متعة التواصل مع الأبناء
إن التواصل مع الأبناء من أهم الأمور التي تُشعِر الأبناء بقيمة الآباء والأمهات، ودورهم الفعال في حياتهم، فالأبناء إذا شعروا أنهم في أي وقت يحتاجون فيه إلى آبائهم يجدونهم، فهذا الشعور وحده كفيل بثقة الابن بنفسه، وزيادة راحته النفسية، وكذلك شعوره بصدق ما يطلبه منه والده من أوامر، وما ينهاه عنه من نواه.
لذا، وجب على الآباء والأمهات أن يكونوا متاحين في أي وقت يحتاج فيه الأبناء إليهم، "فقد وجد "ولسن وودز" أن هناك علاقة مؤثرة بين توفر الأب في ساعات معينة، وظهوره بمظهر المستعد لاستقبال الأبناء، وقضاء وقت معهم، وبين إقبال هؤلاء الأبناء عليه واستعانتهم به، وعرض مشكلاتهم عليه.
ومن هنا وجب على الوالدين توفير الوقت والاستعداد النفسي للتواصل مع الأبناء، والتعامل معهم مهما صعبت الظروف أو كثرت الواجبات" [علم النفس التربوي، للدكتور عبد العزيز النغيمشي، ص310].
فعلى الوالدين أن يكونا متوفرين في أي وقت، وفي أي مكان، وبأي وسيلة عندما يحتاج الأبناء إليهم؛ بل عليهم أن يشعروا بمتعة هذا الاتصال مع الأبناء، وأن يأتوا بهذا الاتصال وهم يشعرون بنوع من الحب والتفاني، لا أن يقوموا بهذا الاتصال وهم يشعرون بشيء من الواجب الثقيل على كاهلهم، وأن يقتدوا في ذلك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعن جرير رضي الله عنه قال: «ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي» [صحيح البخاري (3035)].
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، رغم انشغاله بأمور المسلمين وتسيير شئون دولته، وإنفاذ الغزوات، وكثير من الأمور التي تثقل على الرجال الشداد، إلا أن كل هذا لم يقف أبدًا عائقًا أمام النبي صلى الله عليه وسلم كي يتواصل مع الأبناء، ويستقبل أي إنسان يحتاجه في أي شأن من شئون الحياة، وكان اهتمامه هذا أيضًا بأبنائه "فقد استفاضت كتب الحديث والسير بذكر منهجه وأسلوب حياته في البيت مع الأولاد، فقد روى عنه أصحابه رضي الله تعالى عنهم أنهم شاهدوه والحسن والحسين على بطنه أو صدره، وربما بال أحدهما عليه، أو ربما جلس لهم عليه الصلاة والسلام كالفرس يمتطيان ظهره الشريف، وربما صلى وهو حامل أحد الأولاد أو البنات، ويروى عنه أنه كان يقبلهم في أفواههم ويشمهم ويضمهم إليه، وربما خرج على أصحابه وهو حامل الحسن أو الحسين على عاتقيه، فكان صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره وعلو منزلته يفعل ذلك؛ ليقتدي به الناس، ولأنه يعلم أهمية هذه المخالطة في المجال التربوي" [مسئولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة، عدنان حسن باحارث، ص72].
"على الآباء أن يعلموا أن الأبناء فيما بعد سن الثامنة يميلون إلى الجلوس والحديث إلى آبائهم، ويحلمون بأن يكونوا على شاكلتهم، ويرغبون في السماع إلى توجيهاتهم، وينبغي للأب المسلم أن يستغل هذه الفرصة وهذا الميل من الأبناء، ويوجههم التوجيه الصحيح المثمر" [المصدر السابق، ص72، بتصرف].
إن التواصل مع الأبناء ليس متعة للأبناء فقط في كونهم يحبون الاستماع إلى الآباء وإلى توجيههم، ورغبتهم في أن يكونوا مثلهم؛ بل ينبغي أن يكون متعة للآباء كذلك، فللأسف كثير من الآباء لا يفطنون إلى أن صحبة الأبناء متعة حقيقية، وأنها أكثر إشباعًا من متعته بأنه رزق بولد، فكم من الآباء رزقوا بأبناء، ولكن القليل منهم من يعرفون أبناءهم ويفهمونهم، ويعملون على صحبتهم، وقليل من هذا القليل من يستمتعون بصحبة أبنائهم.
كي تحصل على متعة التواصل مع الأبناء فلا بد من أن يبدأ التواصل من أول اليوم، فمع نسمات الصباح الجميل، ومحاولة الأم أو الأب إيقاظ الابن للمدرسة، تبدأ أولى حلقات التواصل مع الأبناء، وينبغي أن يكون هذا التواصل في أرقى صوره، فلا يكون إيقاظ الأبناء بالكلمات الجافة والمعاملة الخشنة، فلا يقال للابن: "انهض يا كسول"، ولكن علينا أن نعيش مشاعر الابن النائم، ولا نتعارك معه، وحينها نقول له: "إن الاستيقاظ اليوم من النوم يبدو صعبًا، خذ خمس دقائق أخرى، ولكن حاول أن تسرع حتى لا تفوت أتوبيس المدرسة"، مثل هذه الجمل تجعل الصباح رائعًا ومميزًا للابن، إنها تخلق جوًا من الدفء والترابط والتواصل بين الآباء والأبناء.
ثم يأتي وقت الذهاب إلى المدرسة، وهنا لا بد من عدم استعجال الابن، فربما نسي بعض أغراضه، وربما وقع من فرط استعجاله، وإن نسي شيئًا فلا بد أن يقوم الآباء بإعطائه ما نسي دون مواعظ أو تأنيب أو توبيخ، ثم تكون الكلمة الحانية الجميلة: "سأنتظرك في الساعة الثانية، حين قدومك من المدرسة".
وعند العودة من المدرسة لا بد وأن تكون الأم في استقبال الابن، ويجب ألا تواجهه بأسئلة جامدة، يكون الرد عليها قاطع لا يفتح حديثًا ممتعًا، وإنما يكون الحوار على منوال: "يبدو أن يومك في المدرسة كان صعبًا؛ لذلك فأنت سعيد برجوعك إلى البيت"، وحينها يبدأ الابن بسرد وقائع يومه، وما أحبه وما كرهه، وما ود أن لو كان، وهكذا، أما سؤاله: "كيف كانت المدرسة؟" فسيجيب فورًا: تمام.
وهناك نقطة هامة، وهي عند رجوع الأب من العمل، فيجب على الأم أن تحيل بطريق غير مباشر بين الأب وبين مطالب الأبناء ومطالب البيت؛ حتى يستطيع الوالد أن يأخذ فترة نقاهة بين مشاغل العمل ومتطلبات بيته ووقت أبنائه، ولتكن فترة النقاهة هذه عبارة عن كوب من العصير، أو حمام من الماء الدافئ، أو قراءة الجريدة، ومع الوقت يتعلم الأبناء أنه عند عودة الوالد إلى البيت فإنه يحتاج إلى فترة قصيرة من الراحة والهدوء.
ثم أخيرًا وقت النوم، إن كثيرًا من بيوتنا اليوم تتحول فيها ساعة النوم إلى ساعة النكد؛ ذلك لأن الأم تريد من الأبناء الخلود إلى النوم حتى يتمكنوا من الاستيقاظ باكرًا، والأبناء يريدون الاستيقاظ أطول فترة ممكنة، وحينها لا يوجد حل إلا التوبيخ والصوت العالي والتهديد والوعيد، أما إذا تحول وقت النوم هذا إلى ساعة تواصل رائعة دافئة، تأخذ فيها الأم، أو يأخذ فيها الأب، الأبناء إلى السرير بهدوء، ويضطجعون بجانبهم، ويأخذون في الحديث معهم بحميمية وحنان ورفق، وعندئذ ستجد الأبناء دائمًا يتطلعون إلى ساعة النوم؛ حتى يتواصلوا مع آبائهم وأمهاتهم، ويشعروا بهذا الدفء والحنان والحب.