بها ملك لا يُظلَم عنده أحد
هاجر المسلمون من مكة إلى أرض الحبشة، وكان وقوع ذلك مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلًا وأربع نسوة، وقيل: وامرأتان، وقيل: كانوا اثني عشر رجلًا، وقيل: عشرة، وأنهم خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار.
وذكر ابن إسحاق أن السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما رأى المشركين يؤذونهم ولا يستطيع أن يكفهم عنهم: «إن بالحبشة ملكًا لا يظلم عنده أحد، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجًا»(1)، فكان أول من خرج منهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس قال: أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت له: لقد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال: «صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط»(2).
لقد كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة رخصةً من الله تعالى للمستضعفين في مكة، من المسلمين الذي أوذوا واضطهدوا من أجل إسلامهم .
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة, مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله تعالى بدينهم، فكانت أول هجرةٍ في الإسلام، وكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان، ومعه زوجته رُقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعظيم شأن الهجرة عند الله تعالى أنزل فيها قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء:97-99].
لقد درس النبي أولًا الأرض التي تصلح لاستقبالهم ويقبلهم فيها أهلها كمهاجرين، ودرس النبي أوضاع الجزيرة العربية، ووجد أن قريشًا تتمكن من كل قبيلة في الجزيرة العربية عندما يأتي موسم الحج؛ لذلك لن توجد القبيلة التي تحمي المهاجرين، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه».
فأنت بحاجة أحيانًا إلى جو مريح تعبد الله فيه، الاضطراب الشديد، والفتن، والخصومات، والقمع، هذا جو متوتِّر, لا يعينك على معرفة الله، فلذلك أحيانًا يختار الله عزَّ وجل لبعض المؤمنين مكانًا بعيدًا عن المدينة، فالإنسان بحاجة إلى خلوة مع الله.
فالنبي كان يخلو مع ربه الليالي ذوات العدد، أما أنت كمؤمن فمكلَّف أن يكون لك خلوة مع الله عزَّ وجل، فهؤلاء الصحابة الكبار الذين عاشوا في بلاد الحبشة، في ظل ملكها، وفي دعةٍ وراحة، هؤلاء بنوا إيمانهم.
بعد كل الإيذاء الذي تعرض له الصحابة في قريش رأف النبي صلى الله عليه وسلم بحالهم، فقرر أول هجرة في الاسلام، فاختار أن يذهب الصحابة إلى أرض الحبشة، لسببين:
أولًا: لأن الحبشة أرض لا تستطيع قريش أن تهاجمها.
ثانيًا: في الحبشة ملك عادل، قال عنه الرسول عليه صلوات الله وسلامه: «إن فيها ملكًا لا يظلم عنده أحد».
وفي ذلك دلالة على دراسة النبي صلى الله عليه وسلم للمكان، وشدة تنظيمه وحكمته، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم من بين المهاجرين ابنته رقية، وعثمان بن عفان، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان...
وتهتز قريش بهذا، فقررت أن تستغل صداقة عمرو بن العاص للنجاشي للضغط عليه بطرد المهاجرين.
فذهب عمرو بن العاص ومعه عبد الله بن أبي ربيعة، وأخذوا معهم هدايا لحاشية النجاشي، وبعد أن أعطوا الحاشية هداياهم، وأقنعوهم بالتعاون معهم، دخلوا على النجاشي، فقال عمرو بن العاص: إنهم غِلمان سفهاء، تركوا آباءهم وأمهاتهم يبكون، وطلبوا مني ردهم إليهم.
فتقول الحاشية: صدق، فيقول النجاشي: أسمعهم.
صدق صلى الله عليه وسلم حين قال: «إن فيها ملكًا لا يظلم عنده أحد»، فأرسل إليهم النجاشي وجاءوا الملك، وما أن دخلوا وجدوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص عنده، فسألهم النجاشي لماذا أتوا؟ فتقدم جعفر بن أبي طالب فقال: أيها الملك، كنا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونقطع الأرحام، ويأكل القوي منا الضعيف، وكنا على ذلك، حتى جاء إلينا رجل منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته، فأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، وإيتاء مال اليتامى، فعدى علينا قومنا، فقال لنا نبينا: اخرجوا إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، فخرجنا إلى أرضك واخترناك على من سواك، ونرجو ألَّا نظلم عندك، ثم قرأ سيدنا جعفر على النجاشي سورة مريم، فبكى النجاشي وقال: والله، إن الذي قلت والذي جاء به المسيح ليخرج من مشكاة واحدة، اذهبوا، فوالله، لا أسلمكم أبدًا، وأنت يا عمرو انطلق، والله، لا أسلمهم لكم أبدًا.
لكن عمرو بن العاص لم يهدأ له بال، ورجع في اليوم التالي للنجاشي فقال له: إنهم يقولون على المسيح أمرًا عظيمًا، فقال لحاشيته: أعيدوهم إلي، فلما جاءوا تقدم ثانية جعفر بن أبي طالب فسأله النجاشي: ماذا تقولون عن المسيح، فأجاب جعفر: نقول أنه عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود...، ما أحب أن لي جبلًا ذهبًا وأني آذيت رجلًا منكم.
وفي وقت جلوس الصحابة في الحبشة ارتأوا ألَّا يكونوا عالة على بلد الحبشة، فقامت أم سلمة وهي متخصصة في المصنوعات الجلدية وعلمت الصحابيات، وبدءوا ببيع منتجاتهم إلى الحبشة؛ فأحبهم أهلها حبًا شديدًا.
وظل المسلمون في الحبشة مدة 15 سنة، بعد أن هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وذلك لحكمة منه حتى تبقى للمسلمين قاعدة أخرى احتياطًا، وأسلم النجاشي ومات بعد ذهاب الصحابة مباشرة من الحبشة، وكأن الله جعله حماية للصحابة المهاجرين رضوان الله عليهم، ولما مات قام النبي وأصحابه وصلوا عليه.
لقد جاء الأمر بالهجرة تحقيقًا لحفظ المسلم على دينه، كما أشار قول الله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، قال ابن كثير رحمه الله: «هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدِّين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدِّين»، ثُمَّ قال: «ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك»(3).
ففي ظل تنامي أذية عتاة قريش للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، في صور من العدوان والبغي الذي بلغ حدَّ القتل والتعذيب والحبس، وتفاقم الأمر حتى تآمر كفار قريش لفتنة كل داخل في دين الرسول الكريم؛ بل أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْـمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]؛ فنبا بالمسلمين المقام في مكة، وضاق بهم الحال بها في السنة الخامسة(4).
وقد استطاع المهاجرون الأوائل الوصول إلى الحبشة والإقامة فيها فترة من الزمن، لكنهم عادوا إلى مكة بعد أن سمعوا بإسلام قريش، ولم يكن ذلك صحيحًا، فوجدوا الأمر خلاف ما بلغهم؛ فلاقوا من قومهم من العذاب والتنكيل أشد مما سبق، فلم يرَ الرسول صلى الله عليه وسلم بدًّا من أن يشير على أصحابه بالهجرة مرة أخرى إلى الحبشة، وكانت الهجرة الثانية أشق من سابقتها؛ فقد تيقّظت لها قريش وقررت إحباطها(5).
وقد كانت وراء هاتين الهجرتين دوافع قوية، ألجأت المؤمنين لمفارقة أرضهم وأهلهم ومالهم، فقد أصبحت مكة الآمنة المطمئنة مرتعًا للقتل والتعذيب والتنكيل والاضطهاد على أساس من اختلاف العقيدة؛ فأصبحت الحياة في مكة وبين ظهراني قريش، بالدِّين الجديد الذي جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ أمرًا متعذرًا، يتلبسه الخوف والجوع والضيق والأذى وتهديد النفس والعرض، فلم يكن دافع الهجرة مجرد اختلاف العقيدة وتباين الدِّين، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الصحابة ظلوا ثابتين بمكة؛ نظرًا لأن الأذى لم يبلغهم في ذلك الوقت، أو نظرًا لظروف البعض التي لم تمكّنهم من الهجرة؛ كالفقر، أو لكونهم موالي لكفار قريش، كما هو حال صهيب وبلال، وهذا ما يؤكده ابن إسحاق بقوله: «فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة؛ مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم»(6).
ولذلك نجد أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب المــُعِينَةِ على مواجهة هذا الحال المتأزم والوضع المأساوي، من خلال التفاته إلى أساليب جديدة وأماكن جديدة وخطط جديدة، مستفيدًا من الواقع القائم من حوله، فكانت الهجرة إلى الحبشة أنموذجًا لهذا التعاطي الإيجابي مع المحنة، الواقعي في تخطيطه، المتاح في إمكانياته، المحقق للقدر المعقول من أهداف حَمَلة الرسالة، حيث عجزوا عنها في مكة، فجاءت الإشارة منه إلى أتباعه للهجرة إلى الحبشة، وهي يومئذ دار كفر، معللًا اختياره بأن فيها «ملكًا لا يظلم عنده أحد»، فليس اختياره صلى الله عليه وسلم للحبشة اعتباطًا منه، ولم يثبت فيه أنه وحي من الله، فلم يبقَ إلا أن يكون اجتهادًا منه صلى الله عليه وسلم، استنادًا إلى معرفة وتقدير للأوضاع المحيطة ببيئته الاجتماعية والدعوية.
فقد حكت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أنهم لما نزلوا بأرض الحبشة جاوروا فيها خير جار، وأمنوا على دينهم، وعبدوا الله دون إيذاء أو سماع شيء يكرهونه؛ بل كان من شأن النجاشي مع رُسُل قريش أن رفض هداياهم، وقال: لاها الله [أي لا والله] إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عمَّا يقول هذان في أمرهم(7).
فسمع من الطرفين، وتبيّن القضية، ورفض طلب رُسُل قريش بتسليمهم إلى قومهم، وقال: «أنتم شُيوم بأرضي [أي آمنون]، مَن سبَّكم غرم»، وأعاد هدايا قريش معتبرًا إياها (رشوة).
وكان مما ظهر من كلام جعفر للنجاشي قوله: «فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا في ديننا، ليَرُدُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنَّا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا؛ خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألَّا نُظلم عندك أيُّها الملك»(8).
بل بلغ من شأن الصحابة الذين أقاموا بالحبشة أن دعوا الله تعالى للنجاشي بأن يظهره الله على عدو له، فقد جاء في أثر أم سلمة: فوالله، إنا لعلى ذلك [أي: الحال] إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله، ما علمتُنا حزنَّا حُزنًا قط كان أشدَّ علينا من حُزنٍ حزِنَّاه عند ذلك، تخوفًا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه، قالت: وسار إليه النجاشي، وبينهما عرض النيل.
قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثُمَّ يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا، قالوا: فأنت، وكان من أحدث القوم سِنًّا، قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثمَّ سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثمَّ انطلق حتى حضرهم.
قالت: فدعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، قالت: فوالله، إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا، فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله عدوه، ومَكَّن له في بلاده، قالت: فوالله، ما علمتُنا فرحنا فرحة قط مثلها(9).
لقد مثَّلت الحبشة بهذا الوضع، الذي يأمن فيه المرء على نفسه وماله وعرضه، ويمكنه في ظل نظامه السياسي اختيار العقيدة، وإظهار الدِّين، وممارسة الشعائر في حدها الخاص للفرد والجماعة؛ بلدًا جاذبًا للفئة المؤمنة التي لاقت الاضطهادات والمضايقات في أرضها ومجتمعها، فبلغ عدد الذين هاجروا إلى الحبشة نيفًا وثمانين فردًا، خرجوا أرسالًا إلى الحبشة.
كما مثَّلت الحبشة بيئة طبيعية لهذه الفئة المؤمنة للعيش الكريم، الذي تتوافر فيه أسباب الرزق وسبل التعايش، وهذا الأمر لم يكن ليتم لولا شخصية النجاشي، التي صبغت نظام حكمه الملكي بالعدل والرشد، ولم يكن اختلاف العقيدة أو الجنس ليُغيِّر من تعامله مع الآخر، ما وفَّر الأمن والاستقرار السياسي، وضمان الحقوق والحريات لكل قاصد للحبشة.
هذا الواقع في الحبشة كان الأظهر تميزًا من الوضع السائد في إمبراطورية الروم وفارس وما يتبعهما؛ لذا جرى اختيارها عمَّا سواها.
كما أن علاقة قريش بكثير من قبائل العرب، ومكانتها بينهم، تجعل من اختيار مناطق القبائل العربية للهجرة مخاطرة لا تحمد عقباها، وقد رأينا كيف أن قريشًا لم تألُ جهدًا في إعادة من هاجروا عنها إلى الحبشة، رغم بُعْد المسافة واختلاف البيئة، فكيف لو كانت الهجرة إلى قبيلة عربية وبيئة قريبة؟
وسواء كان هذا الاختيار بتوجيه من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو نتيجة تدارس بينه وبين أصحابه، وتداول في الأمر وتقليب لوجهات النظر، فقد حقق مصلحة كبرى للمهاجرين؛ باستمرار عيشهم، وضمان سلامتهم، محافظين على عقيدتهم، ومؤدين لشعائر دينهم الجديد.
وقد ذهب سيد قطب رحمه الله تعالى في الظلال إلى أن هدف الرسول صلى الله عليه وسلم من الهجرة كان البحث عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة، وتكفل لها الحرية، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة، وهذا، في تقديري، كان هو السبب الأول والأهم للهجرة، مستنكرًا أن يكون سبب الهجرة هو مجرد النجاة بأنفسهم، نافيًا أن يكون لهذا الرأي قرائن قوية، مدعّمًا قوله بأنه لو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس وجاهة وقوة ومنعة من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون، الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة، لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبيتهم في بيئة قبلية ما يعصمهم من الأذى ويحميهم من الفتنة، وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين(10).
وهناك قول آخر يبرر اختيار الحبشة، وهو كونها بلدًا نصرانيًا، وأن النصارى أقرب لأهل الإسلام كونهم أهل كتاب، وهو تبرير مستبعد جدًا؛ أولًا لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يشر إليه من قريب ولا من بعيد، كما أن الأحباش كانوا متعصبين لديانتهم، كما اتضح في محاولة أبرهة الأشرم صرف وجوه العرب عن الكعبة إلى (كنيسة القليس)، التي ابتناها في صنعاء، ونادى العرب للحج إليها، ثمَّ محاولته هدم الكعبة عام الفيل، وهي أحداث لا تزال في وعي أهل مكة خاصة؛ ولو كان المقصود ذلك لكانت الشام، باعتبارها بلدًا مجاورًا وفيها نصارى، أقرب مذهبًا.
إن اختيار الحبشة لكونها بلدًا آمنًا متعايشًا، يحكمها نظام عادل مستقر، وهي معطيات مناسبة للجوء إليها، كما أنه لم يكن للحبشة أي ارتباط سياسي أو اقتصادي بقريش، يمكنها من ممارسة ضغوط على نظامها الحاكم، فهي دولة مستقلة، وذات موارد وقوة عسكرية؛ بل إن الحبشة في ذلك الحين تمثل وجهة مستبعدة في فكر قريش لهجرة المسلمين، خاصة للنظرة العنصرية التي كان ينظر بها العرب للأحباش.
لقد كان من نتاج هذه الهجرة المباركة، والثبات الذي أبداه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة البلاء والفتن، بدءًا بالمخاطرة بأرواحهم في خضم البحر، وقصدهم بلدًا لم يألفوه، والقول في عيسى عليه الصلاة والسلام ما يعتقدونه أمام ملك الحبشة وقساوسته، وانتهاءً بتمسّكهم بدينهم رغم طول المكث؛ إسلام النجاشي رحمه الله تعالى، ورغم أنه لم يَرِد تحديدٌ لسَنَة إسلامه، ولا يُعرفُ كيف كان ذلك، ومتى؟ غير أن كتب السير سجلت لنا أنَّ النجاشي بعد إسلامه اصطدم بقومه؛ حيث أرادوا الخروج عليه، لكنه أظهر لهم بقاءه على النصرانية، وظل كاتمًا إيمانه حتى مات، يقول ابن حزم رحمه الله تعالى عنه: «وكان قد أسلم، ولم يقدر على إظهار ذلك خوف الحبشة»(11).
وقد ذكر ابن إسحاق بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك قد فارقت ديننا! وخرجوا عليه، قال: فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سُفنًا وقال: اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإن هُزمتُ فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرتُ فاثبتوا.
ثُمَّ عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قباء عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة وصَفُّوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست بأحق الناس بكم؟ قالوا: بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد! قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال النجاشي، ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى بن مريم، لم يزد على هذا شيئًا! وإنما يعني ما كتب، فرضوا وانصرفوا(12).
ونتيجة كتمانه إيمانه، ووفاته في بلاد لا يوجد فيها من يصلي عليه، خاصة وقد عاد المسلمون المهاجرون إلى المدينة، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه في المدينة، ودعا أصحابه للصلاة عليه، فجاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي، صاحب الحبشة، يوم الذي مات فيه فقال: «استغفروا لأخيكم»(13)؛ وفي رواية أخرى: ثم تقدم فصفوا خلفه فكبَّر عليه أربعًا، فكان الوحيد الذي صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب.
ويستفاد من قصة الهجرة أن وصف العدل يقوم بغير المسلم كما يقوم بالمسلم، وفي هذه الحال يكون الوصف به نسبيًا؛ لأن العدل الأكمل إنما هو في التزام شرع الله، وتنفيذ أوامره، وتطبيق أحكامه، فقد جاء في اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم للحبشة: «إنَّ بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحدٌ عنده».
والشيء ذاته يُقال عن وصف الصلاح، فقد جاء في بعض الروايات وصف (النجاشي)، قبل إسلامه، بالصلاح(14)، وقد ظهر ذلك في مواقفه من بكائه عند سماعه القرآن، وتصديقه بشهادة القرآن في عيسى عليه الصلاة والسلام، ورفضه الرشوة التي قدمتها قريش، وقد جاء عن ابن تيمية رحمه الله تعالى: «الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة»(15).
كما يُستفاد من حادثة الهجرة إلى الحبشة ثبات المسلمين على عقائدهم وهم يخاطبون النجاشي في شأن ما يؤمنون به من جهة، وفي شأن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من جهة أخرى، كما جاء في المرويات، فإعلان العقيدة والمبادئ بصورتها الحقة في ظل العيش بين ظهراني المشركين، هو الأصل إذا كان مقدورًا عليه وأمنت الفتنة.
وهذا الثبات أثَّر، دون شك، في النجاشي وفي أهل الحبشة، فدخل هو وبعض من قومه في الإسلام، وإن لم يقدروا على الإعلان به(16).
إن الهجرة لم تكن أمرًا تعبّديًا واجبًا ابتداءً، منفصلًا عن الواقع الذي يحيط بالجماعة المسلمة؛ بل هي خطة وعلاج ومخرج لظرف فَرَضَ مثل هذا الحل وهذه الخطة.
وما يستوقفنا فعلًا هو أن ذكر الهجرة في القرآن الكريم بادئ الأمر كان يتصل بالهجرة المعنوية وليس الحسية، يقول تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10]، ويقول سبحانه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:٥]، فلم ترد أي إشارة إلى عزلة المجتمع ومفارقة الوطن بقدر ما كان التوجيه الإلهي يدعو إلى البُعد عن مظاهر الشرك والكفر ومعصية الله، وإلى عدم التصدي لأذى المشركين بأذى مثله، والدخول في حالة من الاستفزاز والمهاترات التي تعيق عن القيام بواجب الدعوة والبلاغ، وتشغل عن مهامهما.
أما عند الحديث عن الهجرة الحسية، والتي تعني عزلة المجتمع ومفارقة الوطن؛ فإنها غالبًا تقرن بالإشارة إلى أسبابها التي شرعت لأجلها، يقول تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195]، ويقول سبحانه: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْـمَلائِكَةُ ظَالِـمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إلَّا الْـمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْـمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (100)} [النساء:97-100].
ويقول عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل:41]، ويقول أيضًا: {ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل:110]، ويقول المولى: {لِلْفُقَرَاءِ الْـمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:٨].
وهذا لا يلغي أنَّ الهجرة، بعد قيام المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية في المدينة، كانت فرضًا على كل من أسلم واستطاع إليها سبيلًا، حتى إن لم يفتن في دينه أو يستضعف من قومه؛ لأن الهجرة، والحالة هذه، هي دخول تحت حكومة الإسلام، التي يناط بها إقامة الشعائر والشرائع في صورتها الكاملة، وتحقيق الأمن والعدل لإقامة حياة كريمة باتباع هذا الدِّين، وهذا يُخضع الإنسان للدينونة الكاملة لله، وهي دينونة واجبة شرعًا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فتكون الهجرة واجبة.
أما في حال لم تقم للمسلمين هذه الدولة، فإنهم مضطرون للتعامل مع الواقع القائم بحسب قدرتهم، بما يمكّنهم من الالتزام بعقيدتهم، والقيام بشعائر دينهم، وممارستها بحرية، مع ضمان العيش الكريم لهم، آمنين على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وأن يعملوا على تقوية وجودهم بحسب السنن الربانية، التي تتوافق مع عقيدتهم ومبادئهم التي يؤمنون بها.
إن الهجرة في الإسلام أخذت صورتين مختلفتين:
- صورة يبحث فيها أصحابها على موطن آمنٍ، يقيمون فيه شعائر دينهم، ويلتزمون بعقائده، ويدعون إليه بأمان وطمأنينة، إذا أمكنهم، كما حدث في هجرة الحبشة.
- وصورة يجد فيها أصحابها المأوى والنصرة في ظل مجتمع يدين بالإسلام، ويعمل لأجله، ويضحي في سبيله، وهي التي يشير إليها قول الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال:72-75].
ولكل واحدة من هاتين الصورتين تكاليفها وأعباؤها، كما أن لها أهدافها وغاياتها؛ والخلط بين هذه وتلك يؤدي لدى البعض إلى خطأ في التقدير وخطأ في السلوك(17).
مميزات الهجرة إلى الحبشة:
أولًا: عدل حاكم الحبشة:
قال رسول الله لأصحابه: «لو خرجتم إلى الحبشة؛ فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد»، فلم يعلق رسول الله على شيء في حياة هذا الرجل ولا دينه، إنما فقط علق على عدله.
وما حدث للمسلمين في مكة كان نتيجة ظلم بيّن من أهل مكة، والظالم لا ينظر ولا يهتم ولا يكترث بحقوق غيره، أما النجاشي ملك الحبشة فقد كان عادلًا؛ وهو بذلك يحفظ حقوق الآخرين بصرف النظر عن ديانتهم؛ بل بصرف النظر عن حبهم وكراهيتهم؛ حيث العدل من أُسس الحكم، وبغيره لا تستقيم الدنيا، وبدونه لن ينجو الإنسان في الآخرة.
وكان من سعة أفق الرسول وشمول نظرته وعمق تفكيره أن اختار البلد الذي يحكمه حاكم عادل، فضمن بذلك حماية كبيرة لأصحابه، وهو درس للدعاة أن يستفيدوا من الذين يتصفون بالعدل من الناس، وأن يطلعوا على أحوال البلاد المحيطة بهم، حتى في زمان الاستضعاف؛ فقد يكون من الفائدة أن يستعينوا برجل من هؤلاء، بصرف النظر عن ديانتهم أو توجهاتهم، وكانت تلك من المميزات الرئيسية في اختيار الحبشة.
ثانيًا: الحبشة بعيدة عن مكة:
ومع أن هذا يعدّ عيبًا؛ لأن البعد عن مكة يجعل الاتصال بين الرسول وبين المهاجرين صعبًا وشاقًّا ومكلفًا، إلا أنه في ذات الوقت يوفر جانبًا كبيرًا من الأمن للمهاجرين، بعيدًا عن بطش أهل الباطل في مكة وما حولها من الأماكن التي يمتد إليها نفوذهم.
ثالثًا: الحبشة بلد مستقل:
كانت الحبشة مملكة مستقلة، ليس لأحد عليها سلطان، ورغم أنها كانت تتبع الكنيسة المصرية في الإسكندرية، إلا أن هذه التبعية كانت تبعية دينية وليست سياسية، فليس هناك خطورة إذن من أن يملي قيصر الروم أو كسرى فارس أو غيرهم رأيًا على أهل الحبشة.
رابعًا: الحبشة بلد قوي في المنطقة، وعليها ملك عظيم:
فقد كان للحبشة اسم قوي في ذلك الزمن، وكان أهل مكة يعظمون ملكها كثيرًا، وكان بينهم وبينه سفارات ومراسلات وهدايا، ومثل هذا الأمر كان من الممكن أن يكون عيبًا لكن في حال إذا كان ملك الحبشة ظالمًا، أما وإن اتصف بالقوة والعظمة مع العدل؛ فهذا يوفر حماية كبيرة وأكيدة للمهاجرين.
وإن هذا ليضع على عاتق قريش أن تفكر ألف مرة قبل أن تقدم على غزو الحبشة لمطاردة المهاجرين منها، كما فعلت بعد ذلك في المدينة في غزوة الأحزاب، فكانت قوة الحبشة وقوة ملكها، إضافة إلى حاجز البحر وبُعد المسافة، من العوامل المهمة التي تحول دون هذا التفكير في الغزو، وكان أقصى ما يمكن أن تفعله قريش هو أن ترسل سفارة رسمية تطلب فيها تسليم المهاجرين، وإن كان الملك عادلًا فإنه، ولا شك، سيرفض تسليم زوّاره وضيوفه.
خامسًا: الحبشة بلد تجاري، وصاحب قوة اقتصادية:
كانت الحبشة في ذلك الوقت ذات قوة اقتصادية معقولة، ولا يخشى عليها من حدوث أزمات اقتصادية، وذلك نتيجة قدوم المهاجرين، وهذا سيعمل على توفير الأمان والاستقرار للمؤمنين، وفي ذات الوقت فلن يغير من نفسيات أهل الحبشة؛ فهم لم يشعروا بأزمة تذكر نتيجة هجرة المسلمين إليهم.
لهذه الأسباب مجتمعة، وقد يكون لغيرها، كان اختيار الحبشة اختيارًا موفقًا جدًّا، وقد بدأ المهاجرون بالفعل يتجهون إلى هناك، ليبدأ ما يسمى في السيرة بالهجرة الأولى إلى الحبشة(18).
دروس وعبر من الهجرة للحبشة :
أولًا: الواقعية في تعامل النبي مع الأحداث: اتسم الحل النبوي تجاه محنة المسلمين في مكة بالواقعية والعملية، فلم يلجأ النبي إلى طرق خيالية، أو غير منطقية، إذ كان بمقدوره صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله للمؤمنين، ويستجيب الله له، ولكن هذا الحل آنذاك يكون أشبه بالمعجزة الخارقة عن حدود العقل، والتي قد تزعزع المسلمين أنفسهم، فلجأ النبي إلى الهجرة كحلٍ واقعي ينهي به أزمة المسلمين في مكة .
ثانيًا: استمرارية الدعوة إلى الله حتى في أوقات الشدائد: لم يقتصر قرار الهجرة على مجرد إنهاء مسلسل التعذيب الواقع على المسلمين وفقط؛ بل اعتبر النبي الهجرة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله تعالى، فهو وإن كان في ظاهره يعد إنهاءً لمسلسل التعذيب الذي بدأه طغاة مكة ضد المسلمين، إلا أنه في جوهره يعد طريقًا من طرق الدعوة إلى الله تعالى ونشر رسالة الإسلام.
ثالثًا: إن الأمر بالهجرة إلى الحبشة لم يكن عامًا لكل المسلمين في مكة؛ بل كان قاصرًا على الأحرار فقط من أهل مكة دون العبيد، ولعل ذلك يرجع إلى أن تأثير هؤلاء الأشراف في أرض الحبشة يكون أقوى من تأثير العبيد، إضافةً إلى أن الأحرار يملكون أمر أنفسهم، بخلاف العبيد فهم ملك لأسيادهم، أضف إلى ذلك أن هجرة بعض أسياد مكة وأشرافها يؤدي لا محالة إلى ضربة قوية في المجتمع المكي .
رابعًا: البلاء سنة كونية، يلقاه الصالحون فالأمثل فالأمثل، وأن الصبر على البلاء ثوابه عظيم، وفضله كبير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل»(19)، وقال سبحانه وتعالى في فضل الصبر والصابرين: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
خامسًا: أظهرت الهجرة إلى الحبشة مدى الرحمة التي يتمتع بها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان السبب الرئيس إلى اتخاذ قرار الهجرة هو شدة الأذى الذي لاقاه المسلمون في مكة، فأشفق النبي عليهم، وأمرهم بالهجرة إنهاءً لهذا العذاب، وتلك المحنة، وصدق الله إذ يقول واصفًا نبيه عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
سادسًا: الثبات على المبادئ واليقين في نصر الله صفة من صفات المؤمنين الصادقين، فمع ما لاقاه المسلمون من الأذى والاضطهاد في مكة، كانت بشائر الأمل بتحقيق موعود الله ترفرف على أفئدتهم، فأكسبتهم سكينة وثباتًا وصبرًا.
سابعًا: أظهرت هذه الهجرة حسن تدبير النبي صلي الله عليه وسلم، فلم يختر لهم مكان الهجرة بطريقة عشوائية؛ حتى لا يكون هناك احتمال تعرضهم لاضطهادٍ في مكان آخر؛ بل اختار الحبشة، معللًا هذا الاختيار بأن بها ملكًا عادلًا لا يظلم عنده أحد، وأنه يحسن الجوار.
أضف إلى ذلك أن بلاد الحبشة كانت بعيدة عن نفوذ الفرس والروم وقريش، ولا يمكن أن يصل إليها طغاة مكة عبر خيولهم؛ بل لا بد للوصول إليها من ركوب البحر بالسفن، ولم يكن لقريش آنذاك علم بالسفن.
ثامنًا: تصديق اختيار النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يخيب النجاشي ظن رسول الله ولا ظن المسلمين به، فقد رعاهم أحسن رعاية، وأَمَّنهم، وعاملهم بالحسني، وكان أبو طالب قد أرسل رسالة إلى النجاشي يوصيه فيها بالمسلمين، حيث كان جعفر ابنه معهم، فأرسل إليه قصيدة كان من ضمن أبياتها:
تعلم، أبيت اللعن أنك ماجد كريم فلا يشقى لديك المجانب
تعلـــــم بأن الله زادك بســـــــطة وأسباب خـــــير كلـــــها بك لازب
فإنك فيض ذو سجال غزيرة ينال الأعادي نفعها والأقارب(20)
الحفاظ على الدعوة أم الحفاظ على الدعاة:
في قرار الهجرة قد يثار سؤال مهم، مفاده: هل قرر المسلمون الهجرة للحفاظ على الدعوة أم للحفاظ على الدعاة؟ فهل يُضحَّى بالدعوة من أجل الحفاظ على الدعاة أم يُضحى بالدعاة من أجل الحفاظ على الدعوة؟
وواقع الأمر أن أكثر ما يهم المؤمن في حياته إنما هو الدين؛ حيث إنه المقصد الأول من مقاصد الشريعة التي جاء الشرع لحمايته، ومن أجل الدين يُضحى بكل شيء، والمؤمنون يبذلون أرواحهم للدفاع عن الدين، لكنهم لا يبذلون دينهم للحفاظ على أرواحهم؛ بل إن الله حث المؤمنين على بذل أرواحهم حفاظًا على دينهم فقال: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
وقال أيضًا: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74].
ومن هنا فقد كان السبب الأول في الهجرة، التي قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو حماية الدعوة، وهذا يعني أن رسول الله أراد أن يجعل للدعوة محضنًا آخر غير مكة، حتى إذا استُؤصل الدعاة من مكة تكون ما زالت هناك طائفة أخرى، وفي مكان آخر لاستمرار طريق الدعوة، فكان من الحكمة إذن أن يكون للدعوة أكثر من مركز، وأكثر من مكان؛ حتى إذا أغلق واحد منها استمر الآخر وظل في عمله، وكما يقولون: «لا تضع بيضك كله في سلة واحدة».
فلم يكن السبب الأول في الهجرة إذن هو الحفاظ على أرواح الدعاة، وإن كان هذا من الأهمية بمكان، ويؤيد هذا الرأي الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: أن أمر الهجرة كان لفئة خاصة من المؤمنين:
فلقد طُلبت الهجرة من القرشيين ولم تطلب من العَبِيد، أو من الذين كانوا عبيدًا، وقد هاجر الذين يتمتعون بعصبية وقبلية تستطيع أن توفر لهم الحماية، هاجر الأشراف أصحاب المنعة ولم يهاجر الموالي المستضعفون، ولو كان الهدف الأول حماية الأرواح لكان الأولى أن يهاجر هؤلاء الضعفاء، وإن هذا ليجرنا إلى سؤال آخر وهو: لماذا هاجر الأشراف دون البسطاء؟! ولماذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشراف بالهجرة ولم يأمر العبيد؟!
1- لأن هذا أدعى لحمايتهم؛ فأَمْر الهجرة أمر جِدُّ خطير، وقد تطارد مكة فوج المهاجرين، وفي لحظات من الغضب والغيظ قد يتهور أهل مكة ويقتلون المهاجرين المطاردين، خاصة إذا كانوا عبيدًا، أما إذا كانوا من الأشراف فإن عملية الهجرة تصبح أقل خطورة من سابقتها؛ حيث إنه لو تم الإمساك بهم فسيحملونهم حملًا إلى مكة، ولن يفكروا أبدًا في قتلهم؛ وذلك لمنعة قبائلهم.
2- أن الأشراف هؤلاء سيكونون أقدر على التأثير في أهل البلد الذي سيهاجرون إليه؛ إذ إنه قد اقتضت طبيعة البشر أنه إذا تكلم الشريف سمعوا له وأنصتوا، وإذا تكلم الضعيف لم يؤبه له، وكان الغرض هو إيصال كلمات الدعوة إلى آذان البلد المضيف، وعرض هذا الأمر بأفضل صورة ممكنة، وفي هذه الحالة أيضًا سيستقبل المهاجرون على أنهم وفد سياسي معارض لسياسة مكة، بدلًا من أن يستقبلوا كمجموعة من العبيد الآبقين من أسيادهم.
3- أن هجرة الأشراف هذه ستؤدي إلى هزة اجتماعية خطيرة في مكة؛ فمثل هذه الهجرة ستفيق أهل مكة على خطورة أفعالهم، فهؤلاء المؤمنون المطاردون هم خيرة أهل البلد، وهم من أكثر الناس سعيًا لإصلاحها، وهم أيضًا من أعرق البيوت، ومن أشرف الناس، ثم ها هم يغادرون البلد لأنهم لم يجدوا فيها أمانًا، فما أبشع فعل أهل الباطل هذا، وما أشنع الجريمة، أهؤلاء هم الذين يطردون؟! أهؤلاء هم الذين يفتنون في دينهم؟!
ومن هنا تكون هجرة الأشراف، ولا شك، صدمة قوية لأهل مكة، قد ينتبهون على أثرها إلى خطئهم الفادح في حق المهاجرين وفي حق بلدهم، أما إنه إذا كان قد هاجر المستضعفون فرد الفعل هو: لا ضير، أليسوا عبيدًا تركوا البلد، فلنأتِ بعبيد آخرين، وهذا ما كان سيفكر فيه الطغاة، ضاربين عرض الحائط اعتبار الآدمية والإنسانية، وبهذا يكون الرسول قد دفع المشركين دفعًا إلى تحريك عواطفهم ومشاعرهم لإدراك مدى الجريمة التي يفعلونها مع المؤمنين في صدهم عن دين الله.
الملاحظة الثانية: طول الفترة التي قضاها المهاجرون في بلد الهجرة:
ومما يؤكد على أن الهجرة إنما كانت لحماية الدعوة هو الفترة التي قضاها المهاجرون في مهجرهم، ولننظر: متى عاد المهاجرون من الحبشة إلى الصف المسلم من جديد؟ هل عادوا في فترة مكة، أم عادوا في فترة المدينة؟
والواقع أن المهاجرين مكثوا في الحبشة حوالي خمس عشرة سنة متتالية، ولم يعودوا إلا بعد أن اطمأنُّوا إلى زوال خطر استئصال الدعوة، فقد هاجر المسلمون هجرتهم الأولى إلى الحبشة في شهر رجب من العام الخامس من البعثة، ثم عادوا سريعًا إلى مكة بعد ثلاثة أشهر، ثم هاجروا من جديد هجرتهم الثانية إلى الحبشة في السنة السابعة من البعثة، وقد مكثوا فيها طيلة اثنتي عشرة سنة كاملة، ولم يرجعوا إلا بعد غزوة خيبر.
وقد مرت في هذه الأثناء أحداث في غاية الأهمية والخطورة على المسلمين، ومرت أحداث عظيمة جدًّا في بناء الأمة الإسلامية، ورغم ذلك لم يرجع المهاجرون من الحبشة، ولم يكن ذلك اجتهادًا منهم؛ بل كان بأمر من قيادة المسلمين، المتمثلة آنذاك في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت قد مرت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، وكان قد مر تأسيس الدولة الإسلامية، وكان البناء صعبًا جدًّا، وكان عدد المسلمين آنذاك قليلًا، وهم في الحبشة قد تجاوزوا الثمانين، ومع ذلك لم يطلبهم رسول الله، ثم مرت الغزوات العظام؛ مرت بدر، ثم بنو قينقاع، ثم أُحد، ثم بنو النضير، ثم الأحزاب، ثم بنو قريظة، ثم الحدث الكبير والمهم في مسيرة الدولة الإسلامية وهو صلح الحديبية، ولم يطلبهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم(21).
***
_____________
(1) أخرجه البيهقي في السنن (9/ 16).
(2) فتح الباري (7/ 188-189).
(3) تفسير ابن كثير (6/ 290).
(4) فقه السيرة النبوية، للبوطي، ص115.
(5) المصدر السابق، ص118.
(6) السيرة النبوية، لابن هشام (1/ 226-227).
(7) المصدر السابق (1/ 235).
(8) المصدر السابق (1/ 235-236).
(9) الهجرة الأولى في الإسلام، ص19.
(10) في ظلال القرآن (1/ 29).
(11) الهجرة الأولى في الإسلام، ص148.
(12) السيرة النبوية، لابن هشام (1/ 341).
(13) أخرجه البخاري (1327).
(14) تفسير ابن كثير (2/ 311).
(15) مجموع الفتاوى (28/ 63).
(16) الهجرة الأولى في الإسلام، ص142-160.
(17) قراءة في مفهوم الهجرة في الإسلام، مجلة البيان (العدد:325).
(18) هجرة الحبشة الأولى، د. راغب السرجاني، قصة الإسلام.
(19) أخرجه النسائي (7440).
(20) هجرة الحبشة الأولى دروس وعبر، أحمد لطفي، مقالات.
(21) التفكير في الهجرة إلى الحبشة، د. راغب السرجاني، قصة الإسلام.