logo

التربية الأسرية بين اللين والشدة


بتاريخ : السبت ، 8 رجب ، 1442 الموافق 20 فبراير 2021
بقلم : تيار الاصلاح
التربية الأسرية بين اللين والشدة

جتباينت أراء القائمين على شئون التربية من مربين وموجهين – قديمًا وحديثًا- حول أهمية العقاب، في تربية وتعليم النشء؛ فهناك من يسلك طريق الشدة والقسوة، وهناك من يتعامل بالرفق واللين، وهناك من يمزج بين الطريقتين، تبعًا للظروف والأحوال الخاصة، وهناك من ليس له طريقة محددة، ويتصرف بدون ضوابط.

ومرد هذا التباين، يرجع إلى أن أهل الاختصاص ينظرون إلى الموقف التربوي استنادًا للتساؤل الثاني: هل هو موقف انتقامي وعدواني، يسوده الخوف، والتوتر العصبي، للمربي والمتعلم؟ أم أنه موقف إنساني عقلي، يسوده الود والاتزان الانفعالي والعاطفي، من المربي إلى المتعلم؟ وفي هذا المجال نعرض لثلاث فرق تختلف آراؤها بين:

العقاب كضرورة تربوية، الرفق واللين بالمتعلمين، التوازن بين اللين والشدة.

1- العقاب كضرورة تربوية: يرى هذا الفريق أن العقاب ضرورة تربوية، تهدف إلى تقويم اعوجاج المتعلم، ووسيلة تسهم في تهذيبه وتوجيهه إلى الأفضل، ومن ثم فلا مندوحة لعقاب المتعلم بضربه، وقد تحدث ابن حجر الهيثمي عن هذه المسألة بإسهاب، فقال بضرورة العقاب، وذكر الأسباب الموجبة لضرب الطفل، فمن ذلك قوله: والظاهر أنه يرجع في الضرب للإصلاح، لتكاسله عن الحفظ، وتفريطه فيما علمه، ووقوع فحش منه، كهربه أو إيذائه غيره، أو تلفظه بما لا يليق (1).

وابن سينا يرى في العقاب ضرورة تربوية، وفي ذلك يقول: وليكن أول الضرب موجعًا، كما أشار به الحكماء، فإن الضربة الأولى إذا كانت موجعة، ساء ظن الصبي بما بعدها، واشتد خوفه، وإن كانت خفيفة غير مؤلمة، حسن ظنه بالباقي، فلم يحفل به (2)، فابن سينا يريد أن يبدأ بالشدة ليقوى المطلوب في إصلاح الطفل.

ومن جملة ما دعا إليه أبو حامد الغزالي، أنه لا بد من علاج حاسم، يضع الأمور في نصابها الصحيح، وحسم الداء خير من علاجه: فالصبي إذا أهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب، رديء الأخلاق، كذابًا، حسودًا، ذا فضول ونميمة (3).

وقد رصد المختار السوسي العلاقة التربوية بين المعلم والمتعلم في الكتاب، فوصفها بأنها سلطوية: إذا جلس التلميذ إلى الطالب (المدرس) ليعرض لوحته، ثم تململ فيها، فلا يجيبه إلا بلطمه، والوالد يقول في ذلك متى رآه، رضي الله على الطالب، فما أكثر اجتهاده... وقلما نجد من يمتعض لولده أن رأى منه مثل ذلك، ويعقب المختار السوسي على هذا الذي يرتضيه الآباء من قسوة المعلمين وشدتهم في العقاب، هذا التأديب العنيف الذي يرتكبه الطلبة (المعلمون)، ويرتضيه الآباء هو الذي يحمل بعض التلاميذ على الهروب، وقلما نجد من لم يهرب من بلد إلى بلد، من كل من تعلم القرآن، وهذه تأديبات العصر الماضي (4).

ومن كلام الحكماء ما ذكره المغراوي: من أدب ولده أرغم أنف عدوه، ومن أدب ولده غم حاسده، ومن أراد أن يغيظ عدوه فلا يرفع العصا عن ولده، وقالوا: بادروا تأديب الأطفال قبل تراكم الأشغال وتفرق البال (5).

وبيان أثر الضرب في علم النفس الحديث؛ أن ضربة العصا تؤلم الصبي، فتؤدي إلى امتناعه عما يفعل، حتى لا يقع عليه الضرب مرة ثانية، والإنسان بطبيعته، مفطور على الإقبال على ما يسره والابتعاد عما يؤلمه، والذاكرة تلعب دورًا هامًا، إذ يستعيد الصبي سبب أوجاعه، ويستحضر في ذاكرته الموقف الذي ضرب فيه، فيعمل على إبعاد كل ذلك، وبهذا يستقيم، وبهذا تؤثر التربية، ويتم التدريب المنشود في عالم الصبيان، كما هو معروف.

2- الرفق واللين بالمتعلمين:

يرى آخرون أن للمربي مندوحة من العقاب بوسائل أخرى أجدى وأنفع، تتمثل في الرفق واللين بالمتعلمين، وعدم الاستبداد في التأديب، وعلى المربي أن يجنب متعلميه مفاتيح ومعايب العادات الهادفة إلى تهذيب السلوك، وإدراك معرفة تمردهم والسبيل إلى تقويمهم.

ومن بين هذا الفريق؛ القابسي الذي ينزل المعلم من الصبيان، بمنزلة الوالد فهو المأخوذ بأدبهم والناظر في زجرهم عما لا يصلح لهم، والقائم بإكراههم على فعل منافعهم، وهذا في نظره يحتاج إلى سياسة ورياضة، حتى يصل المعلم بالطفل إلى معرفة طريق الخير، وهي طريق لا تدرك بالبديهة؛ بل بالرياضة والتعلم؛ فهو يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم ولا يخرجهم ذلك من حسن رفقه بهم ولا من رحمته إياهم، وينبغي أن يكون المربي مهيبًا لا في عنف ولا يكون عبوسًا، مرفقًا بالصبيان (6).

ومن بين هذا الفريق أيضًا الماوردي الذي يقول في تأديب الصبي: فإذا رام أن يأخذه بالعنف استشاطت نافرة، ولجت معاندة، فلم تنقد إلى طاعة، ولم تنكف عن معصية، ويقول: فإذا استعصت عليه قيادة نفسه، وداوم منه نفور قلبه مع سياستها ومعاناة رياضها، تركها ترك راحة، ثم عاود بعد الاستراحة (7).

ويتماشى رأي ابن خلدون، مع هذا التوجه المعارض للعقاب، فنراه يتذمر من الطرق السقيمة، في تعلم وتأديب الصبي، ويحذر المعلمين منها، وما يؤدي إليه سوء التصرف حيث يقول: وذلك أن إرهاف الحد (أي العقوبة) في التعليم مضر بالمتعلم؛ ولا سيما في أصاغر الولد، فهو كان قد وقف على ما كانت عليه الكتاتيب في عصره، ونراه يتألم من طرق التعليم التي يتبعونها، في القسوة والشدة والضرب، وعدم السعي في تنشئة الصبي على الأخلاق الحميدة، بالطرق الرشيدة، ومن ثم يقرر أن الطرق التربوية والتعليمية التي تتسم بالشدة والعنف اتجاه المتعلمين مضرة بهم وبخاصة في طفولتهم.

كما أن بعض الفقهاء ورجال الفتوى، أفرطوا في محامد تحلي المعلم بسعة الخاطر، والتنازل لصغاره حتى لو أرهق الصبي على معلمه المداد، لكان عليه ألا يغضب، بل يقوم بغسله على نحو ما تفعله المرضع مع مرضعها؛ إن هذه المعاملة القائمة على الشفقة والرفق واللين في إصلاح الطفل وتكوينه خلقيًا ونفسيًا، من شأنها أن تجعله يكبر على العمل الصالح من تلقاء نفسه، دون حاجة إلى عصا وقسوة المربي، فتثمر الرياضة في نفسه.

فالعلة في الالتجاء إلى الرفق واللين، وهي نفسانية في نظر هذا الفريق، لأن معنى استئناس الصبيان، هو الاعتياد الناشئ عن التكرار، ومن أثر العادة، إماتة الشعور، وبذلك لسطوته عليهم.

3- التوازن بين اللين والشدة:

يرى هذا الفريق أن اللين مع الطفل، وإشعاره بالحنان يجب ألا يتعدى الحدود إلى درجة الإفراط في ذلك، وألا تترك له الحرية المطلقة في أن يعمل ما يشاء، فلا بد من وضع منهج متوازن في التصرف فيه معه من قبل المربين، فلا يتساهلوا معه إلى أقسى حدود التساهل، ولا يعنف على كل شيء يرتكبه، فلا بد أن يكون اللين وتكون الشدة في حدودهما، ويكون الاعتدال بينهما هو الحكم على الموقف حتى يجتاز مراحل الدراسة بسلام.

وفي حال ارتكاب الطفل لبعض المخالفات السلوكية، فالأولى أن ينبه الطفل إلى حب الكرامة، وأن يشعر بأضرار هذه المخالفة، ويقنع بالابتعاد عنها، فإن لم ينفع الإقلاع يأتي دور تأنيب والتوبيخ، دون العقاب البدني، والعقوبة العاطفية خير من العقوبة البدنية.

ومن هذا الفريق ابن مسكويه، الذي تحدث في هذه المسألة بإسهاب عند كلامه عن تربية الطفل حيث قال: فالأولى بمثل هذه النفس، أن تنبه على حب الكرامة، ثم يمدح الأخيار عنده، ويمدح هو نفسه، إذا ظهر منه شيء ويخوف من المذمة على أدنى قبيح يظهره، فإن خالف في بعض الأوقات ما ذكرته، فالأولى ألا يوبخ عليه، ولا يكاشف بأنه أقدم عليه، بل يتغافل عنه فإن عاد فليوبخ وليعظم عنده ما أتاه، ويحذر من معاودته، فإنه إن عاودته التوبيخ والمكاشفة حملته على الوقاحة، وعودته على ما كان استقبحه، وهان عليه سماع الملامة، في ركوب قبائح الذات التي تدعو إليها نفسه (8).

وأن المربين المسلمين لم يركزوا تربيتهم على الشدة والضرب، كما كان عليه الحال عند غيرهم، فقد سلكوا طريقة حكيمة رشيدة، لا تختلف عما نسلكه اليوم، فقد كانوا لا يباغتون الصبي المذنب باللوم والتوبيخ، ويغضون الطرف عن الهفوات التي تصدر منه، ولا يكاشفونه بها، لا سيما إذا حاول الصبي سترها، وإذا تكرر هذا منه يعرضون له بالكلام عنها، وأنه لا يستحسن أن تصدر من صبي عاقل، حسن الأخلاق، فيقبحونها في عينيه، فإن عاد إليها عاتبوه بكلمات قليلة، لأن كثرة العقاب يهون عليه سماع الملامة، ولا يبقى عليه تأثير (9).

فالعقوبة في رأي هذا الفريق غير محدودة، إذا لم يتجاوز الطفل حد المعقول، وبذلك كرهوا التشديد عليه، ونصحوا بغض الطرف عن الهفوات التي تصدر عنه، وأنه في ضوء المنهج التربوي السليم يحدث التوازن بين المدح والتأنيب، فالمدح الزائد كالتأنيب الزائد، يؤثر على التوازن الانفعالي للطفل، ويجعله مضطربًا قلقًا.

وتخلص إلى القول بأن إقرار العقوبة ليس من الأمور المتفق عليها عند المربين والمفكرين، لأن التقابل بين العقاب والتسامح هو تقابل الأضداد، فأنصار التسامح لهم وجهة نظرهم، وعندهم كثير من الحجج على صحة مبدئهم، وهم يقصدون من وراء ذلك الخير الأسمى للأطفال، والقائلون بالعقاب يرمون إلى غاية بعيدة أيضًا، وعندئذ، يلتقي أصحاب التسامح وأنصار العقاب عند الغاية، وإن اختلفت الوسيلتان فقصدهما الخير لبني الإنسان (10).

وقفات تربوية بين اللين والشدة:

لعل من أهم أسس التربية الصحيحة أن يكون المربي وسطًا بين الشدة واللين؛ سواء في الكلمات والألفاظ، أو في التصرفات، بحيث يتبع المصلحة لا ما تمليه عليه نفسه، ولعل الوسط هو الحكمة، وفي أحيان قد يغلب جانب اللين، وفي أحيان أخرى قد يغلب جانب الشدة، فينظر المربي أين وجدت المصلحة تربويًا فليوجد معها، وحول اللين والشدة في التربية، لنا بعض الوقفات.

الوقفة الأولى: إن النتائج الطيبة تربويًا تحتاج إلى جهد مماثل، فلا يمكن للمربي أن يهدف إلى إخراج جيل متميز من غير جهود مبذولة إلا أن يشاء الله تعالى، وليس هذا الجهد المبذول من الأبوين كجهد المعلم ونحوه؛ فإن جهود الأبوين مستمرة بخلاف غيرهما فإنها مؤقتة، فإن كنتما تريدان لأولادكم أن يكونوا نماذج طيبة في المجتمع وهذا مطلب كبير وجليل، فاستديما التربية المدروسة القائمة على أن الوقاية خير من العلاج، وما كانت كثير من المشاكل التربوية في المجتمع إلا لضعف تلك الوقاية.

الوقفة الثانية: الصبر على التربية وملاحظتها وتحديثها بالمعلومات هو مركب شاق؛ لكنه مفيد تربويًا واجتماعيًا، فاصبرا على ذلك ولا يكون الوالدان ضيقي الأفق في تصرفاتهم التربوية، فإن لكل تصرف ردة فعل إيجابية أو سلبية، ولا يكن هم الوالدين إنهاء الموقف، ولكن عليهما أن يحسبا للمستقبل بهذا التصرف، فالصبر سفينة النجاح والنجاة إذا تلاطمت الأمواج بإذن الله تعالى، وليس معنى الصبر هو التخاذل، وإنما الصبر هو الحرص على تحقيق الإيجابية في حياة الأولاد.

الوقفة الثالثة: نظرة سريعة في أحاديث الرفق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان الفحش في شيء قط إلا شانه» (11)، ويقول عليه الصلاة والسلام: «إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق» (12)، فما هو الرفق؟ هو لين الجانب اللين الإيجابي وليس الانهزامي، وهو ضد العنف، بل قد ورد قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» (13)، فلا بد من معرفة فقه الرفق وآليته والتعامل الصحيح معه، ويدخل في الرفق التفاهم بالتي هي أحسن عند حصول الخلاف سواء بين الأزواج أو الأولاد أو غيرهم.

الوقفة الرابعة: إن الشدة المتناهية هي سبب لزوال الجو العاطفي في الأسرة، المبني على المحبة والتقبل، وكذلك اللين المتناهي هو مما يضعف شخصية المربي بحيث لا يؤبه له أحيانًا، وأما الحكمة فهي وسط بينهما، لين في مكانه وشدة في مكانها، يتنوع الأسلوب التربوي على المتربي (14).

وتشير الدراسات النفسية إلى أن الذين يستعملون سلوكًا عدوانيًا، مثل المربين، ينتقل هذا إلى متربيهم؛ ذلك لأن السلوك العدواني، يفجر لدى الطفل مشاعر عدوانية، اتجاه المربي واتجاه العمل الذي يمارسه، فيبادل العنف بعنف مماثل؛ وتلك ظاهرة من مظاهر تمرده التربوي، إذ من المعتاد أن يؤدي العقاب إلى كراهية مصدر العقاب، وكراهية العمل الذي يؤدي إلى العقاب (15).

الوقفة الخامسة: ثمة مخرجات سلبية في اللين المتناهي ومنها:

أولًا: عدم الاهتمام بالأوامر الصادرة من المربي.

ثانيًا: أمن العقوبة الصادرة على المتربي.

ثالثًا: من سلبيات اللين المتناهي كثرة المخالفات من المتربي؛ لأنه لا يواجه شدة من المربي عند المخالفة.

رابعًا: يجعل المتربي يعيش هذا اللين مع الآخرين؛ كالأقارب والمعلمين ونحوهم، فيتصور أن هذا كهذا إلى غير ذلك من سلبيات اللين المتناهي.

الوقفة السادسة: وثمة سلبيات للشدة المتناهية مع المتربي ومنها:

أولًا: عدم القناعة بالأوامر الصادرة من المربي لخوفه من الشدة.

ثانيًا: عدم اكتمال المحبة بين المتربي والمربي.

ثالثًا: ضعف القبول للتوجيهات التربوية.

رابعًا: مواقف سلبية تصدر من المتربي خلال تلك الشدة.

إلى غير ذلك من مخرجات الشدة المتناهية في التعامل بين المربي والمتربي.

الوقفة السابعة: الحكمة في التربية أن تكون بين هذا وذاك، بين الشدة واللين، وكما يقال: لا تكن لينًا فتعصر ولا قاسيًا فتكسر، والحكمة وسط بين طرفين ليعتاد المتربي كلا الطرفين؛ الشدة واللين كل في وقته.

إن التربية لا تقوم على أساس السلطة، بل على أساس الذكاء الذي ينطلق من المحبة، والحياة من غير غفران وتسامح، تتحول إلى صراع من أجل بقاء الشخصية.

وان التأهيل العقلي للطفل مرهون بانطباعات الثقة، والأمن، التي تسود في الأجواء التربوية، فالطفل ليس في مستوى القدرة على إبداء مشاعر الشك العقلي، والنقد المنهجي ولكنه في مستوى التلقين والتعلم والاكتساب (16).

الوقفة الثامنة: لا بد من بعد النظر في التصرف مع الأولاد سواء في تكليفهم أو تربيتهم وإرشادهم، أو في عقوباتهم عند أخطائهم، فإن كان التصرف غير مدروس فقد يكون له سلبيات على المتربي حاضرة أو لاحقة، وقد وقع سلبيات بين الآباء والأولاد، وذلك خلال تصرفات عاجلة غير مدروسة؛ وإنما هي تصرف من المتربي في ساعته الحاضرة، ونسيان ما قد يترتب على هذا التصرف، وهذا يحصل أيضًا كثيرًا من الأزواج والزوجات، فكم من فراق كان سببه التصرف غير المدروس.

الوقفة التاسعة: عند تربيتك في جميع أحوالك اتق الألفاظ السيئة؛ كالتشبيه بالحيوان، أو الوصف بالغباء ونحوها، مما هو معروف مشاهد عند البعض مع الأسف، فإن هذه الألفاظ تطفئ النار المستعرة الآنية، لكنها تورث سلوكًا سلبيًا بين المربي والمتربي، وقد يستمر طويلًا لا قدر الله.

الوقفة العاشرة: في حال تربيتك اتق الضرب إلا في حدود ضيقة جدًا، ويكون غير مبرح لأن الهدف المرجو من التربية قد لا يحصل من خلال الضرب إلا في دائرة ضيقة، ولها أحوالها، لكن العقوبات الأخرى ممكنة، كالمنع من بعض الأشياء، أو التقليل من المصروف، ونحو ذلك مما يكون عقوبة ممكنة.

الوقفة الحادية عشر: يتنوع التوجيه بين المربي والمتربي فيكون أحيانًا بالهدية وأحيانًا أخرى بالكلمة وأحيانًا أخرى بالصحبة، وكذلك يكون بالتوجيه غير المباشر إلى غير ذلك من أساليب التوجيه، فلا يحسن بالمربي أن يجمد على أسلوب واحد؛ بل طرقها كلها مما يوسع الأفق عند المربي والمتربي.

الوقفة الثانية عشر: عندما تشعر بنسبة من اليأس في التربية، أو قلة النتائج الإيجابية، ونحو ذلك؛ فعليك باستشارة المستشارين المختصين، فلديهم مشاكل وحلول يكون من خلالها معرفة الخلل لديك، فإن تلاقح الأفكار التربوية مما يثري أثرًا تربويًا إيجابيًا لدى الجميع.

فما أحوجنا الى طرح قضايانا التربوية فيما بيننا للمناقشة فيها والخروج بتوصيات ايجابية علينا وعلى أولادنا وزوجاتنا.

معاشر الآباء والأمهات والمربين والمربيات، احتسبوا وفقتم وبوركتم في تربيتكم لمن تحت أيديكم، فهم والله أهم بكثير من شئون أخرى نقوم بها ونتعب من خلالها؛ لأن الأولاد إذا صلحوا ارتاح ضمير المربي، واستقرت نفسه واتسع باله، بخلاف ما إذا كان المتربي فاسدًا؛ فإن المربي يفاجأ كل وقت بمشكلة ونازلة من هذا المتربي، فيا أيها الآباء والأمهات، إن هؤلاء الأولاد سيفرون منكم وتفرون منهم يوم القيامة خشية مطالبة كل صنف للآخر، لكن إذا كانت الحياة صالحة فإن هذا الفرار قد يقل بفضل الله تبارك وتعالى، فاعملوا على تربيتهم وصلاحهم مما يكون ذخرًا لكم في الدنيا والآخرة (17).

الرفق سلوك حضاري رفيع يأتي تمامًا بعكس العنف أو الشدة أو القسوة وجفاف المشاعر، ولكني في هذا الموضوع لن أتحدث عنه كسلوك عام بقدر ما أني سأتحدث عنه كسلوك إيجابي فعّال في تربية الأبناء أو التعامل عمومًا مع فئة الأطفال وصغار السن.

ويتصور البعض (إن ما يحتاجه الطفل هو الشدة أو الضرب)، ولكن نقول لدينا مئات ومئات السلوكيات والأخلاقيات والكلمات التي سنلجأ لها قبل أن نقول أن الشدة أو الضرب هو الحل، وفي هذا حجة لدى البعض بأنه تربى بالشدة ويريد أن يسير على نفس الأسلوب وعذرًا، إن قلت أن الأمة ستذهب فيها بزيادة أعداد عالات على المجتمع، فأولًا الأجيال تختلف والعقول تتطور وما كان قديمًا صحيحًا عن جهل أصبح اليوم خاطئًا عن علم، وثانيًا والأهم هو قدوتنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا بد لنا أن نتأسى به، فالقسوة الدائمة تنفر الناس من حولك ولو كنت أقرب قريب قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159].

وكما أن القسوة تكون بالفعل بالضرب ونحوه، فإنها أيضًا تكون بالقول؛ وذلك بالتوبيخ القارع والتحقير والسخرية والازدراء، فكم والله فيها من تحطيم للأولاد وقتل الروح المعنوية في قلوبهم وشعورُهم أنهم لا يصلحون لشيء؛ وهذا من أخطر الأمور في التربية لأن الأولاد في مثل هذه الحالة سيكونون عرضة لكل من يتلقفهم من شياطين الإنس وألعوبة لكل من يجرهم من السفهاء، وهذا لا يرضى به الأبوان مع أنهم قد يكونوا السبب في ذلك.

ونود أن نذكر لك إن لاستخدام أسلوب العنف أو الصراخ نتائج سلبية منها:

1 أن ذلك لا يوقف السلوك الخاطئ؛ بل يجعل الطفل يقوم بنفس السلوكيات بشكل سري.

2- أن هذا الأسلوب يمنح كل أنواع الانتباه السلبي، فلنفترض أن الطفل يلعب بالقرب منكِ بينما أنتِ تتحدثين مع جارة زارتكِ: فتقولين لها هذا طفلي شقي جدًا، كسول، لا يسمع …، في هذه اللحظة هو ينتبه لحديثكِ ولو لم ينظر إليّكِ أو بدا لكِ أنه غير منتبه أو مشغول باللعب، هنا ستمنحيه انتباه سلبي فيؤذيه ذلك، وقد يدفعه للانتقام بمزيد من السلوكيات الخاطئة، والعكس في الانتباه الايجابي.

3- أن أسلوب العنف يعلم الطفل جيدًا كيف يكون عنيفًا مع نفسه والآخرين، ما لم يأتي لهذا الطفل عوامل تربوية ثانية تُهذب ما تلقاه، وهذا العنف قد يكون خارجي أو داخلي يصاحبه كبت وكراهية للآخرين، وهذه الأخيرة هي الأخطر.

4إن هذا الأسلوب يجعل الأطفال يتوقفون عند أدني مستوى من النمو الأخلاقي إذ يهتمون بتفادي العقاب وليس في فعل ما هو جيد وحسن.

5- إن هذا الأسلوب يفرض سيطرة خارجية على الطفل، فتتوقف لديه المرجعية الداخلية وتجعله يتلقى من الخارج فيصبح تابعًا، كما يتوقف لديه صنع القرار ويفقده ثقته بنفسه ويقل تقديره لذاته.

6- أسلوب العنف والشدة يعلم الطفل كيف يعتاد على العنف فلا يعود يؤثر فيه، مثلما نسمع كثيرًا عبارة (ما عاد يؤثر فيه الضرب) بالطبع لن يؤثر لأنه اعتاده، وبدأ بفصل شعوره الداخلي عن جسده بينما بضع كلمات حانية، قد تؤثر في هذا الطفل أقوى تأثير بعضنا من طبيعته العصبية والغضب السريع، ولعل أفضل علاج لذلك وصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتغيير الوضع في حال الغضب، وقد يدخل من ذلك أخذ نفس عميق والعد قبل التصرف، أو الذهاب للوضوء، وقبلها النهي الصريح بـ «لا تغضب».

وهذا ما يتماشى مع ما جاءت به العديد من الدراسات النفسية الحديثة، التي أثبتت أن هناك علاقة بين ممارسة الشدة على المتعلمين من ناحية، وارتفاع درجة الملل وقهر النفس وضيقها، وانقباضها من ناحية أخرى.

وقد أرجعت هذه العلاقة إلى أن أثر المبالغة في إنزال العقوبة بالمتعلم؛ ولا سيما المراهق، وما ينتج عنها من صلة القهر، وما تحمل من معنى السيطرة يؤدي إلى:

1- انقباض النفس: وهو دليل على انخفاض الروح المعنوية وعدم التفاؤل.

2- زحف المزيد من الشعور بالاكتئاب: وهو عبارة عن انطواء والعزلة، ورد الفعل لبعض الأحداث في حياة الفرد، الذي يشعر الطفل أثناءه بموجة من الحزن والانقباض، ويفقد قدرته على السيطرة على نفسه.

3- الإرهاق الناجم عن الشعور بالسأم: وهو حال ضيق يعقبها تشتت في الانتباه، وهي ناتجة، أما عن تحول النشاط إلى حركة آلية، أو عن تتابع عوائق تحول دون اطراد النشاط في سيره.

4- الكسل النفسي: وهو يقترب من الفتور أو الخمول حيث تكاد تتلاشى الإجابة الانفعالية والوجدانية، ويقتل الاكتراث بالمشاعر تجاه المواقف ومثيراتها، بحيث تكون الاستجابة غريبة في ضوء ما هو متوقع من استجابة الآخرين.

وقد أسهب ابن خلدون في توضيح ما ينشأ عن الأثر النفسي، والنتائج الوخيمة، بسبب القهر، واستعمال الشدة والعنف، فقال: إن من يعامل بالقهر، يصبح حملًا على غيره إذ هو يصبح عاجزا عن الدود عن شرفه وأسرته، لخلوه من الحماسة والحمية، على حين يقعد عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، وبذلك تنقلب النفس عن غاياتها ومدى إنسانيتها.

إن أكثر ما يحرك العلاقات الإنسانية عمومًا هو العاطفة، فالجفاف العاطفي مشكلة يعاني منها الكثير، فلا يستطيعون التعبير عن حبهم بالكلمات والتصرفات، وكوننا نتحدث هنا عن الأطفال؛ فإن أكثر ما يحتاج إليه الطفل هو إشباعه بالعاطفة، لينشأ شخصًا سويًا لا يخجل من إظهار عواطفه والتعبير عنها في اتجاهها الصحيح (18).

والخلاصة؛ أن الشريعة جاءت باللين في محله، والشدة في محلها، فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك، ولا يجوز أيضًا: أن يوضع اللين في محل الشدة، ولا الشدة في محل اللين، ولا ينبغي أيضًا: أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت باللين فقط، ولا أنها جاءت بالشدة فقط، بل هي شريعة حكيمة كاملة، صالحة لكل زمان ومكان، ولإصلاح كل أمة، ولذلك جاءت بالأمرين معًا، واتسمت بالعدل والحكمة والسماح (19).

عش مع أهلك وسطًا بين الشدَّة واللين، وعش مع الناس وسطًا بين العزلة والانقباض، وعش مع إخوانك وسطًا بين الجد والهزل، وعش مع تلاميذك وسطًا بين الوقار والانبساط، وعش مع أولادك وسطًا بين القسوة والرحمة، وعش مع الحاكمين الصالحين وسطًا بين التردد والانقطاع، وعش مع بطنك وسطًا بين الشبع والجوع، وعش مع جسمك وسطًا بين التعب والراحة، وعش مع نفسك وسطًا بين المنع والعطاء، وعش مع ربك وسطًا بين الخوف والرجاء، تكن من السعداء.

_____________

(1) تحرير المقال في آداب وأحكام وفوائد يحتاج إليها مؤدبو الأطفال (ص: 106).

(2) مكونات العملية التعليمية في الفكر التربوي الإسلامي (ص: 237).

(3) التوجيه الإسلامي للنشء في فلسفة الغزالي (ص: 90).

(4) مدارس سوس العتيقة (ص: 21).

(5) المغراوي وفكره التربوي: من خلال كتابه جامع جوامع الاختصار (ص: 82).

(6) التربية الإسلامية بين العقيدة والأخلاق (ص: 236).

(7) أدب الدنيا والدين (ص: 38).

(8) تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق/ لابن مسكويه.

(9) إحياء علوم الدين (3/ 73).

(10) الآثار النفسية للممارسة الشدة في المجال/ الجمعية المركزية.

(11) أخرجه ابن حبان (551).

(12) صحيح الجامع (303).

(13) أخرجه مسلم (2593).

(14) التربية الأسرية بين اللين والشدة/ طريق الإسلام.

(15) الآثار النفسية للممارسة الشدة في المجال/ الجمعية المركزية.

(16) المصدر السابق.

(17) التربية الأسرية بين اللين والشدة/ منتديات الألوكة.

(18) التربية الأسرية بين الشدة واللين/ مركز الكفيل التخصصي للإرشاد الأسري.

(19) عبد العزيز بن باز/ الدرر السنية (16/ 133- 134).