logo

ظاهرة العنوسة


بتاريخ : الاثنين ، 23 جمادى الأول ، 1446 الموافق 25 نوفمبر 2024
ظاهرة العنوسة

الأسباب والحلول

الزواج حلم يداعب خيال كل فتاة؛ لِتُتوَّج ملكة على عرشها، وتمارس غريزة إنسانية أودعها الله قلب المرأة، وهي غريزة الأمومة؛ تريد المرأة أن تكون الأم الرؤوم، والزوجة الودود، وسيدة البيت، وصاحبة العش، وسكن الزوج، وهي ركن ركين، وأساس متين في البناء الأسري.

ولكن- في زحمة الحياة، وتعدد مسؤوليَّاتها، بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجه الشباب في العالم اليوم- يكاد هذا الحلم أن يتوارى في أغلب المجتمعات، ويوشك أن يتحوَّل إلى سرابٍ، تحلم وتجري وراءه الفتاةُ العربية بعد فوات الأوان، وبخاصة بعد أن ارتفعت نسبة العنوسة بصورة مخيفة تهدد أمن واستقرار تلك المجتمعات؛ سواء على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، حيث أصبح الزواج مشكلة تعجز أمام حلها المعادلات الحسابية؛ لتشكل في النِّهاية ظاهرة- أو كابوسًا- بات شبحًا يهدد ملايين الفتيات في العالم العربي؛ من الخليج إلى المحيط.

ويعتبر تيسير الزواج فريضة شرعية وحاجة إنسانية، وتجب إزالة كافة المعوقات والمشكلات التي قد تقف في طريقه، حتى يقبل الشباب عليه عبادةً وطاعةً حفظًا لأعراضهم وصونًا لفروجهم واستجابة لوصية نبيهم، وكذلك لما يترتب على النكاح من المصالح العظيمة، كتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم لغيره من الأنبياء، وتحصين الرجل والمرأة من الوقوع في المحرم، وغير ذلك من المصالح العظيمة.

لكن هناك بعض الأولياء وضعوا العقبات أمام الزواج، وصاروا حائلًا دون حصوله في كثير من الحالات، وذلك بالمغالاة في المهر مما يعجز عنه الشاب الراغب في الزواج حتى صار من الأمور الشاقة جدًا لدى كثير من الراغبين في الزواج.

والمهر حق مفروض للمرأة، فرضته الشريعة الإسلامية، ليكون تعبيرًا عن رغبة الرجل فيها، قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، ومع ذلك فقد رَغَّب الشرع في تخفيف المهر، وحث على تيسير الزواج وعدم المغالاة في المهر، فقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير النكاح أيسره»، (1)، أي أقله مؤونة وأسهله إجابة للخطبة، بمعنى أن ذلك يكون مما أذن فيه، وعلامة الإذن التيسير، ويستدل بذلك على يمن المرأة وعدم شؤمها؛ لأن النكاح مندوب إليه جملة، ويجب في حالة، فينبغي الدخول فيه بيسر وخفة مؤونة، لأنه ألفة بين الزوجين فيقصد منه الخفة، فإذا تيسر عمت بركته، ومن يسره خفة صداقها وترك المغالاة فيه، وكذا جميع متعلقات النكاح من وليمة ونحوها (2).

وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الصداق أيسره» (3)، وعن سهل بن سعد، قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني وهبت من نفسي، فقامت طويلًا، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، قال: «هل عندك من شيء تصدقها؟» قال: ما عندي إلا إزاري، فقال: «إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئًا» فقال: ما أجد شيئًا، فقال: «التمس ولو خاتمًا من حديد» فلم يجد، فقال: «أمعك من القرآن شيء؟» قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، لسور سماها، فقال: «قد زوجناكها بما معك من القرآن» (4).

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته المثل الأعلى في ذلك، حتى ترسخ في المجتمع النظرة الصادقة لحقائق الأمور، وتشيع بين الناس روح السهولة واليسر.

عن ابن عباس، أن عليًا، قال: تزوجت فاطمة رضي الله عنها، فقلت: يا رسول الله، ابن بي، قال: «أعطها شيئًا» قلت: ما عندي من شيء، قال: «فأين درعك الحطمية؟» قلت: هي عندي، قال: «فأعطها إياه» (5).

قال عمر بن الخطاب: ألا لا تغلوا صدق النساء، فإنه لو كان مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله عز وجل؛ كان أولاكم به النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته، أكثر من ثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته، حتى يكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول: كلفت لكم علق القربة (6).

والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس، لذلك تكفل الله بعونهم، فعن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف» (7).

عن ابن عباس: رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] (8). 

وقد أصبحت كثرة المهور والمغالاة فيها عائقًا قويًا للكثير من المُقبلين على الزواج، ولا يخفى ما ينجم عن ذلك من المفاسد الكثيرة، وتفشي المنكرات بين الرجال والنساء، والشريعة المطهرة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ولو لم يكن في السعي في تقليل المهور إلا سد الذرائع المسببة لفعل المحرمات لكفى. 

وفى إحصائية لعدد من وصلوا إلى سن الخامسة والثلاثين دون زواج وجدت أنهم تعدوا ثلاثة عشر مليونًا من الأشخاص في الوطن العربي، وفى مصر وحدها وصل العدد إلى تسعة ملايين شخصًا، منهم ما يزيد على ثلاثة ملايين امرأة، وستة ملايين رجل. 

وأصبح لعدم تيسير الزواج عواقب خطيرة على المجتمع مثل انتشار الفاحشة وجريمة الزنا، وكثرة أولاد مجهولي الهويات، وانتشار الأمراض المهلكة، وكثرة القتل نتيجة الخوف من الفضيحة، وكثرة الانتحار. 

العوامل المؤدية للعنوسة:

- ضعف شبكة العلاقات الأسرية والاجتماعية: وهذا العامل يبدو فاعلًا في المدن الكبيرة حيث تسود حالة من العزلة والانكماش والانطوائية، وتقل أو تضعف العلاقات الأسرية والاجتماعية، وهذا يجعل مسألة التعارف صعبة، ويجعل الكثير من الفتيات يعشن في الظل ويصبحن منسيات خلف الأبواب المؤصدة، لا يعلم بهن أحد، ولا يسمع عنهن خاطب. 

نعم خلف الأبواب المؤصدة ثمة فتيات في سن الزواج تتوفر فيهن المواصفات المطلوبة من قبل العرسان إلا أن القدر لم يطرق أبوابهن مما يشعل فتيل الهواجس والخوف لدى أسرهن بأن قطار الزواج ربما يفوتهن ويصبحن في حكم العوانس.

وفي الوقت الذي نجد فيه ان هناك آباء يستخدمون «بوصلة» العقل للبحث عن أزواج مناسبين لبناتهم بعد أن يلمسوا في هؤلاء الأزواج سمات المسؤولية والالتزام وحسن المعشر؛ إلا أن العادات والتقاليد كثيرًا ما تقف حجر عثرة أمام فكرة البحث عن زوج مناسب.

- الولي: فعَضْلُه المرأة عن الزواج، ورد الخاطب الكفؤ من غير سبب، فيرد عن هذه الفتاة حتى يكبر بها السن ويفوتها قطار الزواج، فقد ذكر فقهاؤنا رحمهم الله أن العضل من الولي إذا كان الخاطب كفؤًا أن ذلك موجب لفسقه، أي أن الولي إذا منع تلك المرأة عن الزواج من مرضي الدين والخلق فإنه يكون فاسقًا، يقول ربنا جل وعلا: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232]، جاء في صحيح البخاري عن معقل بن يسار قال: زوجت أخت لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء ليخطبها، فقلت: زوجتك وفرشتك وأكرمتك؛ فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]، قال: فقلت الآن أفعل يا رسول الله؛ فزوجها إياه (9)، فإذا كان الله سبحانه قد نهى عن عضل امرأة قد طلقها زوجها وانقضت عدتها في أن ترجع إليه فكيف بعضل الفتاة التي لم تتزوج؟

وعضل النساء ورَدُّ الأكفاء فيه جناية على النفس، وعلى الفتاة، وعلى الخاطب، وعلى المجتمع برمّته، والمعيار كفاءة الدين، وكرم العنصر، وطيب الأرومة، وزكاء المعدن، وسلامة المحضن، وحسن المنبت، وصدق التوجه، «فاظفر بذات الدين تربت يداك» (10). 

- انعدام الثقة: بمعنى أنه حين ابتعد الناس عن بعضهم وازدادت غربتهم خاصة في المدن الكبيرة والمزدحمة، وشيوع العلاقات العاطفية والجنسية خارج إطار الزواج؛ أدى إلى انعدام الثقة لدى كثير من الشباب والفتيات في الحصول على شريك حياة مناسب، خاصة لدى هؤلاء الذين تورطوا في مثل تلك العلاقات، وأصبح لديهم قناعة بأنه لا توجد فتاة عفيفة ولا يوجد فتى مستقيم.

وقد تنعدم الثقة بسبب التجارب الفاشلة لزواج بعض المقربين من الفتى أو من الفتى، فيتولد عند أحدهم هاجس الخوف من الوقوع في مشكلة يصعب عليه أو عليها مواجهتها أو الخروج منها، فيظن كل طرف أن التجارب الفاشلة هي النموذج الطبيعي الموجود في الحياة الزوجية، فما عاد يثق في أحد مهما كان مقنعًا له، أو مقتنعًا به.

- البطالة لدى الشباب: مما يضعف من صلاحية الكثيرين للزواج من الناحية المادية والنفسية والاجتماعية، فالبطالة تجعل القدرة المادية منعدمة وتؤدي أيضًا إلى تدهور واضح في التركيبة النفسية والكفاءة الاجتماعية.

- الحالة الاقتصادية: وما يعتريها من تدهور يؤدي إلى عزوف الكثيرين من الشباب عن الزواج خوفًا من المسئوليات والمتطلبات التي تفوق قدراتهم الواقعية، من مهر وسكن وتجهيز للعرس، وغير ذلك من أمور أصبحت من الأحلام، في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار يومًا بعد يوم.

- المغالاة في المهور وطقوس وترتيبات الزواج بما يفوق قدرة غالبية الشباب: فلم ينتشر الانحلال والدعارة والعلاقات المشبوهة والسفر إلى بيئات موبوءة ومستنقعات محمومة إلا بسبب تعقيد أمور الزواج، لا سيما مع غلبة ما يخدش الفضيلة، ويقضي على العفة والحياء، مما يُرى ويُقرأ ويُسمع، مع ألوان الفساد الذي قذفت به المدنية الحديثة، وحَدِّث ولا كرامة عما تبثه القنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية التي تفجِّر براكين الجنس، وتزلزل ثوابت الغريزة، وتوَجَّه ضدَّ قيم الأمة وأخلاقها، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إن تضييق فرص الزواج علّة خراب الديار، به تُقضّ المضاجع، وبه تكون الديار بلاقع، وبه يقتل العفاف، وتوأد الفضائل، وتسود الرذائل، وتهتك الحرمات، وتنتشر الخبائث والسوءات.

- إتاحة العلاقات العاطفية والجنسية خارج إطار الزواج: وذلك مما يجعل نسبة غير قليلة من الشباب يستسهل الحصول على الإشباع العاطفي وربما الجنسي دون مسئوليات أو أعباء، وهذا هو العامل الأهم في المجتمعات الغربية، ولكنه بدأ يزحف على مجتمعاتنا العربية نظرًا للتغيرات الاجتماعية والثقافية التي سهلت وتساهلت مع العلاقات بين الجنسين بدون ضوابط كافية.

- اهتزاز صفات الرجولة والأنوثة: فقد تميعت صفات الرجولة لدى الذكور مما جعل كثيرًا من الفتيات ينظرن حولهن فلا يجدن رجلًا بمعنى الكلمة يوفر لهن الحب والرعاية والاحتواء فيفضلن العيش وحدهن بعيدًا عن التورط مع زوج يعيش عالة عليها أو يطمع في مالها أو يقهرها، كما اكتسبت الكثير من الفتيات بعض صفات الخشونة و”الاسترجال” مما جعل الشباب من الذكور ينظرون إليهن بتوجس وحذر ويخشى أن تستقوي عليه أو تنازعه القيادة في الحياة الأسرية، فلم تعد الأنوثة مرادفة للرقة والحنان في كل الفتيات خاصة من تجاوزن سن الزواج.

- عوامل شخصية: حيث توجد بعض الشخصيات التي تفضل حياة العنوسة بوعي أو بغير وعي على الرغم مما تتمتع به من الجمال والجاذبية، وعلى الرغم من توافر فرص الزواج أكثر من مرة، فالفتاة في هذه الحالة ترفض لأسباب ظاهرية كل من يتقدمون لخطبتها وتدّعي أنه لم يأت النصيب بعد أو لم يأت العريس المناسب، وفي الحقيقة هي لديها أسبابها النفسية التي ربما تعلمها أو لا تعلمها، وهذه الأسباب تكون هي الدافع الرئيس لرفض الزواج أو تأجيله، وهذه الشخصيات إذا تم زواجها بضغط من الأسرة أو من المجتمع فإنها سرعان ما تسعى نحو الانفصال والعودة إلى حياة الوحدة مرة أخرى متعللة بأي مشكلات ظاهرية. 

- التعلق بآمال وأحلام، وخيالات وأوهام، وطموحات ومثاليات، هي في الحقيقة من الشيطان، فبعضهم يتعلق بحجة إكمال الدراسة، زاعمين أن الزواج يحول بينهم وبين ما يرومون من مواصلة التحصيل، فمتى كان الزواج عائقًا عن التحصيل العلمي؟! بل لقد ثبت بالتجربة والواقع أن الزواج الموفق يعين على تفرغ الذهن، وصفاء النفس، وراحة الفكر، وأنس الضمير والخاطر، ونقولها بصراحة: ماذا تنفع المرأةَ بالذات شهاداتها العليا إذا بقيت عانسًا قد فاتها ركب الزواج، وأصبحت أيِّمًا لم تسعد في حياتها بزوج وأولاد، يكونون لها زينة في الحياة، وذخرًا لها بعد الوفاة، وكم من امرأة فاتها قطار الزواج، وذهبت نضارتها، وذبلت زهرتها، وتمنت بعد ذلك تمزيق شهاداتها، لتسمع كلمة الأمومة على لسان وليدها، ولكن بعد فوات الأوان، وكم هي الصيحات والزفرات الحرَّاء التي أطلقت من المجربات، فأين المتعقلات؟!

إن هذه المشكلة ومثيلاتها مردّها إلى غبش في التصور، وخلل في التفكير؛ بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها إفراز ضعف المعتقد، وقلة الديانة، والخلل في الموازين، وسوء الفهم لأحكام ومقاصد الشريعة الغراء، إنه النظر المشوش حول المستقبل، والتخوف الذي لا مبرر له، والاعتماد على المناصب والماديات، والتعلق بالوظائف والشهادات، وتأمين فرص العمل زعموا؛ ما يزعزع الثقة بالله، والرضا بقضائه وقدره، ويضعف النظر المتبصِّر، والفكر المتعقل.

وإذا ما رجعنا إلى ديننا الحنيف، وشريعتنا السمحاء وتجنبنا العادات والتقاليد والأعراف الشائعة التي ليس لها دليل من الكتاب والسنة لوجدنا كيف تصرف الشرع الحكيم بقضية المغالاة في المهور، دعا الإسلام إلى اليُسر ورفع الحرج والمشقة في كل شيء، فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج: 78]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسرا وبشروا ولا تنفروا» (11)، وإن مهر الزواج يجب أن ينال قدرًا جيدًا من هذا الأمر العام، خصوصًا إذا راعينا المفاسد المذكورة المترتبة على ارتفاع المهور، ويلزم عباد الله أن يكونوا من الميسرين ولا يكونوا من المعسرين. 

لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32].

والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين.. والمقصود هنا الأحرار، وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ}، وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك: {إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ}.

وهذا أمر للجماعة بتزويجهم، والجمهور على أن الأمر هنا للندب، ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزوجوا، ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم، ونحن نرى أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج؛ ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة، وهو واجب، ووسيلة الواجب واجبة.

وينبغي أن نضع في حسابنا- مع هذا- أن الإسلام- بوصفه نظامًا متكاملًا- يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجًا أساسيًا فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال، ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات.. فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله، وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقًا على الدولة واجبًا للأفراد.

أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام، فإذا وجد في المجتمع الإسلامي- بعد ذلك- أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج، فعلى الجماعة أن تزوجهم، وكذلك العبيد والإماء، غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين.

ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقًا عن التزويج- متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالًا ونساء- فالرزق بيد الله، وقد تكفل الله بإغنائهم، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف (12).

ومن هنا يجب على رجال الأعمال كذلك، ودعاة البر والعمل الاجتماعي، وأهل الصلاح والخير من الموسرين تقديم العون المالي والمعنوي للشباب المقدم على الزواج كلٌ حسب قدراته، فهذا من الواجبات الدينية، فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، ولقد حث الرسول على ذلك فقال: «مَثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (13)، فاستبقوا أيها الأغنياء الصالحون في عمل الخيرات ومدوا يد العون للشباب من زكاة أموالكم وصدقاتكم . 

أما طرق حلول هذه المشكلة فهي كالتالي:

1- ينبغي على أهل الفتاة البحث عن الرجل المناسب الذي يستطيع أن يسعد ابنتهم، وعدم النظر إلى غلاء المهر، وإنما البحث عن رجل ذي دين وأخلاق طيبة، يحفظ على ابنتهم دينها ويصونها ويسعدها.

2- على الفتاة ألا تعتذر عن الزواج بحجة مواصلة التعليم، فيضيع عمرها وتصل إلى مرحلة العنوسة، فلا تجد من يتزوجها، ولكن يمكن أن تتفق مع الزوج على مواصلة التعليم وهي متزوجة، وذلك ميسر والحمد لله.

3- ألا تنظر الفتاة إلى الرجل الذي تقدم لخطبتها وهو متزوج بأخرى أنه غير مناسب لها أو غير قادر على إسعادها، فكثير من الفتيات لا يقبلن بالرجل المتزوج، ثم يضيع العمر ولا يأتي من يتزوجها، فالدين الإسلامي الحنيف أجاز للرجل المسلم الزواج من أربعة بشرط أن يعدل بين زوجاته.

4- نشر ثقافة الزواج وأهميته لتوفير الكثير من الاحتياجات الفطرية للنفس السوية بشكل سوي يتوافق مع القيم الدينية والأخلاقية والأعراف السليمة، فالزواج (على الرغم من انتقاد البعض له أو الشكوى من مشاكله) هو أفضل مؤسسة اجتماعية عرفها البشر حتى الآن، ويؤدي وظيفة بنائية ضرورية لاستمرار الجنس البشري وارتقائه خاصة في حالة قيامه على أسس سليمة.

5- الاهتمام بدعم شبكة العلاقات الأسرية والاجتماعية التي تيسر التعارف والتزاوج وتعزز الثقة المشجعة على الاقتران.

6- تبسيط وتسهيل إجراءات الزواج ونفقاته بما يتناسب مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحالية.

7- إتاحة فرص العمل للشباب العاطل، فالشاب العاطل غير المتزوج يعيش حالة من عدم الاستقرار (يقابله فتاة عانس غير مستقرة غالبًا) وهذا يؤدي إلى شيوع حالة من عدم الاستقرار في المجتمع ككل ينتج عنها الكثير من مظاهر التطرف أو الانحراف.

8- إنشاء جمعيات أهلية تهتم بتسهيل التعارف وتسهيل إجراءات الزواج لمن يريدون.

9- إنشاء صندوق للزواج، وهذا الصندوق يساهم فيه رجال الأعمال والراغبون في فعل الخير وحماية السلام الاجتماعي، وهو مخصص لمنح سلف معقولة لراغبي الزواج تقسط على سنوات طويلة وبشكل يتحمله الشاب والفتاة. 

10- قبول تعدد الزوجات بشروطه الشرعية كجزء من الحل؛ خاصة إذا عرفنا أن الشباب غير المتزوج غالبًا ما يعزف عن الاقتران بعانس خاصة حين يكبر سنها، وبالتالي لا تكون أمامها غير فرصة الزواج بمتزوج، وقد قامت في القاهرة جمعية تدعو لهذا الأمر حين أيقنت الحاجة الماسة لتغيير اتجاهات المجتمع نحو موضوع التعدد لحل بعض المشكلات الشخصية والاجتماعية في ظروف معينة وبشروط محددة لا تخل بحقوق أي طرف، وقد يزعج هذا الأمر الكثير من النساء المتزوجات، وقد تقف ضده الكثير من الجمعيات النسائية، ولكن من ينظر إلى مصالح سائر أفراد المجتمع بنظرة واسعة فإنه يرى أن بعض الحلول ربما تبدو في نظر بعض الناس صعبة، ولكن مردودها الأوسع أكثر إفادة للمجتمع بسائر أفراده.

11- تقديم الرعاية النفسية والاجتماعية للعانس خاصة إذا تعرضت لمشكلات مادية أو نفسية أو اجتماعية، مع مراعاة مشاعرها وعدم تجريحها بالتصريح أو التلميح.

12- وعلى العانس التي لم توفق في اختيار الشريك المناسب أو اختارت حياة الوحدة أن تجد معنى لحياتها، وأن توجه طاقاتها في نواح إيجابية ومثمرة ومشبعة تعطيها تعويضًا عن الزوج والأطفال والجو الأسري، وعلى المجتمع أن يساعدها في ذلك وأن يحترم ظروفها وخياراتها (14).

---------

(1) أخرجه أبو داود (2117).

(2) فيض القدير (3/ 482).

(3) أخرجه الحاكم (2742).

(4) أخرجه البخاري (5135).

(5) أخرجه النسائي (3375).

(6) أخرجه النسائي (3349).

(7) أخرجه الترمذي (1655).

(8) تفسير ابن كثير (6/ 51).

(9) أخرجه البخاري (5130).

(10) أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466).

(11) أخرجه البخاري (69).

(12) في ظلال القرآن (4/ 2515).

(13) أخرجه مسلم (2586).

(14) ظاهرة العنوسة أسباب وحلول/ إسلام أون لاين.