إلا ما ظهر منها
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي.
والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزنية المتبرجة، والجسم العاري؛ كلها لا تصنع شيئًا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون! وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة، فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد، وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب!!
ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين، والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة - شاع أن كل هذا تنفيس وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي، وما وراءه من اندفاع غير مأمون... إلخ.
عرفنا أن الإسلام أباح للمرأة ما يلبي فطرتها، ويناسب أنوثتها، من الرغبة في الظهور بالزينة والجمال، وأن الإسلام نظم زينة المرأة وهذبها، وبين ما هو مباح وما هو منهي عنه بيانًا شافيًا كافيًا.
ولم يقتصر الإسلام على ذلك؛ بل بيَّن أحكام الزينة، بالنهي عن إبدائها، والإرشاد إلى كيفية إخفائها بإخفاء مواضعها، وبين من يجوز للمرأة المسلمة أن تبدي لهم زينتها.
فالزينة حلال للمرأة، تلبية لفطرتها، فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة، وأن تبدو جميلة، والزينة تختلف من عصر إلى عصر؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله، وتجليته للرجال.
والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية؛ ولكنه ينظمها ويضبطها، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد هو شريك الحياة، يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه، ويشترك معه في الاطلاع على بعضها المحارم والمذكورون في الآية بعد، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع(1).
الزينة الظاهرة وحكمها:
قال بعض العلماء: الزينة زينتان؛ زينة باطنة، وزينة ظاهرة، زينة مجلوبة، وزينة خِلقية، المجلوبة والخلقية، الباطنة والظاهرة مما تعنيه كلمة الزينة.
لذا لم يقل الله عز وجل: ولا يبدون؛ بل قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}؛ أيْ باختيارها، بإمكانها أن تخفيه، وبإمكانها أن تظهره، شيء تابع لإرادتها، إذًا بإمكانها أن تستر جيدها، وصدرها، ومعصمها، وصفحة عنقها، وساقها، هذا بإمكانها ستره، فهي مأمورة ألا تبدي هذه الزينة.
ولم يقتصر الإسلام على ذلك؛ بل بين أحكام الزينة، بالنهي عن إبدائها، والإرشاد إلى كيفية إخفائها بإخفاء مواضعها، وبين من يجوز للمرأة المسلمة أن تبدي لهم زينتها، وهذا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن الآيات الجامعة في هذا الموضوع آية سورة النور، وهي قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
فالله سبحانه يعلم مدى تأثير النظرة المحرمة في القلب، وما تحدثه من تحويل النفس إلى بركان، وما تحركه من الاندفاع نحو المرأة، والواقع يصدق ذلك، فكم من نظرة محرمة أودت بصاحبها إلى الوقوع في المعصية، وفتنةِ الرجل بالمرأة، وفتنةِ المرأة بالرجل.
وقد قرن الله عز وجل الأمر بغض البصر بالأمر بحفظ الفرج؛ لأن غض البصر هو السبيل لحفظ الفرج {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}(2).
وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} إذ شأنهن شأن الرجال في كل ما أمر به الرجال من غض البصر وحفظ الفرج، وقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}؛ أي مُرْهُن بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إظهار الزينة, فقد دلت هذه الآية على أن زينة المرأة قسمان: زينة ظاهرة، وزينة باطنة.
فالزينة الباطنة لا يجوز إبداؤها للأجانب؛ كالخلخال والقلادة، والكحل والسوار، والخاتم ونحوها؛ لأن إبداءها يستلزم رؤية مواضعها من بدن المرأة، كما سيأتي إن شاء الله.
وأما الزينة الظاهرة التي يجوز إبداؤها للأجانب في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، فقد اختلف العلماء فيها على قولين:
الأول: أن الزينة الظاهرة شيء من بدن المرأة؛ كوجهها وكفيها، وهي الزينة الخلقية.
الثاني: أن الزينة الظاهرة ما تتزين به المرأة خارجًا عن بدنها، وهي الزينة المكتسبة.
المراد بالزينة الخارجة عن بدن المرأة:
الأول: أنها الزينة التي لا يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن؛ كالرداء الذي تلبسه المرأة فوق القميص والخمار، وكالثياب، وهذا قول ابن مسعود وأكثر الفقهاء.
الثاني: أنها الزينة التي يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن؛ كالكحل والخضاب والخاتم، فإن رؤية الكحل يستلزم رؤية البدن أو بعضه، ورؤية الخضاب والخاتم تستلزم رؤية محلَّهما من البدن، وقد روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، فقد خرج ابن جرير في تفسير الآية من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف والخاتم، فهذه تَظْهَرُ في بيتها لمن دخل من الناس عليها(3).
وهذا القول راجع إلى القول الأول في تفسير: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}؛ لأن هذه الأشياء متعلقة بالوجه والكفين.
فالزينة الظاهرة ما تتزين به المرأة خارجًا عن بدنها، ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها؛ كظاهر الثياب، فإنها زينة مكتسبة خارجة عن بدن المرأة، وهي ظاهرة بحكم الاضطرار، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه كما تقدم(4).
فقد خرج ابن جرير في تفسير الآية بسنده عن ابن مسعود قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: «الثياب»، وإسناده صحيح، فيكون معنى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إلا ما كان ظاهرًا لا يمكن إخفاؤه، أو ظهر بدون قصد بالرداء والثياب والله أعلم.
قال ابن كثير في تفسيره: «أي لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابن مسعود: «كالرداء والثياب»، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه؛ لأنَّ هذا لا يمكن إخفاؤه»(5).
وقال ابن عطية: «ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن، ونحو ذلك، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه»(6).
وقال شيخ الإسلام بن تيمية في تفسير سورة النور: «فما ظهر من الزينة هو الثياب الظاهرة، فهذا لا جناح عليها في إبدائه، إذا لم يكن هناك محذور آخر، فإن هذه لا بد من إبدائها، وهذا قول ابن مسعود وغيره، وهو المشهور عن أحمد»(7).
وأما من قال: إن المراد بقوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الوجه والكفان، وهو بعض بدن المرأة، واستدل بالآية على جواز كشفهما؛ فهذا قول لا ينبغي حمل الآية عليه لأمور:
أولًا: تضافر الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب ستر الوجه، وأنه لا يجوز للمرأة كشف وجهها ويديها عند الرجال الأجانب، وهذه الآية دلت على وجوب ذلك من وجه كما سيأتي إن شاء الله تعالى في موضوع الحجاب.
ثانيًا: أن الزينة غلب إطلاقها على ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها؛ كالحلي والثياب الجميلة، دل على ذلك القرآن ولغة العرب، وعليه فلا يراد بالزينة الظاهرة الوجه والكفان(8).
إن الله تعالى قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، ولم يقل: «إلا ما أظهرن منها»، وبين الجملتين فرق، فإن قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يفيد أنه ظهر بنفسه من غير قصد، وهذا بخلاف ما يتعمد الإنسان إظهاره، فإظهار الوجه والكفين عمدًا لا ينطبق عليه قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، إلا لو كانت الآية «إِلَّا مَا أظهَرنَ مِنْهَا».
فإن قيل: فما الجواب عما تقدم من تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للزينة الظاهرة، وأنها الوجه والكفان، وتفسير الصحابي حجة، فالجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنه يحتمل أن مراد ابن عباس أول الأمرين قبل نزول آية الحجاب:
يقول شيخ الإسلام بن تيمية، بعد قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}: «فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب، كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين».
وقال أيضًا: «وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين، بخلاف ما كان قبل النسخ؛ بل لا تبدي إلا الثياب»(9).
الوجه الثاني: يحتمل أن مراد ابن عباس تفسير الزينة التي نهي عن إبدائها في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}، وأن المراد بها الوجه والكفان، ولم يقصد تفسير المستثنى، وهو ما بعد (إلا) كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره(10).
ومما يؤيد هذين الاحتمالين ما ذكره ابن كثير في تفسير آية الأحزاب: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}، عن ابن عباس أنه قال: «أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينًا واحدة»(11).
القول الارجح:
إن تفسير الصحابي حجة بشرط ألا يعارضه صحابي آخر، كما في الأصول، فإن خالفه صحابي آخر أخذ بما يعضده الدليل، وقد علمنا أن تفسير ابن مسعود قد عارض تفسير ابن عباس، وتبين رجحان تفسير ابن مسعود، وأن المراد بالزينة الظاهرة الرداء والثياب التي جرت العادة بلبسها، إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها، فهذا أحوط الأقوال، وأبعد عن أسباب الفتنة وعوامل الإغراء، وأطهر لقلوب الرجال والنساء، وبالله التوفيق(12).
وأما من قال: إن المراد بقوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الزينة التي يتضمن إبداؤها رؤية شيء من بدن المرأة؛ كالكحل والسوار والقلادة، ففيه نظر؛ لأنه يؤدي إلى رؤية مواضع الزينة من البدن، وهذا مخالف للآية؛ لأن الآية ذكرت الزينة دون مواضعها، قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}.
وذلك لتأكيد الأمر بالتصون والتستر، والبعد عن كل أسباب الفتنة؛ فلا يمكن أن يكون المعنى: إلا ما ظهر من الزينة؛ كالكحل والقلادة والسوار؛ فإن الزينة المكتسبة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليه إلا لمن ذكرهم الله تعالى في هذه الآية، فالنهي عن إبداء الزينة نهي عن إبداء مواضع الزينة بالطريق الأولى، أضف إلى ذلك أن الله تعالى قال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، فأرشد الله تعالى إلى كيفية إخفاء بعض مواضع الزينة بعد النهي عن إبدائها، فعلى المرأة المسلمة أن تحتاط لنفسها، وتتقي الله تعالى بفعل المأمور، واجتناب المحظور(13).
قال الشيخ العلامة محمد بن أحمد بن جزي الكلبي رحمه الله: «{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} نهى عن إظهار الزينة بالجملة، ثم استثنى الظاهر منها، وهو ما لا بد من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك، فقيل: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني الثياب، فعلى هذا يجب ستر جميع جسدها، وقيل: الثياب والوجه والكفان، وهذا مذهب مالك؛ لأنه أباح كشف وجهها وكفيها في الصلاة، وزاد أبو حنيفة القدمين»(14).
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات».
وقال رحمه الله: «وقال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}؛ أي: لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، وقال ابن مسعود: كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب، من المِقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه، ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه، وقال بقول ابن مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم»(15).
الزينة الباطنة وحكمها:
اعلم أن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة في آية النور مرتين، فقال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
فالزينة الأولى نُهِيَ عن إبدائها مطلقًا إلا ما ظهر منها؛ كظاهر الثياب كما تقدم بيانه، وهذه هي الظاهرة التي تظهر لكل أحد ولا يمكن إخفاؤها إذ قد تظهر بدون قصد.
والزينة الثانية نهي عن إبدائها إلا لمن استثناهم الله تعالى، وهذه هي الزينة الباطنة التي يتضمن إبداؤها إظهار شيء من بدن المرأة؛ كموضع القلادة من العنق، وموضع الخلخال من القدم، والسوار من اليد، والقرط من الأذن، ونحو ذلك.
وكذلك ما تلقيه المرأة من ثيابها في بيتها غالبًا؛ كالخمار الذي يؤدي إلى ظهور شعرها، وكذلك ما يظهر من جسدها في شئون منـزلها؛ كالعجن والكنس، من الذراع والساق ونحوهما، كل ذلك من الزينة الباطنة(16).
والحاصل أن الزينة نوعان، نوع يمكن إخفاؤها، فالمرأة مأمورة بإخفاء هذا النوع من الزينة مهما كانت، ونوع لا يمكن إخفاؤها، أو يمكن ولكنها تنكشف من غير أن تتعمد المرأة كشفها، أو تعتري حاجةٌ تلجئ المرأة إلى إبدائهما، فهذا النوع هو المراد بقوله تعالى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} والمرأة لا تؤاخذ على ظهور هذا النوع من زينتها، ولما كان هذا النوع من الزينة يختلف باختلاف الظروف والحاجات والمصالح، ولا يمكن تحديدها بحد معين لا يقبل الزيادة والنقصان تركها الله ورسوله على إبهامها؛ تيسيرًا لهذه الأمة، واجتنابًا عن التضييق عليها.
ويضرب لذلك مثلًا بالثياب الظاهرة، أو ما انكشفت من أعضائها لأجل تيار الهواء من غير قصد منها، والنظر إلى المخطوبة قبل النكاح، أو كشف المرأة بعض أعضائها أمام الطبيب لدفع الحرج، أو كشفها للوجه والكفين أمام الشاهد، هذه وأمثالها من الصور التي تلتجئ المرأة فيها إلى كشف أعضائها التي أمرت بسترها إجماعًا، ولا عتاب عليها في تلك الصور، فإن كل ذلك مما ظهر من زينتها من غير أن تبديها بخيارها.
ومن هنا يظهر أن تحديد {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} في الوجه والكفين أو الخاتم والسوارين أو الكحل والخضاب وأمثالها لا يصح؛ بل الصحيح هو تركه على إبهامه وعمومه، وأنه شامل لجميع جسد المرأة حسب الحاجة والظروف، وأن الذين حددوه في مقدار معين قد وقعوا في التفريط، ولكنهم بجنب هذا التفريط وقعوا في الإفراط، فإنهم أباحوا لها أن تبدي هذا القدر مطلقًا، سواء دعت الحاجة إلى كشفها أم لا، مع أن الله لم يخيرهن في إبداء شيء من الزينة، وإنما عفا عنهن ما ظهر منها بنفسها(17).
وقد بين الله تعالى في آية سورة النور الذين يجوز للمرأة أن تبدي لهم هذه الزينة، فقال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
فهؤلاء ثلاثة:
- الزوج.
- المحارم، وهم سبعة.
- وغير المحارم، وهم أربعة.
فالأول: الزوج، فهو المراد بقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}.
والزوج مقدم على سائر ذوي المحارم؛ لأنَّ المرأة لها أن تتزين لزوجها، ولزوجها أن يرى جميع بدنها.
قال القرطبي في تفسيره: «فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة، وأكثر من الزينة، وكل محل من بدنها حلال له لذة ونظرًا؛ ولهذا المعنى بدأ بالبعولة؛ لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون:5-6]»(18).
والمقصود بزينتهن في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الزينة الخفية؛ وهي ما عدا الوجه والكفين؛ كشعر الرأس والذراعين والساقين.
فقد نهى الله تعالى النساء المؤمنات عن إبداء مواضع الزينة الخفية لكل أحد، إلا من استثناهم سبحانه بعد ذلك، وهم اثنا عشر نوعًا، بدأهم بالبعول وهم الأزواج؛ لأنهم هم المقصودون بالزينة، ولأن كل بدن الزوجة حلال لزوجها.
هذا أمر عام للنساء بألا يبدين شيئًا من الزينة إلا الذي يظهر في ذاته؛ لأن منع ظهوره فيه ضيق وحرج، وما جعل عليكم في الدين من حرج.
وقد استثنى سبحانه وتعالى المحارم الذين يخالطون المرأة من إبداء الزينة أمامهم؛ لأن هؤلاء محرمون عليها؛ ولأنها لو منعت الزينة عن رؤيتهم تكون هي في حرج، هي وزوجها.
وأول هؤلاء بعولتهن، فإن إبداء الزينة لهم من المستحسن من غير استهجان؛ فإن الرغبة في زوج تعفه، وتبعده عن الرذيلة.
الطائفة الثانية: آباؤهن، فإنها قطعة منه، وهو رحم محرم منها، وزينتها تسره ولا تضره، ولا تغريه.
الطائفة الثالثة: آباء بعولتهن؛ فإن أبا الزوج محرم لها، ولا يُغرى بامرأة ابنه إلا لئيم، ومن يخرج عن الفطرة السليمة.
الطائفة الرابعة: أبناؤهن؛ فإنهم قطعة منها، ولا يغرى بأمه إلا خبيث النفس.
الطائفة الخامسة: أبناء بعولتهن؛ فإنه ربيبها، كابنها.
الطائفة السادسة: إخوانهن، وبنو إخوانهن.
الطائفة السابعة: أخواتهن، وبنو أخواتهن.
الطائفة الثامنة: نساؤهن؛ أي نساء المؤمنات، فإنه يجوز إبداء الزينة أمامهن.
الطائفة التاسعة: أو ما ملكت أيمانهن، ما تشمل ما ملكت اليمين من العبيد والإماء، ولكن هنا المختص مما ملكت اليمين الذين تبدي المرأة لهم زينتها وهم الإماء؛ لأنه لَا يصح أن تُبدى زينتُهن أمام الرجال، وعلى ذلك أكثر فقهاء الأمصار، وروي غير ذلك عن بعض فقهاء الصحابة والتابعين، وعندي ألا يبدين زينتهن للعبيد، فإنهم رجال يشتهون، وليس عندهم من الكرامة ما يحملهم على التعفف، ولعل الدِّين ليس له تأثير قوي عند أكثرهم، ومن العبيد من يكون ذا جمال.
لهذا نرى أن قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} الظاهر تخصيصها بالنساء، أما العبيد الرجال فهم وبقية الرجال على سواء في المنع من ألا يبدين زينتهن لهم، صونًا للبيوت ولكرامة النساء، ولحرمات البيوت الطاهرات.
الطائفة العاشرة: ما ذكرها سبحانه وتعالى بقوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}.
{الإِرْبَةِ} معناها الحاجة إلى النكاح، وقد اشترط فيهم أن يكونوا تابعين، وألا يكونوا مشتهين للنساء، إما لأنه ثبت أنه عنين، أو شيخ فانٍ قد انتهى أمد شهوته، أو خصي أو مجبوب، وهو تابع في البيوت يؤاكل النساء ويخالطهن، وفي إبعاده حرج لهم ولهن.
الطائفة الحادية عشرة: هي ما ذكرها الله سبحانه بقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} الطفل اسم جنس؛ أي جمع أطفال؛ ولذا عاد الضمير جمعًا في قوله تعالى: {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}، أي لم يعلموا عورات النساء، يقال: ظهر عليه؛ أي: علمه واطلع عليه، يقال ظهرت على كذا؛ أي: علمته، أي يرون المرأة، فلا يفرقون بين العورة وغيرها، وهذا دليل على كمال الغفلة عن العلاقة بين الرجل والمرأة، فهؤلاء يستثنون من إبداء الزينة أمامهم، هذا هو الأمر بالنسبة لإبداء الزينة، ما منع منه، وما استثنى في أحوال(19).
وقد قال تعالى بعد ذلك عاطفًا على النهي، وذلك قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}؛ أي لَا تضرب برجلها ليعلم الناس ما تخفيه من خلخال أو زينة على الساق، وإن النهي عن هذا يتضمن النهي عن الضرب في ذاته بحركة غير محتشمة، تتلوى فيها المرأة تلويًا مغريًا، ثم إنه يبدي الزينة المغرية المشتهاة، وقد قال الغزالي: إن الصَّبَّ المتيم يثير شهوته سماع صوت الهون تدق به حبيبة.
وفى الجملة: إنه يجب التستر في كل شيء، فلا يبدو منها ما يثير النظر أو الشهوة، وإن النفوس قد تغفل عن بعض هذا الواجب، وهو غض البصر؛ ولذلك ختم الله تعالى الآيتين بقوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة مما عساه يكون قد غفلوا عنه من أمر الغض، الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب، ولتتطهر منه السرائر، كما تطهرت المظاهر، وقوله تعالى: {جَمِيعًا} ليعم الأمر بالتوبة الذكور والإناث، فقد يدخل البيوت من يُظَن فيه الخير وليس كذلك، وقد يكون تأثم من إدخاله إذا تبين فساد نفسه، {لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي تفوزون، والرجاء من العباد، لا من الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى.
وقد قال محمد الأمين الشنقيطي، بعد أن ذكر ما أُثر عن السلف في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: «وقد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والباطنة، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال كما ذكرنا:
الأول: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجًا عن أصل خلقتها، ولا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدنها؛ كقول ابن مسعود رضي الله عنه، ومن وافقه: إنها ظاهر الثياب؛ لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها، وهى ظاهرة بحكم الاضطرار كما ترى.
وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا، وأحوطها وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة.
القول الثاني: أن المراد بالزينة ما تتزين به، وليس من أصل خلقتها أيضًا، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة؛ وذلك كالخضاب والكحل ونحو ذلك؛ لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملامس له من البدن كما لا يخفى.
القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها، لقول من قال: إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان، وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم».
قال الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله رحمة واسعة: «وأما قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فقد جعلت البيانات المختلفة في كتب التفسير مفهوم هذه الآية مغلقًا إلى حد عظيم، وإلا فإن هذه الآية واضحة جدًا لا خفاء فيها ولا إبهام، فإذا قيل في الجملة الأولى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}؛ أي: لا يظهرن محاسن ملابسهن وحليهن ووجوههن وأيديهن وسائر أعضاء أجسادهن، استثنى من هذا الحكم العام بكلمة (إلا) في جملة {مَا ظَهَرَ مِنْهَا}؛ أي: ما كان ظاهرًا لا يمكن إخفاؤه، أو هو ظهر بدون قصد الإِظهار من هذه الزينة، وهذه الجملة تدل على أن النساء لا يجوز لهن أن يتعمدن إظهار هذه الزينة، غير أن ما ظهر منها بدون قصد منهن؛ كأن يخف الرداء لهبوب الريح وتنكشف بعض الزينة مثلًا، أو ما كان ظاهرًا بنفسه لا يمكن إخفاؤه؛ كالرداء الذي تجلل به النساء ملابسهن؛ لأنه لا يمكن إخفاؤه، وهو مما يستجلب النظر لكونه على بدن المرأة على كل حال، فلا مؤاخذة عليه من الله تعالى»(20).
قال الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي رحمه الله: «وزينة الوجه هي أكبر الزينة التي نهين عن إبدائها لأجنبي وكشفها، كما أمر الرجال أن يغضوا أبصارهم عنها وعن كل محرم، ولهذا ما أحد ينظر إلى شيء من المرأة قبل وجهها لما جعل الله عليه الناس من تفضيل زينته وحسنه على كل زينة فيها، والله لم يخاطب الناس إلا بما يعقلون بفطرتهم، وما جرت به عادتهم ودلت عليه لغتهم، وليس من المعقول ولا من حكمة الله ولا دينه، الذي أنزله رحمة وهداية وصيانة للأعراض والفضائل وسياجًا لها، أن يحرم الزنا ووسائله، ويعظم عقوبته، ثم يبيح للنساء أن يكشفن وجوههن بين الرجال الأجانب، ويسفرن بها، ويتبرجن في الطرقات، لا مرية أن هذا أكبر دواعي الزنا وأسبابه، وهتك الأعراض، والضرر بالرجال الذين جبلهم على الميل إلى زينة وجه المرأة وحسنه والمغالاة في المهر لأجله»(21).
وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: «إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقًا إلا ما ظهر منها، وهي التي لا بد أن تظهر؛ كظاهر الثياب، ولذلك قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، لم يقل: إلا ما أظهرن منها، ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم، فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى، فالزينة الأولى هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد، ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية هي الزينة الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة.
إن الله تعالى يرخص بإبداء الزينة الباطنة للتابعين غير أولى الإربة من الرجال، وهم الخدم الذين لا شهوة لهم، وللطفل الصغير الذي لم يبلغ الشهوة، ولم يطلع على عورات النساء، فدل هذا على أمرين:
أحدهما: أن إبداء الزينة الباطنة لا يحل لأحد من الأجانب إلا لهذين الصنفين.
الثاني: أن علة الحكم ومداره على خوف الفتنة بالمرأة والتعلق بها، ولا ريب أن الوجه مجمع الحسن وموضع الفتنة، فيكون ستره واجبًا لئلا يفتتن به أولو الإربة من الرجال»(22).
وقال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله تعالى: «قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية، إن دلالة هذه الآية على الحجاب قوية؛ إذ تضمنت الأمر بغض البصر وحفظ الفرج، فحفظ الفرج لا يتم إلا بغض البصر، وغض البصر لا يتم إلا بالحجاب التام، وتقدم لنا في هذا الباب أن غض البصر يتأتى لأحد الجنسين، وكلاهما مأمور به إذا لم يكن هناك اختلاط، أما مع الاختلاط فلا يتأتى، وليس في إمكان أي مؤمن أو مؤمنة أن يطيع ربه في هذا الأمر بحال.
ومن هنا كان مدلول كلمة الحجاب ليس هو أن تغطي المرأة محاسنها فحسب؛ بل مدلوله الحق هو أن يكون هناك حاجب وحاجز يحول دون اختلاط النساء بالرجال والرجال بالنساء، وعندئذ يمكن غض البصر وحفظ الفرج، ولما كان خروج المرأة ضروريًا لما يطرأ لها من أمور تستدعي خروجها، أُذن لها في الخروج ولكن غير مبدية لزينتها؛ بل ساترة لها إلا ما لا يمكن ستره؛ كعين تبصر بها، أو كف تتناول به أو ثياب عليها، وهذا معنى الاستثناء في الآية {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، وبه فسره غير واحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم»(23).
***
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2512).
(2) عودة الحجاب (3/ 46).
(3) تفسير الطبري (8/ 118(.
(4) أضواء البيان (6/ 197(.
(5) تفسير ابن كثير (6/ 47).
(6) تفسير القرطبي (12/ 292).
(7) تفسير سورة النور، لابن تيمية، ص97.
(8) أضواء البيان (6/ 198-199).
(9) مجموع الفتاوى (22/ 111).
(10) تفسير ابن كثير (6/ 47).
(11) المصدر السابق (6/ 471).
(12) رسالة الحجاب، ص29.
(13) الكشاف، للزمخشري (3/ 71).
(14) التسهيل لعلوم التنزيل (3/ 64).
(15) تفسير القرآن العظيم (6/ 46-47).
(16) تفسير آيات الأحكام (2/ 103).
(17) عودة الحجاب (3/ 301).
(18) تفسير القرطبي (12/ 231).
(19) زهرة التفاسير (10/ 5185).
(20) تفسير سورة النور، ص157-158.
(21) تيسير الوحيين (1/ 142-143).
(22) رسالة الحجاب، ص8-9.
(23) فصل الخطاب في المرأة والحجاب، ص50-51.