الداعية البار
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه, فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي في طلب شيء يومًا، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثت والقدح على يدي، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج »(1)، إلى آخر الحديث.
انظر إلى هذا الرجل الذي عاد إلى أهله, فوجد أبويه نائِميْن, والصبية يبكون من شدة الجوع، وإنها للحظة حرج شديد، يتنازع هذا الرجل فيها بر الوالدين والرأفة بالأولاد.
ماذا يصنع؟ هل يوقظ والديه فيزعجهما؟ هل يسقي الأولاد الذين لا يَقْوون على احتمال الجوع؟
إنه آثر الوقوف لأجل أن يستيقظ أبواه في أية لحظة فيقدمَ لهما غبوقَهما, فما استيقظا إلا بعد أن بزغ الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما.
وانظر إليه وهو يدعو الله تعالى: «إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك» فلا بد إذًا من إخلاص يحرك هذا البارَّ بوالديه، فيدعو الله تعالى ويتوسلُ إليه بما فعل من صالح العمل فيفرج الله كربه ومن معه، ألا ما أجملَ البِرَّ يزينه الإخلاص لله تعالى.
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم لما مَرَّ على قبر أمه آمنة بنت وهب بالأبواء حيث دُفِنت، وهو مكان بين مكة والمدينة، ومعه أصحابه وجيشه، وعددهم ألف فارس، وذلك عام الحديبية، فتوقف وذهب يزور قبر أمه، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبكى من حوله، وقال صلى الله عليه وسلم: «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي»(2).
وهذا إبراهيم خليل الرحمن أبو الأنبياء وإمام الحنفاء عليه السلام، يخاطب أباه بالرفق واللطف واللين، مع أنه كان كافرًا، {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} [مريم:42]، وهو يدعوه لعبادة الله وحده، وترك الشرك، ولما أعرض أبوه وهدد إبراهيم بالضرب والطرد لم يزد على قوله: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47].
وأثنى الله على يحيى بن زكريا عليهما السلام فقال تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:14].
ومن دعاء نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28].
إلى غير ذلك من أقوال النبيين عليهم السلام التي سجَّلها كتاب الله تعالى.
ألا فلْيَخفض كُلٌّ منا جناحيه لوالديه, رحمةً بهما, واعترافًا بفضلهما، وطاعةً لأمر الله عز وجل, وإخلاصًا لهما, فهو القائل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24].
بر الوالدين هو طاعتهما، وإظهار الحب والاحترام لهما، والإحسان إليهما، وطاعتهما، وفعل الخيرات لهما، وقد جعل الله للوالدين منزلة عظيمة لا تعدلها منزلة، فجعل برهما والإحسان إليهما والعمل على رضاهما فرض عظيم، بكل وسيلة ممكنة، بالجهد والمال، والحديث معهما بكل أدب وتقدير، والإنصات إليهما عندما يتحدثان، وعدم التضجر وإظهار الضيق منهما، وقد دعا الإسلام إلى البر بالوالدين والإحسان إليهما، وذكره بعد الأمر بعبادته، فقال جلَّ شأنه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].
وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36].
وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
وحثَّ الله كل مسلم على الإكثار من الدعاء لوالديه في معظم الأوقات، فقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41].
فضل بر الوالدين:
بر الوالدين له فضل عظيم، وأجر كبير عند الله سبحانه، فقد جعل الله بر الوالدين من أعظم الأعمال وأحبها إليه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: «أي العمل أحب إلى الله؟»، فقال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة على وقتها»، قلت: «ثم أي؟»، قال: «بر الوالدين»، قلت: «ثم أي؟»، قال: «الجهاد في سبيل الله»(3).
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل استأذنه في الجهاد: «أحي والداك؟»، قال: «نعم»، قال: «ففيهما فجاهد»(4).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد»(5).
إن بر الوالدين طريق مختصر إلى رضا الله عز وجل، إذا أرضيت والديك سيرضى الله عنك، وإذا أسخطت والديك وقدمت أعمالًا صالحة كبيرة فأبشر بسخط الله عز وجل عليك.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف»، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة»(6).
عن جاهمة السلمي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: «يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة»، قال: «ويحك! أحيّـة أمك؟»، قلت: «نعم»، قال: «ارجع فبرّها»، قال: ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت: «يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة»، قال: «ويحك! أحية أمك؟»، قلت: «نعم يا رسول الله»، قال: «فارجع إليها فبرها»، ثم أتيته من أمامه فقلت: «يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة»، قال: «ويحك! أحية أمك؟»، قلت: «نعم يا رسول الله»، قال: «ويحك! الزم رجلها فثم الجنة»(7).
الفوز بمنزلة المجاهد:
أقبل رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أبايعك على الهجرة والجهاد؛ أبتغي الأجر من الله»، فقال صلى الله عليه وسلم: «فهل من والديك أحد حي؟»، قال: «نعم، بل كلاهما»، فقال صلى الله عليه وسلم: «فتبتغي الأجر من الله؟»، فقال: «نعم»، قال صلى الله عليه وسلم: «فارجع إلى والديك فأَحْسِنْ صُحْبَتَهُما»(8).
إذا كان المسلم بارًّا بوالديه محسنًا إليهما، فإن الله تعالى سوف يرزقه أولادًا يكونون بارين محسنين له، كما كان يفعل هو مع والديه.
وتقول السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: إن أمي قَدِمَتْ وهي راغبة (أي طامعة فيما عندي من بر)، أفَأَصِلُ أمي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم، صلي أمَّكِ»(9).
البر قرين العبادة:
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83].
والإحسان نهاية البر, فيدخل فيه جميع ما يحب من الرعاية والعناية, وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين حتى قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما بعبادته، التي هي توحيده والبراءة عن الشرك، اهتمامًا به وتعظيمًا له، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36].
فأوصى سبحانه بالإحسان إلى الوالدين إثر تصدير ما يتعلق بحقوق الله عز وجل، التي هي آكد الحقوق وأعظمها، تنبيهًا على جلالة شأن الوالدين بنظمهما في سلكها بقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
عقوق الوالدين:
حذَّر الله تعالى المسلم من عقوق الوالدين، وعدم طاعتهما، وإهمال حقهما، وفعل ما لا يرضيهما أو إيذائهما ولو بكلمة (أف) أو بنظرة، يقول تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].
ولا يُدْخِل عليهما الحزن ولو بأي سبب؛ لأن إدخال الحزن على الوالدين عقوق لهما، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: «مَنْ أحزن والديه فقد عَقَّهُمَا».
جزاء العقوق:
عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين من كبائر الذنوب؛ بل من أكبر الكبائر، وجمع بينه وبين الشرك بالله، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين...»(10).
دعونا ننتقل إلى سيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كيف كانت علاقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بوالديهم.
بر الوالدين من صفات الأنبياء عليهم اسلام، وقد أمرنا سبحانه وتعالى في كتابه العظيم أن نقتدي برسله الكرام، رُسل الله سبحانه وتعالى وأنبياؤه بررة بوالديهم، وقد حكى الله عز وجل ذلك عنهم في كتابه الكريم، فهذا نوح عليه السلام يدعو للوالدين ويقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28].
إن نوحًا عليه السلام داعية ورجل صالح، ومع ذلك كان من أدعيته الدعاء للوالدين، إذًا الأنبياء أيضًا جاءوا ببر الوالدين، وهذا من أعظم ما جاءوا به عليهم الصلاة والسلام.
وإسماعيل عليه السلام يفاجأ يوم من الأيام بوالده إبراهيم عليه السلام يقول له: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، مفاجئة عجيبة لإبراهيم ولابنه إسماعيل، إن إبراهيم عليه السلام ما جاءه ولد إلا بعد فتره طويلة من عمره، بعد ما بلغ من العمر عتيًا، ويأتيه النداء والبشارة من الله أنه سيرزق بمولود، وتمر الأيام ويرزقه الله بذلك المولود، ويأتي إسماعيل عليه السلام ولدًا لإبراهيم, ثم يأمر الله عز وجل إبراهيم بذبح ابنه.
فماذا قال ذلك الابن البار: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
أما عن يحيى عليه السلام فقال تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:14].
وقال عن عيسى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32].
وهذا سيد الأنبياء وخاتمهم صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي».
بر الوالدين عند السلف الصالح:
ومن صور البر في تراثنا ما ذُكر عن علي بن الحسين حين قيل له: «أنت من أبرّ الناس ولا نراك تؤاكل أمّك»، قال: «أخاف أن تسير يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتُها».
وقيل لعمر بن ذر: «كيف كان برُّ ابنك بك؟»، قال: «ما مَشَيتُ نهارًا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلًا إلا مشى أمامي، ولا يرقى لي سطحًا وأنا تحتَه».
وقال المأمون: «لم أر أحدًا أبرّ من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من برِّه به أن يحيى كان لا يتوضأ إلا بماءٍ مسخَّن وهما في السجن، فمنعهما السجّان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضلُ حين أخذ يحيى مضجعه إلى قُمْقُم كان يُسَخَّن فيه الماء، فملأه ثم أدناه من نار المصباح، فلم يزل قائمًا وهو في يده حتى أصبح»(11).
قال ابن عباس: «ما من مؤمن له أبوان فيصبح ويمسي وهو محسن إليهما إلا فتح الله له بابين من الجنة».
وقال أبو الليث السمرقندي: «لو لم يذكر الله تعالى في كتابة حرمة عقوق الوالدين, ولم يوص بهما, لكان يُعرف بالعقل أن خدمتهما واجبة».
قال بعض الصحابة: «ترك الدعاء للوالدين يضيق العيش على الولد».
وقال كعب: «إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقًا لوالديه ليعجل له العذاب, وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان بارًا ليزيد برًا وخيرًا».
كان محمد بن سيرين إذا اشترى لوالدته ثوبًا اشترى ألين ما يجد, فإذا كان عيد صبغ لها ثيابًا, وما رفع صوته عليها, كان يكلمها كالمصغي إليها, ومن رآه عند أمه لا يعرفه، ظن أن به مرضًا من خفض كلامه عندها.
وقال سعيد بن عامر: «بات أخي عمر يصلي, وبت أغمز قدم أمي, وما أحب أن ليلتي بليلته».
وكانت أم منصور بن المعتمر فظةً غليظةً عليه، وكانت تقول: «يا منصور، يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى», وهو واضع لحيته على صدره, ما يرفع طرفه إليها.
أراد كَهْمَسُ العابد قتل عقرب, فدخلت جحرًا، فأدخل أصابعه خلفها فلدغته, فقيل له بذلك، قال: «خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي تلدغها».
وعن عبدالله بن عون أن أمه نادته فأجابها، فعلا صوته صوتها فأعتق رقبتين، وقيل أن بندار جمع حديث البصرة, ولم يرحل برًا بأمه, ثم رحل بعدها.
وقال علي رضي الله عنه: «بر الوالدين من كرم الطبائع».
قال عبد الله بن عباس: «كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل للسيد الفظ الغليظ».
وكان علي بن الحسن لا يأكل مع والديه، فقيل له في ذلك، فقال لأنه ربما يكون بين يدي لقمة أطيب مما يكون بين أيديهما وهما يتمنيان ذلك, فإذا أكلت بخست بحقهما.
عن أبي حازم أن أبا هريرة لم يحج حتى ماتت أمه، وسئل الحسن عن بر الوالدين فقال: أن تبذل لهما ما ملكت, وتطيعهما ما لم تكن معصية.
قال حميد: لما ماتت أم أياس بن معاوية بكى, فقيل له: «ما يبكيك؟»، قال: «كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة وأُغلق أحدهما».
وقال علي رضي الله عنه: «لو علم الله شيئًا في العقوق أدنى من (أف) لحرمه».
وقال عروة بن الزبير: «ما بر والديه من أَحَدَّ النظر إليهما».
كان كهمس يعمل في الجص كل يوم بدانقين، فإذا أمسى اشترى به فاكهة فأتى بها إلى أمه.
وقال ابن عباس: «إني لا أعلم عملًا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة».
كان أبو حنيفة يُضرب كل يوم ليدخل في القضاء فأبى، ولقد بكى في بعض الأيام, فلما أطلق قال: «كان غم والدتي أشد علي من الضرب».
ورأى ابن عمر رجلًا يطوف بالكعبة حاملًا أمه على رقبته, فقال: «يا ابن عمر، أترى أني جزيتها؟»، قال: «لا, ولا بطلقة واحدة, ولكنك أحسنت، والله يثيبك على القليل الكثير».
وعن أصبغ بن زيد قال: «إنما منع أويس القرني أن يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بره بأمه.
قال ابن محيريز: «من دعا أباه باسمه أو كنيته فقد عقَّه, إلا أن يقول: يا أبتِ».
وقال الحسن: «لا يعدل بر الوالدين لا حج ولا جهاد, ولا صدقة».
عن عائشة أنها قالت: «كان رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر من كان في هذه الأمة بأمهما: عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان، فأما عثمان فإنه قال: ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت، وأما حارثة فإنه كان يفلي رأس أمه، ويطعمها بيده، ولم يستفهمها كلامًا قط تأمر به، حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج: ماذا قالت أمي؟».
وكان أبو هريرة إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه فقال: «السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته», فتقول: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته», فيقول: «رحمك الله كما ربيتيني صغيرًا», فتقول: «رحمك الله كما بررتني كبيرًا», وإذا أراد أن يدخل صنع مثله(12).
قال سفيان بن عيينة: «قدم رجل من سفر فصادف أمه قائمة تصلي, فكره أن يقعد وهي قائمة, فعلمت ما أراد فطولت ليؤجر».
وقال بشر الحافي: «الولد بقرب أمه بحيث تسمع نفسه أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله عز وجل, والنظر إليها أفضل من كل شيء».
وقال الحسن: «دعاء الوالدين للولد نجاة، ودعاؤهما عليه استئصال وبوار».
وقال الحسن البصري: «من عقل الرجل ألَّا يتزوج وأبواه في الحياة».
وقال رجل لعبيد بن عمير: «حملتُ أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها المناسك, أتراني جزيتها؟»، قال: «لا, ولا طلقة واحدة».
قال عمر رضي الله عنه لرجل قتل نفسًا: «والذي نفس عمر بيده، لو كانت أمه حية فبرها وأحسن إليها, رجوت ألَّا تطعمه النار».
وقال رفاعة بن إياس: «رأيت الحارث العكلي في جنازة أمه يبكي, فقيل له: تبكي؟ قال: ولِمَ لا أبكي وقد أُغلق عني باب من أبواب الجنة».
وكان ابن الحنيفية يغسل رأس أمه بالخطمي، ويمشطها ويقبلها ويخضبها.
قال لقمان لابنه: «يا بني، إن الوالدين باب من أبواب الجنة, إن رضيا عنك مضيت إلى الجنة, وإن سخطا حجبت».
وسئل كعب عن العقوق فقال: «إذا أقسم عليه فلم يفعل, وسأله فلم يعطه».
وقال بشر: «أرى للأب والأم أن يأخذا من مال ابنهم ما يكفيهم إذا كانا محتاجين».
قال جعفر: سمعت عروة بن الزبير يقول في سجوده: «اللهم اغفر للزبير بن العوام ولأسماء بنت أبي بكر».
وقال ابن عباس: «ليس شيء أحط للذنوب من بر الوالدين».
وقال يونس بن عبيد: «يرجى للذي به رهق إذا كان بارًا, وكان يتخوفون على أعماله إذا كان عاقًا».
وقال بعض السلف: «أفضل النفقة نفقة الرجل على والديه».
وقال القيسي: قلت: «يا أبا هريرة, إن الجهاد قد فضله الله، وإني كلما رحلت راحلتي جاء والداي فحطا رحلي»، قال: «هما جنتك فأصلح إليهما» ثلاثًا.
وقال مجاهد: «دعوة الوالد لا تحجب دون الله تعالى».
سأل رجل ابن عباس فقال: «إني نذرت أن أغزو الروم، وإن أبواي يمنعاني؟»، قال: «أطع أبويك, فإن الروم ستجد من يغزوها عنك».
قال رجل لكعب: «أحتسب عند الله ما فاتني من بر الوالدين», قال: «لم يفتك برهما, استغفر لهما, واجعل لهما حظًا من طاعاتك, تكن من الأبرار إن شاء الله».
كان حيوة بن شريح يقعد في حلقته يعلم الناس, فتطل له أمه, وتقول له: «قم يا حيوة فالق الشعير للدجاج», فيقوم ويترك التعليم.
عن قرة عن ابن سيرين قال: «بلغت النخلة ألف درهم»، فنقر نخلة من جمارها، فقيل: «عقرت نخلة تبلغ كذا وكذا وجمارة بدرهمين»، قال: «سألتني أمي، ولو سألتني أكثر من ذلك فعلت».
كان الزبير بن هشام بارًا بأبيه, إن كان ليرقى إلى السطح في الحر فيؤتى بالماء البارد فإذا ذاقه فوجد برده لم يشربه وأرسله إلى أبيه(13).
وقال الإمام أحمد: «بر الوالدين كفارة الكبائر».
وقال كعب: «من البر أن تبر من كان أبواك يبرانه»(14).
وقال أبو هريرة: «ترفع للميت بعد موته درجته, فيقول: أي رب، أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك».
وقال محمد بن سيرين: كنا عند أبي هريرة ليلة فقال: «اللهم اغفر لأبي هريرة ولأمي ولمن استغفر لهما», قال محمد: «فنحن نستغفر لهما حتى ندخل في دعوة أبي هريرة»(15).
قال الشافعي: «لو كنت مغتابًا أحد لاغتبت أمي؛ فإنها أحق الناس بحسناتي».
***
______________
(1) أخرجه البخاري (2272).
(2) أخرجه مسلم (976).
(3) أخرجه البخاري (527).
(4) أخرجه البخاري (3004).
(5) أخرجه الترمذي (1899).
(6) أخرجه مسلم (2551).
(7) أخرجه ابن ماجه (2781).
(8) أخرجه مسلم (2549).
(9) أخرجه البخاري (2620)، ومسلم (1003).
(10) أخرجه البخاري (2654)، ومسلم (87).
(11) عيون الأخبار (3/ 98).
(12) البر والصلة، ص84.
(13) المصدر السابق، ص86.
(14) المصدر السابق، ص50.
(15) الأدب المفرد، ص28.