logo

شجاعة الدعية


بتاريخ : الخميس ، 8 رمضان ، 1436 الموافق 25 يونيو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
شجاعة الدعية

الدعوة إلى الله ونقل الخير للآخرين يحتاج إلى شجاعة وطموح، ولا يبلغ المجد إلا كل جسور.

 

الشجاعة خلق كريم، ووصف نبيل، يحمل النفس على التحلِّي بالفضائل، ويحرسها من الاتصاف بالرذائل، وهي ينبوع الأخلاق الكريمة، والخصال الحميدة، وهي من أعزِّ أخلاق الإسلام، وأفخر أخلاق العرب، وهي الإقدام على المكاره، وثبات الجأش على المخاوف، والاستهانة بالموت.

 

والشجاعة صفة رائدة، تعني يقظة النفس، وقوة همتها، وبُعد النظر، وصفاء النفس، وهي أصل لكل فضيلة من النَّجدة والمروءة والنخوة.

 

والشجاعة غريزة يضعها الله فيمن شاء من عباده، قال عمر بن الخطاب: «إنَّ الشجاعة والجُبن غرائز في الرجال».

 

وما الجبن والكسل والخوف والتردد إلا صفات نقص وذم في أي مخلوق، فكيف بالداعية، ولقد كان من أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الجبن»(1).

 

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «إن الجميع يتمادحون بالشجاعة والكرم، حتى إن ذلك عامة ما تمدح به الشعراء ممدوحيهم في شعرهم، وكذلك يتنافون بالجبن والبخل، ولمّا كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم، بَيَّن الله سبحانه أنه من تولى عنه بترك الجهاد بنفسه أبدل الله من يقوم بذلك، فقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة:38-39]»، وكذلك من تولى عنه بترك الإنفاق توعده؛ كما في آخر سورة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

ثمّ قال رحمه الله تعالى: «وبالشّجاعة والكرم في سبيل الله فضّل الله السّابقين، فقال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى} [الحديد:10].

 

وقد ذكر الله عز وجل الجهاد بالنفس والمال في سبيله، ومدحه في غير آية من كتابه، وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته سبحانه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم»(2).

 

وقد أمر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالشجاعة والثبات عند اللقاء، ونهاهم عن الجبن، وحذرهم من تولية الأدبار، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15-16]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، ومدح الله سبحانه وتعالى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شجاعتهم وجرأتهم، وإقدامهم على لقاء عدوهم، فقال سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174].

 

ولم تكن هذه الشجاعة قاصرة على فرد وفردين من أنبياء الله ورسله، ولكنها كانت خُلُق جميع الأنبياء والمرسلين؛ كما قال الله تبارك وتعالى عنهم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} [الأحزاب:39]، يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: «يمدح الله تبارك وتعالى الذين يبلغون رسالات الله؛ أي: إلى خلقه، ويؤدّونها بأمانتها، ويخشونه؛ أي: يخافون الله عز وجل وحده، ولا يخافون أحدًا سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله تعالى، {وَكَفَىَ بِاللهِ حَسِيبًا}؛ أي: وكفى بالله ناصرًا ومعينًا»، ثم يقول ابن كثير رحمه الله: «وسيد الناس في هذا المقام؛ بل وفي كل مقام، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، إلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع، فإنه قد كان النبي قبله إنما يُبعث إلى قومه خاصة، وأما هو صلى الله عليه وسلم فإنه بُعث إلى جميع الخلق، عربيهم وعجمهم، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم، بلغوا عنه كما أمرهم به»(3).

 

يحتاج الداعية إلى الشجاعة خاصة في موطنين:

 

الأول: الدفاع عن الدعوة ضد أعدائها في ميادين الجهاد، وساحات الوغى، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «كنا إذا احمر البأس، ولقي القومُ القومَ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه»(4)،وكم للإسلام في هذا الباب من فارس همام، وبطل مقدام، يعجز القلم عن وصفهم، والحساب عن عدهم.

 

الثاني: الصدع بالحق والجهر به دون خوف أو رهبة، وهنا لا بد للداعية أن يتمثل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يمنعن أحدًا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»(5)، وقوله: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(6).

 

فالشجاعة في النطق بالحق والجهر به سيادة وريادة، وجهاد وشهادة، وإنما تنبعث هذه الشجاعة من اجتماع خلقين عظيمين:

 

أولهما: إيثار ما عند الله، والاعتزاز بالعمل له، وتفضيل ما عنده على أعطيات المغدقين، والركون إلى جنابه عند تجبر الجبارين؛ فهو صاحب القهر والسلطان، والجلال والإكرام، والجناب الذي لا يضام {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18]، وهذه ثمرة من ثمار العلم بالله، ومعرفة صفات جماله ونعوت جلاله، فمن عرف قدر ما له عند الله آثره على ما سواه، وقدمه على من عداه، ومن صدقت صلته بربه لم يبالِ أن يفتدي الحق بعمره، مفضلًا أن يُقتَل شهيدًا على أن يُدفَن الحقُّ، ولا يجد من ينصفه ويشرفه ويُعلي رايتَه.

 

الشجاعة تنشأ من إيمانك اليقيني الحتمي أنك مخلوق للجنة، وأن هذه الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك عادل.

 

إذًا، قضية الشجاعة قضية مقطوع بها، لن تجد إنسانًا بعيدًا عن الله، مؤمنًا بالدنيا، كافرًا بالآخرة شجاعًا، لكن مدّعي الشجاعة.

 

فالمتنبي الذي قال:

 

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي    وأسمعت كلماتي من به صمــم

أنام ملء جفوني عن شواردها    ويسهر الخلق جراها ويخــتصم

الخيل والليل والبيـداء تعرفني     والسيف والرمح والقرطاس والقلم

 

وعندما واجه عدوًا ولى هاربًا، فقال له غلامه: ألست القائل: الخيل والليل؟ قال له: قتلتني قتلك الله.

 

وأما الخلق الثاني الباعث على الشجاعة فهو: اليأس مما في أيدي الناس، والانطلاق من قيود الرغبة والرهبة، والتخلص من ذل الطمع وشهوة التنعم، فكم ممن حرم الدعوة للحق طمعًا في نفع دنيوي، أو بحثًا عن رضا من لا ينفع رضاه ولا يضر غضبه، مؤثرًا شهوة النفس ومُتع الحياة على الصدع بالحق، ولو كان عفيف النفس، راضيًا بحظه من الله لتغير أمره، ولتبدل حاله.

 

فاليأس مما في أيدي الناس هو العز والغنى، والطمع فيما عندهم هو الفقر والعنا، ولا يزال الرجل كريًما على الناس حتى يطمع في دينارهم ودرهمهم، فإذا فعل استخفوا به، وكرهوا حديثه، وملوه وأبغضوه(7).

 

وعندما سأل أعرابي أهل البصرة: بم سادكم الحسن؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى عن دينارهم، فقال: ما أحسن هذا(8).

 

وإذا كان الإخلاص مددًا للداعية، يشجعه على الشجاعة والإقدام، وتبليغ دين الله عز وجل؛ فإن مما يمدّ هذا الخلق أيضًا الإيمان بالله عز وجل وقوة التوكل عليه، وكمال الثقة به سبحانه، وأن يعلم الداعية أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كما أن مما يمد الداعية بالشجاعة الإكثار من ذكر الله عز وجل، والثناء عليه؛ كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].

 

أشجع الشجعان رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

إن أشجع الرجال هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان بين الناس رجلًا، وكان بين الرجال بطلًا، وكان بين الأبطال مثلًا، وكان بين الناس محمدًا سيد الأولين والآخرين، ولا يوجد على ظهر الأرض رجل أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هناك وجه مقارنة بينه وبين أي مخلوق على وجه الأرض، وستكون شجاعته الكبرى يوم القيامة؛ عندما يقف الناس ينتظرون بدء الحساب، فيذهب الناس لآدم يطلبون الشفاعة، فيقول: لست لها، اذهبوا إلى نوح، ويقول نوح: لست لها، اذهبوا إلى إبراهيم، ويقول إبراهيم: لست لها، اذهبوا إلى موسى، ويقول موسى: لست لها، اذهبوا إلي عيسى، ويقول عيسى: لست لها، اذهبوا إلى محمد، فلا يتشجع أحد من الأنبياء أن يقف أمام الله جل في علاه سوى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يخر تحت عرش الرحمن ساجدًا، ويدعو الله بكلمات لم يدع بها أحد من قبل، فيقول له الله سبحانه وتعالى: يا محمد، ارفع رأسك، واطلب ما تشاء، واشفع تشفع، فيطلب من الله أن يبدأ الحساب، فيبدأ الله في حساب جميع الخلق(9).

 

عن علي رضي الله عنه قال: «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا»(10).

 

قال رجل للبراء رضي الله عنه: يا أبا عمارة، أفررتم يوم حنين؟ قال: «لا والله، ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شبان أصحابه وأَخِفَّاؤُهم حُسَّرًا ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح، فلقوا قومًا رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن، وبني نصر، فرشقوهم رشقًا ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل فاستنصر وقال: «أنا النَّبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»، ثُمَّ صفَّهم(11).

 

وعن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء، أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار، ولَّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبَلَ الكفار، قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها؛ إرادةَ أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيْ عباس، ناد أصحاب السمرة».

 

فقال عباس، وكان رجلًا صيِّتًا: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة، قال: فوالله، لكأن عطفتهم، حين سمعوا صوتي، عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، قال: ث