logo

الأسرة وانتكاسة الفطرة


بتاريخ : الاثنين ، 7 جمادى الآخر ، 1446 الموافق 09 ديسمبر 2024
الأسرة وانتكاسة الفطرة

خلق الله تعالى الزوجين يكمل أحدهما الآخر لتكوين أسرة مستقرة، يعيش أفرادها حياة هادئة مطمئنة، ولكن بعض الناس قد خالف السنة الكونية والفطرة السوية، فجنح جنوحًا شاذًا عن الطبيعة الفطرية للإنسان، فالقوامة المفقودة للزوج داخل الأسرة انتكاسة للفطرة، والمرأة المسترجلة انتكاسة للفطرة، والولد العاق لوالديه انتكاسة للفطرة، والبنت المتمردة على عادات مجتمعها انتكاسة للفطرة، والغيرة المفقودة على النساء انتكاسة للفطرة، والتقاطع والهجر بين الأرحام والأقارب انتكاسة للفطرة، وغير ذلك كثير، فما أسباب ذلك؟ وكيف وصل الحال بالأسرة المسلمة إلى هذا المستوى من الانحدار حنى سمعنا عن تحرش الولد بأخته بل وبأمه ولا حول ولا قوة إلا بالله. 

الانتكاسة في الاختيار:

اختيار الزوج المناسب هو قرار مهم ومعقد يتطلب التفكير العميق والتأمل، ويمكن أن تكون هناك عدة عوامل تؤدي إلى انتكاسة الفطرة في هذا الاختيار، مثل الضغوط الاجتماعية، والتوقعات العائلية، والخيالات الفكرية، والتأثيرات الثقافية.

عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها: عناق، وكانت صديقته، قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنكح عناق؟ قال: فسكت عني، فنزلت: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]، فدعاني فقرأها عليّ وقال: «لا تنكحها» (1).

كان يظن بخياله أن النبي صلى الله عليه وسلم سيأذن له بالزواج من هذه المرأة، لكن الشريعة الإسلامية لا تسمح بتكوين أسرة على أسس فاسدة حتى لا تنهار سريعًا، وتتفكك مع أول موقف لها، فالمرأة التي لا حياء عندها من ممارسة الرذيلة والزنا، ولا تتورع عن الرجال لا تصلح لبناء الأسرة وتربية الأبناء، وإقامة حياة الطهر والعفاف.

إن الرجل النظيف لَا يلقي بمائه في موضع دنس، وأي دنس أخبث من دنس الزنى، وأي نبت سيخرج من هذا الموضع سيكون ملوثًا ومتأثرًا بالمصدر الذي تغذى منه ونشأ في أحضانه.

وفي رواية: قلت: يا رسول الله، أنكح عناقًا؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليّ شيئًا حتى نزلت الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فلا تنكحها» (2). 

فالذين يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون، إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن الإيمان وعن مشاعر الإيمان، وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة لأنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز، حتى لقد ذهب الإمام أحمد إلى تحريم مثل هذا الرباط بين زان وعفيفة، وبين عفيف وزانية إلا أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر، وعلى أية حال فالآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية، ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد: «وحرم ذلك على المؤمنين» .. وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة (3).

من المهم أن يكون الاختيار مبنيًا على القيم المشتركة، والتفاهم المتبادل، والاحترام، وليس فقط على المظاهر الخارجية أو الضغوط الخارجية.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم» (4)، أي: اطلبوا لها ما هو خير المناكح وأزكاها وأبعدها من الخبث والفجور، وهذا يحدث عند انتكاس الفطر فيبحث الرجل عن الجميلة والثرية وذات الحسب والنسب والمنصب والوجاهة، ولا يبالي بدينها أو أخلاقها، فالعبرة عنده الدنيا وليس الدين، والشهوة وليست العفة.

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك» (5). 

والمعنى: أن اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء، لا سيما فيما تطول صحبته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتحصيل صاحبة الدين الذي هو غاية البغية (6).

قال القاضي: عادة الناس أن يرغبوا في النساء ويختاروها لإحدى أربع خصال عدها، واللائق بذوي المروءات وأرباب الديانات أن يكون الدين مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون، سيما فيما يدوم أمره ويعظم خطره، فلذلك حث المصطفى صلى الله عليه وسلم بآكد وجه وأبلغه، فأمر بالظفر بذات الدين الذي هو غاية البغية ومنتهى الاختيار والطلب الدال على تضمن المطلوب لنعمة عظيمة وفائدة جليلة (7). 

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض» (8). 

أي: ذو عرض أي كثير، لأنكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مال أو جاه ربما يبقى أكثر نسائكم بلا أزواج وأكثر رجالكم بلا نساء، فيكثر الافتتان بالزنا، وربما يلحق الأولياء عار فتهيج الفتن والفساد، ويترتب عليه قطع النسب وقلة الصلاح والعفة.  

قال الطيبي رحمه الله: وفي الحديث دليل لمالك فإنه يقول: لا يراعى في الكفاءة إلا الدين وحده، ومذهب الجمهور أنه يراعى أربعة أشياء: الدين والحرية والنسب والصنعة، فلا تزوج المسلمة من كافر، ولا الصالحة من فاسق، ولا الحرة من عبد، ولا المشهورة النسب من الخامل، ولا بنت تاجر أو من له حرفة طيبة ممن له حرفة خبيثة أو مكروهة، فإن رضيت المرأة أو وليها بغير كفؤ صح النكاح (9). 

وحين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله، فتوفي بالمدينة، فقال عمر ابن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئًا، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئًا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله، ولو تركها رسول الله قبلتها (10). 

الانتكاسة في المعاشرة:

قال تعالى: {وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ} [البقرة: 223]، قدموا لأنفسكم في أمر الزواج وما يثمره، بأن تختاروا عند الزواج ذات الخلق والدين والعفاف والاعتدال، حتى يكون لكم حياة هنيئة في حياتكم الزوجية، فمن اختار الزوجة العفيفة ذات الدين فقد قدم لنفسه، ولمستقبله. 

ثم إذا أحسنتم اختيار الزوج فأحسنوا عشرتها، وخذوها بالرفق والدين والفضيلة والمعاملة الحسنة والقيام بحقها، فإن من يفعل ذلك يقدم لنفسه، فإن المرأة إذا جمحت نغصت البيت، وكان العيش نكدًا، فمن أحسن معاملة أهله فقد قدَّم لنفسه (11).

حفظ الإسلام حق المرأة في اختيار الزوج والرضا به، فلا يجوز إجبارها على أن تنكح رجلًا لا ترضاه، بل يجب على الولي أن يستأذنها في أمر نكاحها، ويكفي للدلالة على رضا البكر سكوتها.

وجعل لكل من الرجل والمرأة حرية اختيار الزوج، فلا يكره أحدهما بمن لا يرضاه، وفي حال اختيار المرأة رجلًا ليس مكافئا لها في الدين، فإنه لا يسمح لها في ذلك حفاظًا على عقيدتها وشرفها، فهو منع لصالحها هي وأسرتها. 

{ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي ذلكم النهى عن ترك العضل على الشرط الذي تقدم، فيه بركة وصلاح لحال متبعيه، وفيه طهر لأعراضهم وأنسابهم، وحفظ لشرفهم وأحسابهم، فكم كان عضل النساء مدعاة للفسوق، مفسدة للأخلاق، وسببًا في اختلال نظم البيوت، وشقاء الذرية.

انظر إلى ولىّ يمنع من له الولاية عليها من الزواج بمن تحب، ويزوجها بمن تكره، اتباعًا لهواه أو لعادات قومه، كما كانت تفعل العرب من قبل، أيرجى لمثل هذه صلاح أو أن تقيم حدود الله، أم يخشى أن يغويها الشيطان بمن تحب، ويمد لها حبل الغواية حتى لا تقف عند حد؟

ولجهل الناس بوجوه المصالح الاجتماعية كانوا لا يرون للنساء شأنًا في إصلاح حال البيوت ولا فسادها، حتى جاء الإسلام وعلمهم من ذلك ما هم في أشد الحاجة إليه من حسن معاملة النساء والرفق بهن ومعاملتهن بالحسنى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، لكنّ المسلمين نسوا أوامر دينهم وساروا سيرة جاهلية مع نسائهم فكان لذلك أسوأ الأثر في فساد الأسر والبيوت جزاء وفاقًا لتركهم عظات شريعتهم وتناسيهم أوامر دينهم (12).   

وقد بين سبحانه بعد ذلك شيئًا من العشرة الزوجية يتصل بالعلاقة الفطرية بين الزوجين؛ وفي هذه الآيات ذكر الأمر الذي يتصل بظلم الرجل لزوجه فيما يتصل بتلك العلاقة، وذلك بأن يمتنع عما يتقاضاه الطبع مضارة لها، وقد يكون له زوج أخرى يشبع عندها حاجته الفطرية، ويترك هذه كالمعلَّقة، لَا هي زوج تأنس بالحياة الزوجية -، ولا هي مطلقة تأنس بأهلها ولا تذوق مضاضة الظلم والحرمان مما أحله الله؛ وقد يوثق ذلك بيمين يحلفها، ويتوهم أن من الخير البرَّ بهذه اليمين، وأن يترك زوجه تأكلها الغيرة، وتكتوي بلوعة الظلم والأذى والمكايدة، وتستوحش بتلك النفرة المستحكمة (13). 

مجتمعاتنا تنحدر بسرعة مفزعة في منعطفات الانحراف، يومًا عن يوم يزداد مؤشر الانحراف، فبالأمس كان ذلك الفعل شنيعًا، واليوم أصبح مألوفًا...وعلى هذا فمستنكر اليوم هو مألوف غدًا... حتى يصبح فعل المستنكر هو الرجوع إلى الصواب!، ألم نقرأ قوله تعالى عن سوء أفعال بني إسرائيل ودلائل انحرافاتهم: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79].  

الغرق في بحر المباح بلا فهم لمعنى الورع كان هو البداية، فقد أوقعنا في الشبهات التي اوقعتنا في الحرام، وبدأ خط الانحراف يسري بنا دون ضوابط وتتمكن الغرائز من السلوكيات. 

إن الكتابة عن علاج الانحراف المجتمعي- غافلةً ما وصلت إليه الفطرة المجتمعية من قيم ومفاهيم وتفاعلات وسلوكيات تجاه مفاهيم مثل: الطهر والعفاف والطيب والطهارة والإيمان- لهي كتابة ضائعة ولا شك، ولن تزيد صفحاتها إلا حروفًا على حروف.  

يعلم المربون أن الأمر أكبر من ذلك، وأن الفطرة في مجتمعاتنا تتآكل، فلا تربية تنفع إن كان العالم الخارجي قاتلًا لفطرة القلوب بينما الداخل أيضًا يسود وتنقلب عنده المفاهيم، ويأتي بعد ذلك المربون ليسألوا (لماذا ينحرف أبناؤنا وقد بذلنا الجهد في تربيتهم؟!).

ولئن كانت الفطرة السوية تدفع الناس للأفعال والمشاعر الصائبة، فإن فطرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم تدفعها إلى تجنب المعاصي والشبهات، إنها إذن هي المربي الأفضل، والإسلام يدعو دائمًا لبعثها من جديد، إذ يقوم أصلها على مراقبة الله سبحانه التي تدفع بحسن الأخلاق والسلوك.

لكأن التدمير الكلي للجيل الجديد ناتج عن تدمير جزئي للجيل القديم وجيل إلى جيل يزداد الانحدار، فالأب الذي تدفعه فطرة حب الولد إلى أن يمسك ابنه عن البذل في سبيل الله لا يمكن أن تنتظر من ابنه أن تولد بداخله إلا فطرة مشابهة لها، أما الذي يدفعه للعطاء مثلًا ويتغلب على شهوة حبه لولده في سبيل الله فهنا تتكون فطرة العطاء لدى الولد، وعلى ذلك قِسْ فطرة حب المال وغيره.  

إن الشركيات والبدع، والتقليد الأعمى للغرب، والتشبه بهم، وإنفاق المال في الحرام، والحسد، والجهل عن ديننا وعقيدتنا، والشهوات، والفراغ، والتفكك الأسري، والرفقة السيئة، والتأثير السلبي للإعلام، والبيئة المحيطة... كلها عوامل أتاحت الفرصة للفطرة الفاسدة في النمو والتمكن من القلب لتحل محل الفطرة الحسنة (14).

إهمال التربية انتكاسة للفطرة:

إن من أعظم أسباب الشذوذ وانتكاسة الفطرة اضطراب الأسرة، وانشغالها عن رعاية بنيها، ولهذا كان من البديهي استشراء الشذوذ في الغرب الذي بات مصير الأسرة فيه مهددًا بالانقراض إثر الانحلال المتفشي.

فعندما تهمل الأسرة أبناءها‏، تكون النتيجة المرتقبة انحرافهم بأشكال مختلفة، قد يمثل الشذوذ أحدها‏، خاصة عندما ينشأ الأولاد في أسر استرجلت فيها النساء، أو في مجتمع سُلب ذكوره الرجولة.  

الاثارة الجنسية في المجتمع انتكاس للفطرة:

لقد كان هدف الإسلام من تكوين الأسرة هو الهدوء والاستقرار النفسي، بعيدًا عن الاثارة المحرمة والتهييج الممنهج، والرغبة المستعرة، فالزوج والزوجة كل منهما سكن للآخر، لا يفكران في المثيرات الجنسية؛ وإنما يفكران في مصالح الأسرة واحتياجاتها، ولكن عندما تنتكس الفطر يصير همّ الرجل والمرأة المحفزات والمثيرات، وكأن ليس لهم شغل يشغلهم ولا هم لهم سوى ذلك، في حين أن الحياة تحتاج إلى فراغ الذهن من هذه الأمور، لذلك شُرع الزواج، وجعل لكل رجل زوجة تسكن معه فلا يفكر في كيفية الوصول إليها، فهي عنده وبجواره ومعه متى شاء، فلا ينشغل بها ولكن ينشغل بقضاياه المهمة ومصالحه ومصالح مجتمعه وأمته.  

يقول صاحب الظلال: إحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليمًا وبقوته الطبيعية، دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف.

لقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين، والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة.. شاع أن كل هذا تنفيس وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي، وما وراءه من اندفاع غير مأمون... الخ.  

شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين! -وبخاصة نظرية فرويد- ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية، رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتًا من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس. نعم.. شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي، والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها.  

إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهومًا أنها لا تنشأ إلا من الحرمان، وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب، شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه.  

ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد؛ وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء! وللأجسام العارية في الطريق، وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة، واللفتات الموقظة، وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد، مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود.

إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي؛ لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض؛ وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها، فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود، وإثارته في كل حين تزيد من عرامته؛ وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة، فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة (15).

العلمانية انتكاسة للفطرة:

صدق النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبرنا أنه لم يترك بعده فتنة أضر على الرجال من النساء، ولقد نفخ العلمانيون في نار هذه الفتنة حتى تعاظمت، وأخذت أبعادًا خطيرة، يمكن استيعابها في أربعة أبعاد: 

البعد الأول: وضع مجتمع الشباب في حالة الإثارة الجنسية الدائمة؛ فوسائل الإغراء والإثارة متعددة ومتنوعة وتتميز بالشمول في الزمان والمكان، في البيت، وفي الشوارع، وفي العمل، وفي المواصلات، وفي المدارس والجامعات، لماذا؟

لأن هذه الحرارة المرتفعة الدائمة هي التي تطور أشكال هذه الفتنة وأبعادها، وبدونها لن يتم ذلك، وبها يغرق الشباب في شهواته لا يفيق منها إلى أمور أهم لا يراد له الالتفات إليها. 

ولقد أدت هذه الإثارة الدائمة إلى تطور آخر إجرامي بعرف العلمانية أيضًا يتمثل في زيادة معدلات الجرائم المتعلقة بالاغتصاب وهتك العرض، بالإضافة إلى تغير نوعيتها تغيرًا يعبر عن انتكاس الفطر؛ فهناك جرائم تتكرر بصورة دائمة: زنا المحارم انتشار شبكات الدعارة قيام مدرس ابتدائي بهتك عرض تلميذاته خطف فتيات صغيرات مع الاعتداء المستمر. 

البعد الثاني: مفهوم العورة: ومفهوم العورة الذي صاغه العلمانيون للمجتمع المسلم في هذا العصر مفهوم مطاط قابل للتشكل والتغير بتغير المكان والعمل والسن.

فهو ينحسر جدًا إذا كان في ناد رياضي أو على شاطئ البحر، ثم يتسع مرة أخرى نسبيًا إذا خرجت المرأة إلى الشارع والأماكن العامة، ثم ينحسر مرة أخرى إذا كانت تعمل فنانة أو إعلامية، ثم يتسع إذا كانت قد تجاوزت الأربعين أو أكثر، ثم ينحسر مرة أخرى إذا كانت شابة يافعة أو طالبة في الجامعة.. وهكذا.. فأي عورة هذه التي يحافظون عليها؟!

البعد الثالث: تطور أنماط العلاقة بين الرجل والمرأة: من نظرة، إلى ابتسامة، فموعد، فلقاء هذه هي المراحل العاطفية التي كان يزينها العلمانيون للشباب لدرجة أن هذه المراحل يمكن اختزالها وأكثر منها في ساعات قليلة، والذي يطّلع على أحوال الشباب خاصة في الجامعات على أقوالهم، وحركاتهم، وملابسهم، وعلاقاتهم يجد أن انحدارًا كبيرًا وبصورة مطردة يحدث في ثقافات الشباب المتعلقة بفتنة النساء.

ويمكن أن نحدد هنا ثلاث مراحل لهذه الثقافات: الأوليان تعبران عن ثقافة سابقة، ثم حالية، والثالثة عن ثقافة متوقعة لا قدرها الله لو استمر ذلك التطور:

المرحلة الأولى: ثقافة الحرمان: وتتمثل في كثرة تداول المثيرات ووسائل الإغراء، المعاكسات، علاقات غير كاملة.

ثم المرحلة الثانية: ثقافة الإشباع: ما سبق، بالإضافة إلى علاقات كاملة تنتشر بصورة متزايدة، (الزواج العرفي).

ثم تأتي المرحلة الثالثة والخطيرة وهي: ثقافة الاستمتاع، وتتمثل في كل ما سبق بالإضافة إلى: تطوير أنماط العلاقة مع عدم التقيد بإطار الزواج العرفي، تطوير أساليب الاستمتاع بالحرية السائدة، استسلام مجتمعي نسبي لظاهرة الزواج العرفي.. واعتبارها أرحم من عدمها.

البعد الرابع: اختلال قيمة الشرف والغيرة: عندما حاور النبي عليه الصلاة والسلام الشاب الذي طلب الإذن بالزنا، كان عليه الصلاة والسلام يعتمد على ثبات قيمة الشرف ووضوحه لدى الشاب؛ فسهُل إقناعه بترك الأمر.

ونحن نتساءل الآن: هل لا يزال للشرف والغيرة نفس الوضوح والثبات؟ ما يريده العلمانيون هو أن يتوافق مفهوم الشرف عندنا تمامًا مع المفهوم الغربي، وقد حققوا في ذلك نجاحًا لا بأس به، وانتهى بهم الأمر إلى انحسار مفهوم الشرف والغيرة لدى الكثيرين في مجانبة الزنا، وهم في طريق النجاح التام يصطدمون بعقبة أساسية وهي استمرار تمسك المجتمع بنظرته الدينية الموروثة إلى «عذرية الفتاة»، إلا أنهم لم يستسلموا، فتم نشر وسائل مبتكرة مؤقتة ودائمة لمنع الحمل، وتم الترويج لعمليات إعادة العذرية بدون أي قيد قانوني، بل استُدرج بعض العلماء للمشاركة بطريقة غير مباشرة في هذه الحملة، وذلك لإزالة الرهبة والحساسية لدى الناس من مناقشة هذه القضية، ولا يزال المكر مستمرًا، حتى تصبح مشكلة الفتاة الكبرى ليست في فقد عذريتها؛ بل في احتفاظها بها (16).

-----------

(1) أخرجه أبو داود (2051).

(2) أخرجه الترمذي (3177).

(3) في ظلال القرآن (4/ 2488).

(4) أخرجه ابن ماجه (1968).

(5) أخرجه البخاري (5090).

(6) فتح الباري لابن حجر (9/ 135).

(7) فيض القدير (3/ 271).

(8) أخرجه الترمذي (1084).

(9) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 2047).

(10) أخرجه البخاري (4005).

(11) زهرة التفاسير (2/ 739).

(12) تفسير المراغي (2/ 183).

(13) زهرة التفاسير (2/ 741).

(14) مجتمعنا وانحراف الفطرة/ طريق الإسلام.

(15) في ظلال القرآن (4/ 2511).

(16) الآثار الاجتماعية والأخلاقية للعلمانية في المجتمعات الإسلامية/ مجلة البيان (العدد: 160).