العقيدة أولًا
أهمية العقيدة:
لقد أخذ القرآن يقرر العقيدة خلال (13) عامًا دون الخوض في تشريعات تفصيلية؛ لأن العقيدة تمثل الجذور لشجرة هذا الدين، وما لم تكن الجذور ضاربة في أعماق الأرض؛ فإنها لن تحمل فروع هذه الشجرة الضخمة الباسقة؛ فالعمل الصالح لا بد له من إيمان متمكن في جوانب النفس وأغوارها، وكذلك فالعقيدة تمثل الأساس للبناء، والبناء الضخم لا بد له من أساس مكين وقاعدة صلبة، حتى تستقر فوقها البناء.
والعقيدة الإسلامية ضرورة للمسلم؛ وذلك لرفع مستواه، والمحافظة عليه من الانحراف المادي والخلقي؛ وعلى ذلك، فإن احتياج المؤمن للعقيدة نزعة فطرية وأصيلة، ركبت فيه وفطر عليها، ومن هذا المنطلق يصف القرآن الكريم الدين بأنه الحياة، وبأنه النور الذي يضيء للسالك الطرق إلى الله تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]؛ فالعقيدة تقوم من المؤمن مقام الروح من الجسد، ولسعادة المؤمن لا بد له من العقيدة الصحيحة، التي تنير الطريق، وتحدد أسلوب معاملة الفرد للجماعة، والجماعة للفرد.
وتعتبر عقيدة التوحيد الصافية الغالية من أهم مقومات الفرد المسلم؛ فهي عقيدة ثائرة معجزة متدفقة بالقوة والحياة، مدمرة للآلهة الباطلة، والعقيدة هي الركن الأساسي في تكوين شخصية المسلم؛ لأنها هي الجذر في بناء شخصيته، وهي العنصر الأساسي المحرك لعواطفه، والموجه لإرادته، ومن صحت العقيدة لديه؛ كان أطوع للاستقامة على طريق الحق والخير والرشاد، وأقدر على التحكم بأنواع سلوكه وضبطه فيما يدفع الضر والألم والمفسدة، العاجل من كل ذلك والآجل، وفيما يجلب له النفع واللذة، والمصلحة العاجلة والآجلة من كل ذلك، وهذا ما يطلبه منا الإسلام الدين الحنيف.
وقد أدرك، حديثًا، الباحثون من غير المسلمين؛ قيمة العقائد في توجيه سلوك الإنسان، فبدأوا يتحدثون عنها تحت عنوان "أيديولوجيات"، ولكنهم لم يستطيعوا أن يصلوا إلى المستوى الذي وصل إليه الإسلام؛ إذ هو يبني في الفرد المسلم إيمانًا لا يضارعه ولا يشابهه أي عنصر، يحاولون غرسه في نفس الفرد من أفرادهم.
الإنسان هو المخاطب بقضية العقيدة، وهي تفسر له دوره في هذا الكون:
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
إن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر، فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر، والله لا يكلفهم بهذا، وهو يكلفهم ألوانًا أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم؛ ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني، أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى؛ أوسع وأشمل من مجرد الشعائر، وأن حقيقة العبادة تتمثل إذًا في: التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وبكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة؛ التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:163].
إن إدراك حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية (التي تشتمل على حقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان) والارتباط بين كل هذه الأمور ضروري؛ لأن هذا الإدراك يمنح تفسيرًا شاملًا للوجود، فيعرِّف بمركز الإنسان في هذا الوجود الكوني، وغاية وجوده الإنساني؛ ومن هذه المعرفة يتبين دور "الإنسان" في "الكون"، وحدود اختصاصاته كذلك، وحدود علاقته بخالقه وخالق هذا الكون جميعًا.
وبناء على ذلك التفسير الشامل، وعلى معرفة حقيقة مركز الإنسان في الوجود الكوني وغاية وجوده الإنساني، يتحدد منهج حياته، ونوع النظام الذي يحقق هذا المنهج، فنوع النظام الذي يحكم الحياة الإنسانية؛ رهين بذلك التفسير الشامل، ولابد من أن ينبثق منه انبثاقًا "ذاتيا".
الألوهية والعبودية والعلاقة بينهما هي قاعدة العقيدة:
إن معنى "لا إله إلا الله" متوقفٌ على معنى كلمة "الإله"، وقد أخطأ أقوام في معناها فضلوا وأضلوا، فقالوا: "الإله" هو الخالق، أو القادر على الاختراع، فجعلوا من يقر بأن الله هو الخالق مسلمًا موحدًا، وإن أشرك مع الله في عبادته، فلم يختلف توحيدهم عن إيمان أبي جهل ومشركي قريش؛ حيث كانوا يقرون بذلك المعنى، فقد كانوا إذا سئلوا من خلقهم يقولون: الله، وذكر ذلك عنهم في كتابه سبحانه فقال: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف:87]، وقال: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} [العنكبوت:61].
أما المعنى الصحيح لكلمة "الإله" فهو: "المعبود"، و"التأله" معناه "التعبد"؛ فيكون معنى "لا إله إلا الله"؛ أي لا معبود إلا الله، ولما علم بالضرورة وجود معبودات غير الله سبحانه وتعالى؛ لزم تقدير خبر لا النافية للجنس، بلفظ يستقيم معه المعنى؛ وهو قولنا: "بحق"؛ فيكون المعنى الصحيح هو: "لا معبود بحق إلا الله"، شهادة من المسلم على التوحيد، وإفراده سبحانه بالعبادة.
"لا إله إلا الله" تستلزم الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله:
فكل نبي أرسله الله تعالى لقومه كان يقول لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]؛ فهي دعوة الرسل جميعًا؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]؛ وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، وحقيقة الكفر بالطاغوت لا تتجلى إلا بمعرفة حقيقة هذين: الطاغوت، والعبادة.
وخير تعريف لـ "الطاغوت" ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله: "الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع؛ فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدون من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله" [إعلام الموقعين:52].
من هذا يتبين أن الطاغوت لفظ عام؛ يشمل كل ما يضاد "لا إله إلا الله"؛ سواء أكان صنمًا، أم شعارًا، أم قانونًا، أم نظامًا، أم شخصًا، أم رايةً، أم حزبًا، أم تقليدًا، أم فكرةً... إلخ.
أما "العبادة" فتكون بالتوجه والقصد بالشعائر التعبدية؛ من دعاء، أو طواف، أو صلاة، أو نذر، أو ذبح، أو غير ذلك، كما تكون بالطاعة.
قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:61]؛ فطاعة الشيطان عبادة.
وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
ولذا، لما قدمَ عديُّ بنُ حاتمٍ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكان وقتها ما زال نصرانيًا، فسمعه يقرأُ هذه الآيةَ؛ قال: إنَّا لسنا نعبدُهم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أليسَ يحرمونَ ما أحلَّ اللهُ فتحرِّمونَه، ويحلُّونَ ما حرَّمَ اللهُ فتحلُّونَه؟، قال: قلتُ: بلى، قال: فتلك عبادتُهم" [أخرجه الترمذي، والطبراني في المعجم الكبير واللفظ له، وانظر: السلسلة الصحيحة (3293)]؛ ومنه يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى طاعتهم في التحليل والتحريم "عبادة".
وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، ومنه يتبين أن طاعتهم في تحليل ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح (وهو تشريع من دون الله) "شرك" أي في العبادة؛ قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى: 21].
أهل الجاهلية الأولى كانوا يدركون معنى "لا إله إلا الله" جيدًا، وأنه نزع سلطان الكهنة وساداتهم:
لقد أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، أهل الجاهلية الأولى؛ يدعوهم إلى كلمة التوحيد؛ وهي "لا إله إلا الله"، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، ولو كان المراد مجرد اللفظ؛ لما تأخر المشركون عن الإذعان والإتيان به؛ لأنه حينئذ لا يناقض ما هم عليه من الشرك، لكنهم يعرفون المعنى، ويعرفون أن المراد والمطلوب هو المعنى لا مجرد اللفظ؛ وأنه ترك معبوداتهم الباطلة؛ بل ونزع سلطان الكهنة والسادة، وإبطال لكلِّ تعلُّق بغير الله.
وهذا ما فهمه الصحابي الجليل ربعي بن عامر، حينما دخل على رستم قائد الفرس، فسأله رستم: "ما جاء بكم"؛ فقال له: "الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام" [أخرجه الطبري في تاريخه (3/520)].
سلك الرسول صلى الله عليه وسلم طريق مجابهة قومه بـ "لا إله إلا الله" في البداية:
فقد قال عتبة بن ربيعة للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا؛ جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا؛ سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك؛ طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه" [السيرة النبوية لابن كثير (1/502)، والحديث سنده حسن].
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يستبدل طاغوتًا بطاغوت؛ فكان يمكنه أن يقبل الملك والسيادة على قومه، ويثيرها قومية عربية؛ لكنه لا يريد إزاحة طواغيت أعجمية، بطاغوت عربي، ولا يريد أن تسير الأمور كلها بالسيف والعصى؛ لأنه قبل تقرير العقيدة، والسلطة التي تستند إليها؛ تظل القيم متأرجحة، بلا ضابط وبلا سلطان.
أولوية تقرير العقيدة؛ والعمل بما تقتضيه:
فالقرآنُ ظلَّ يتنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عامًا كاملةً، يحدِّثه فيها عن قضية واحدة لا تتغيَّر، ولكنَّ طريقة عرضها لا تكاد تتكرَّر؛ ذلك أن الأسلوب القرآني يجعلها في كلِّ عرض جديدةً؛ ألا وهي قضية العقيدة.
كان القرآنُ المكيُّ في غالبه يَنْصَبُّ على البناء العقدي، حتى إذا ما تمكَّنَت العقيدةُ في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم؛ نزلَتِ التشريعاتُ الأخرى بعد الهجرة إلى المدينة.
ولم يتم الخوض في التفصيلات التشريعية ابتداء؛ لأنه متى استقرت العقيدة، وتم الاستسلام لها؛ كان من السهل على النفوس تلقي تلك التشريعات، بالرضى والقبول والتنفيذ الفوري.
ولأن هذا الدين أيضًا واقعي وجاد؛ فكان لا بد من وجود مجتمع يؤمن به، له دولة ذات سلطان، تقوم على تنفيذ تلك التشريعات.
إن العقيدة الإسلامية ليست لاهوتًا نظريًا، أو جدلًا كلاميا، للدراسة؛ وإنما هي حركة لمن يحملها، وترجمة عملية أولًا بأول، لما يستقر في وجدانه؛ قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء:106].
لقد كان من اعتراضات قريش ومقترحاتهم أن قالوا: هلا أنزل القرآن على محمد جملةً واحدة شأن الكتب قبله! جاهلين أو متجاهلين أن تنجيمه وتفريقه خلال نيف وعشرين عامًا أثبت للقلب، وأرسخ للعلم، وأدعى للوعي والحفظ، وأيسر للتنفيذ والعمل، وأدوم للحجة والإعجاز، وأشيع للحكم والأحكام، وأشع للهدى والنور العام.
فالقرآن بهذه الطريقة العملية في تنزيله يتفاعل مع الأحداث ويربي أتباعه من خلالها، بأسلوب متدرج، ويرد على ما يثيره الكفار من شبهات أولًا بأول.
ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم ذلك، وأن القرآن نزل للعمل والتنفيذ، وليس للدراسة النظرية الباردة، وأن القرآن الكريم يغير منهج التفكير، وليس العقيدة فحسب.
فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، "أنهم كانوا يقترئون من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى؛ حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم، والعمل" [أخرجه أحمد (23482)].
وعن ابن مسعود، قال: "كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، والعملَ بهنَّ" [أخرجه الطبري في تفسيره (1/80)].
***