمذي (3886).

(14) أخرجه أحمد (24765).

(15) أخرجه مسلم (1462).

(16) أخرجه البخاري (5191).

(17) شرح صحيح البخارى لابن بطال (7/ 308).

(18) أخرجه البخاري (5228)، ومسلم (2439).

(19) شرح النووي على مسلم (15/ 203).

(20) فتح الباري لابن حجر (9/ 326).