logo

يحسب أن ماله أخلده


بتاريخ : الأحد ، 11 ربيع الأول ، 1443 الموافق 17 أكتوبر 2021
بقلم : تيار الاصلاح
يحسب أن ماله أخلده

ما أشقى القيم عندما يصبح المال وحده لُحمتها وسُداها، وأتعِس بالأمم إذا بات المال عندها معيار التفاضل ومنهاج التعامل، به ترفع وتضع، وفيه تقدم وتؤخر، وله تسعى وتحفد.

قال تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ} أي: يظن هذا الهماز العياب أن ما عنده من المال قد ضمن له الخلود في الدنيا، وأعطاه الأمان من الموت، فهو لذلك يعمل عمل من يظن أنه باق حيًّا أبد الدهر، ولا يعود إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيئ الأعمال.

وأثر عن علىّ كرم الله وجهه من عظة له: يا كميل هلك خزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.

يريد أن خزان الأموال ممقوتون مكروهون عند الناس، لأنهم لا ينالون منهم شيئًا، أما العلماء فالثناء عليهم مستمر ما بقي على الأرض إنسان، ينتفع بعلمهم، ويغترف من بحار فضلهم (1).

ثم في التفسير وجوه:

أحدها: يحتمل أن يكون المعنى طول المال أمّله، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله، يحسب أن ماله تركه خالدًا في الدنيا لا يموت، وإنما قال: أخلده ولم يقل: يخلده؛ لأن المراد يحسب هذا الإنسان أن المال ضمن له الخلود وأعطاه الأمان من الموت وكأنه حكم قد فرغ منه، ولذلك ذكره على الماضي.

قال الحسن: ما رأيت يقينًا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت.

وثانيها: يعمل الأعمال المحكمة كتشييد البنيان بالآجر والجص، عمل من يظن أنه يبقى حيًا أو لأجل أن يذكر بسببه بعد الموت.

وثالثها: أحب المال حبًا شديدًا حتى اعتقد أنه إن انتقص مالي أموت، فلذلك يحفظه من النقصان ليبقى حيًا، وهذا غير بعيد من اعتقاد البخيل.

ورابعها: أن هذا تعريض بالعمل الصالح، وأنه هو الذي يخلد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة في النعيم المقيم (2).

يعني يظن هذا الرجل أن ماله سيخلده ويبقيه، إما بجسمه وإما بذكره، لأن عمر الإنسان ليس ما بقي في الدنيا، بل عمر الإنسان حقيقة ما يخلده بعد موته، ويكون ذكراه في قلوب الناس وعلى ألسنتهم، فيقول في هذه الآية: {يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ} أي: أخلد ذكره أو أطال عمره، والأمر ليس كذلك، فإن أهل الأموال إذا لم يُعرفوا بالبذل والكرم فإنهم يخلدون لكن بالذكر السيء، فيقال: أبخل من فلان، وأبخل من فلان، ويذكر في المجالس ويعاب (3).

وقد نص القرآن على أوسع غنى في الدنيا في نبي الله سليمان، آتاه الله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، ومع هذا قال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 32- 33] الآية.

وقصة الصحابي لما شغل ببستانه في الصلاة، حين رأى الطائر لا يجد فرجة من الأغصان، ينفذ منه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إني فتنت ببستاني في صلاتي، فهو في سبيل الله، فعرفنا أن الغنى وحده ليس موجبًا للطغيان، ولكن إذا صحبه إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، وقد يكون طغيان النفس من لوازمها لو لم يكن غنى {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وأنه لا يقي منه إلا التهذيب بالدين كما قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27].

وقد ذكر عن فرعون تحقيق ذلك حين قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]، وكذلك قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]، وقال ثالث الثلاثة من بني إسرائيل: «إنما ورثته كابرًا عن كابر» بخلاف المسلم، إلى آخره. فلا يزيده غناه إلا تواضعًا وشكرًا للنعمة، كما قال نبي الله سليمان: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، وقد نص في نفس السورة أنه شكر الله: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].

وفي العموم قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].

وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحاب المال الوفير فلم يزدهم إلا قربًا لله، كعثمان بن عفان رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف، وأمثالهم (4).

فالمال بذاته لا يملك صلاحًا ولا فسادًا؛ إما هو وسيلة للتعامل والتعايش، فمن أحسن استخدامه انتفع به في الدنيا والآخرة، ومن أساء استخدامه كان عليه حسرة وخزيًا يوم القيامة، فالمال إما أن يكون دواء وإما أن يكون هو الداء؛ بحسب استخدام من يحوزه ويملك التصرف فيه.

قال الإمام: أي أن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس، هو جمعه المال وتعديده، أي عده مرة بعد أخرى، شغفًا به وتلذذًا بإحصائه، لأنه لا يرى عزًّا ولا شرفًا ولا مجدًا في سواه، فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة، بحيث يكون كل ذي فضل ومزية دونه، فهو يهزأ به ويهمزه ويلمزه، ثم لا يخشى أن تصيبه عقوبة على الهمز واللمز وتمزيق العرض، لأن غروره بالمال أنساه الموت وصرف عنه ذكر المآل فهو {يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ} أي يظن أن ماله الذي جمعه وأحصاه، وبخل بإنفاقه، مخلده في الدنيا، فمزيل عنه الموت (5).

وقوله تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ} هو من أوصاف هذا الهمزة اللّمزة، الذي توعّده الله سبحانه وتعالى بالويل والعذاب..

فأكثر الناس همزًا ولمزًا للناس، هو الذي يحرص على جمع المال، ويجعل هذا الجمع كلّ همّه في الدنيا.

وإنه لكي ينفسح له طريق الجمع، ويخلو له ميدان الكسب، يحارب الناس بكل سلاح، فلا يدع في الميدان الذي يعمل فيه إنسانًا إلا طعنه الطعنات القاتلة متى أمكنته الفرصة فيه.. بالهمز حينًا، وباللمز أحيانًا.

ثم إنه من جهة أخرى- إذ يجمع ما يجمع من مال- حريص على أن يدفع عن هذا المال كل عادية يراها بأوهامه وظنونه، فهو لشدة حرصه على ما جمع، يحسب أن كل الناس لصوص يريدون أن يسرقوه، أو قطاع طرق يتربصون به، وهو لهذا يرمى الناس بكل سلاح، ويطعنهم بكل ما يقع ليده، وكأنهم متلبسون بسرقة ماله الذي جمع، ثم هو من جهة ثالثة، حريص على أن يقيم له من هذا المال الذي جمعه، سلطانًا على الناس، لا بما ينفق عليهم منه في وجوه الخير، ولا بما يمدّ به يده إليهم من معروف، بل بما يرى الناس من غناه وكثرة أمواله، وهو لهذا يعمل على إعلاء نفسه بهدم غيره، والحطّ من منزلته، وهذا هو الإنسان في أسوأ أحواله، وأخسّ منازله، إنه لا يسمو بذاتيته، ولا يرتفع بسعيه في وجوه الخير والفلاح، بل إنه يرتفع على حطام الناس، ويعلو على جثث ضحاياه، الذين يريق دمهم بهمزه ولمزه.

وهذا هو السرّ- والله أعلم- في الجمع هنا بين الهمزة، اللّمزة، وجامع المال ومكتنزه.

فالهمز واللمز، وإن كان طبيعة غالبة في الناس من أغنياء وفقراء، إلّا أنه عند الذين همّهم كلّه هو المال، يعدّ سلاحًا من الأسلحة العاملة لهم في جمع المال، وفي حراسته، وفي التمكين لهم من التسلط على الناس به وقوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ} جملة حالية تكشف عن ظنون هذا الإنسان وأوهامه، وهو أنه على ظنّ من أن هذا المال الذي جمعه، سيخلّده، ويمدّ له في الحياة، وأنه بقدر ما يستكثر من المال بقدر ما يكون له من بقاء في هذه الدنيا، هكذا شأن الحريصين على المال، الذين اتجه همهم كلّه إلى جمعه، إنهم لا يذكرون الموت أبدًا، ولا يغشون مكانًا يذكّرهم به، ولا يستمعون إلى حديث يذكر فيه، إن الموت عندهم هو عدوّ قد قتلوه بأمانيّهم الباطلة، وأراحوا أنفسهم منه، فما لهم والحديث عنه؟ وما لهم وما يذكّرهم به؟ (6).

قارون نموذج:

وحرصًا على إثراء رصيد المسلمين بالمعرفة التاريخية، وعمارة أرواحهم بأصل القيم، تعاقب القصص القرآني عن الأمم السالفة ليكون من الروافد الفكرية لمكونات الشخصية الإسلامية.

ولقد ثبت عن الإمام أحمد حبه لقصص موسى في القرآن الكريم، والتي توزعت فصولها هذه في كثير من آيات القرآن تحكي جهاد هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى سائر الأنبياء، وكيف اصطدم بالطغيان السياسي الذي تمثله دولة فرعون ومواجهة لبذور وجذور الرأسمالية القارونية، التي كان قارون صنمها البارز ووثنها الشامخ.

وما ذكر في القرآن من قصة قارون مع قومه تتمثل في هذه الآيات {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين (76) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض..} [القصص: 76- 82]، تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر، والاستكبار على الخلق وجحود نعمة الخالق، وتقرر حقيقة القيم، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح؛ مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد (7).

قصة متكاملة العناصر؛ فزمن القصة؛ فترة رسالة موسى صلى الله عليه وسلم، والأماكن التي شهدت الدعوة مكانها، ووقائع القصة -وإن انتهت زمنًا- فهي مستمرة حياةً وإيحاءً، ما دام النموذج الذي عرضت له القصة قائمًا في عالم الناس.

وقارون يقوم بدور البطولة بين شخصياتها المتمثلة بقومه عمومًا، ثم يتحدد هذا العموم بفئتين:

الأولى: الدنيويون.

الثانية: أولو العلم.

وموضوع الصراع هو المال (مصدرًا وهدفًا ومصرفًا).

وتبدأ القصة معرّفة بقارون؛ هذه الشخصية البائسة التي تعايش ربيع الزمن -وجود النبوة- ولكنها في شغُلٍ عنها بالمال جمعًا وكنزًا، ثم تفتح الآيات أعيننا على الأخطار التي تنتج عن رأسمالية فرد؛ فما تكون عليه هذه المخاطر إذا كانت هذه الرأسمالية نظام حياة وأسلوب حكم؟!

مخاطر الرأسمالية المنحرفة:     

للرأسمالية المنحرفة مخاطر؛ في قلب العبد وفي علاقته بربه وبخالقه تعالى.

أولى هذه المخاطر: الظلم:

{فَبَغَى عَلَيْهِمْ} فالمُتيّم بالمال، والصبّ بجمعه لا يهتم إلا بما يزيد هذا المال رقمًا دون مبالاة بظلم مؤلم أو بغي مؤذٍ.

في ظل هذا الوضع تُهان إنسانية الإنسان، ويكون التعامل معه كالتعامل مع الأشياء.

والخطر الثاني: الفرح المحرَّم البطَر:

{إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ}، ويبدو أنه قد لازمَه حتى صار خُلقًا له، أو كما يقول أهل النحو صفة مشبِّهة، أو صيغة مبالغة، فبلغ به حد الأثرة والبطر، كما يقول القرطبي، أو بلغ الحد الذي يُنسي المنعم بالمال كما يقول صاحب الظلال.

والخطر الثالث: التوجه الكلي إلى الدنيا وحدها:

وهذا ما يُستنبط بمفهوم المخالفة من قوله، تعالى: {وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} وكما لا يظن أن ذلك دعوة إلى مقاطعة الدنيا؛ أتْبَع لقوله: {ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وابتغاء وجه الله بالعمل محض الإيمان، فلا يذل المرء للمخلوقين أو يصبح تحت رحمة أهوائهم إذا اتخذ وجوههم قبلة تحقيقًا لتوحد حب الدنيا في قلبه.

وبعد إشباع شهوة التسلط القاروني بالبغي، وإتراعها بالفرح، وما في ذلك من مكسب إعلامي؛ يَجعل من صاحبه حديث الصالونات، ومحتكرًا للصفحة الاجتماعية في الجرائد والمجلات؛ بعد ذلك تمضي بنا الآيات إلى:

الخطر الرابع: وهو الفساد في الأرض:

{وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ}، وكلمة الفساد ينطوي في أحشائها -وينضوي تحت راياتها- شرور شتى، وخبائث عدة؛ لأن القارونية لا مكان في معجمها المادّي للأخلاق، بل لا ترى بأسًا أن يكون في مقتل الأخلاق دخْلٌ دارّ للربح كما في عوائد الربا والفوائد، وكما في دخول الميسر والخمر والدخان … إلخ.

المادية واحدة في صورتها الرأسمالية أو الشيوعية:

والأخطار الأربعة السابقة نتيجة منطقية لرأسمالية قارون التي تدين بالحتمية المادية -وهذه نقطة تلاقٍ مع الشيوعية- التي تجحد قدرة الله في الإعطاء والمنع، والفقر والغنى، وترد ذلك إلى سلطان العقل وثمرة العمل.

وتبجُّح قارون: {إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} يمثل الأبوة الروحية لكل منزع مادي، فهو كما قال أحد المفسرين: تَنَفَّجَ بالعلم وتعظم به.

وهو نموذج مكرر في البشرية، فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه، ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح، غير حاسب لله حسابًا، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه.!

والإسلام يعترف بالملكية الفردية، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها؛ ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه، ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجًا معينًا للتصرف في الملكية الفردية كما يفرض منهجًا لتحصيلها وتنميتها وهو منهج متوازن متعادل، لا يحرم الفرد ثمرة جهده، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير؛ ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال، ورقابتها على طرق تحصيله، وطرق تنميته، وطرق إنفاقه والاستمتاع به، وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات (8).

وما دام قارون يعتقد ألا فضل لله في إيجاد هذا المال؛ فليس له بالتالي حكم في مصاريفه وإنفاقه.

ولكن الآيات ردت على المادية القارونية بأن المادية التاريخية لم تعصم أهلها؛ بالرغم مما في يدها من علم ومال: {أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وأَكْثَرُ جَمْعًا} وما على القوارين، إلا التأمل في مصائر الثراء وفعائل المال بأصحابه؛ إذ لو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم، كما يقول القرطبي (9).

وكأن هذه القارونية قد أخذت على نفسها الميثاق ألا تُبقي عيبًا من عيوب الثراء الذي لم يؤسس على تقوى إلا وكشفته، ها هي الآيات تعرض لنا المنظر الأخير للإفلاس القِيمي عند قارون الذي لم يجد ما يدلل به على حضوره ثريًا إلا خروجه في زينته.

كالهرّ يحكي انتفاخًا صولة الأسد

التي لم يكن الحاضر فيها منه إلا مظاهرها المادية بعد أن فارقنا إنسانيته أو فارقتنا في سعير المظالم وسعار الشهوات وسكرة الفرح.

ولقد نقلت الآيات قارون من الجريمة الفردية إلى الجريمة الاجتماعية أو بلغة الأدب، من الشخص إلى المصطلح، ومن الحدث إلى الرمز؛ لتصبح القارونية عباءة لكل قارون معاصر أو ثري جَحود.

التباهي والتعالي والغرور:

{فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} أي فخرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة، وتجمل باهر من مراكب وخدم وحشم، مريدا بذلك التعالي على الناس، وإظهار العظمة، وذلك من الصفات البغيضة، والافتخار الممقوت، والخيلاء المذمومة لدى عقلاء الناس من جرّاء أنها تقوّض كيان المجتمع، وتفسد نظمه، وتفرق شمل الأمة، وتقسمها طبقات، وفي ذلك تخاذلها، وطمع العدو في امتلاك ناصيتها.

وفي هذا تحذير لنا أيما تحذير، فكثير ممن يظهرون النعم، إنما يريدون التعالي والتفاخر، وكم ممن يقيم الزينات، أو يصنع الولائم لعرس أو مأتم، لا يريد بذلك إلا إظهار ثرائه، وسعة ماله بين عشيرته وبنى جلدته، فيكون قارون زمانه، وتكون عاقبته الخسف لما أوتيه من مال، ويذهب الله ثراءه، ويجعله عبرة لمن اعتبر.

فالكتاب الكريم ما قص علينا هذا القصص إلا ليرينا أن الكبرياء والتعالي ليس وبالهما في الآخرة فحسب، بل يحصل شؤمهما في الدنيا قبل الآخرة، كما حصل لكثير من المسلمين اليوم (10).

بين أهل الدنيا وأولي العلم:

لم يكد قارون يفرغ من عرض ثروته، واستعراض زينته إلا وقد أشعل في قلوب الدنيويين مشاعر التلهف وشعائر التأسف ألا يكون لهم مثل هذه الثروة: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ}؛ فجاءت إغاثة اللهفان -شأنها في كل زمان ومكان- من أهل العلم الذين حذّروا من خطورة النظرة السطحية للأمور، والتي تريد الدنيا للدنيا، ثم لفت أهلُ العلم الأنظار إلى حقيقة {ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ}.

فذلكما الأمران هما المطلوبان والمحبوبان؛ ثواب الله والإيمان به.

وفي ذلك تنبيه للدنيويين على مدار التاريخ -وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها- أن الثروة قد تدلف فجأة، ولكن ترويض النفس على الإيمان والعمل الصالح منزلة {وَلَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الصَّابِرُونَ}، الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون، وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة، درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان (11).

وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، وتبهر الذين يريدون الحياة الدينا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها؛ فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة؟ من مال أو منصب أو جاه، ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.

فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع، وهم أعلى نفسًا، وأكبر قلبًا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعًا، ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد، وهؤلاء هم {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [القصص: 80] العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم (12).

بين اليقين واهتزاز التصور:

بدا في التفاوت بين أولي العلم وبين أهل الدنيا الطامعين الطامحين، الذين اضطربت القيم لديهم حتى عظّموا أمر الدنيا بما لا يليق، وانبهروا بشخص كان يجب أن يتقدم بغضه وانتقاده -لانحرافه- على الاعجاب به.

لكنها عادة الجماهير التي يشد بعضها بعضًا نحو الإعجاب والانبهار وصنع الكاريزما لشخصيات كان يجب أن تسقط من عيونهم، وأن يُسقطها المجتمع المسلم من قيم حياته، وبالتالي أن يحكم عليها بالإعدام المعنوي، حتى يُجبرها على العودة إلى جادة الصواب.

لكن بدا اليقين واضحًا في الجانب الآخر، جانب أولي العلم كما بدا مؤثرًا؛ إذ لم يهتز أولوا العلم ولم يضطرب تصورهم، ولم يشكّوا فيما هم عليه، ولم يرتابوا فيما يحملون من قيم.

ثم لم يكتف أولوا العلم بهذا؛ بل حاولوا تثبيت المجتمع وشدّه إلى محور الدين، ومحور المنهج الرباني، وألقوا كلماتهم المذكّرة بالوحي، والعائدة بالمجتمع إلى جادة الصواب.

نهايات عاجلة ومتكررة، ولا متعظ:

وما أن يُنهي أهل العلم كلامهم؛ حتى تغيّب الأرض قارون في ظلماتها -والعطف بالفاء- {فَخَسَفْنَا} يدل على سرعة الأخذ.

والعقوبة بالخسف مناسبة لسخف المعتقد:

وفاجعة النهاية لا تقل في غناها المعنوي عن مأساة البداية، فهذه الثروة الهائلة تغور في أعماق البسيطة بثوانٍ كأن لم تكن: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ والأَرْضُ ومَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان: 29].

{وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 39- 40].

{وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ}، وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا، وعصى الرب الأعلى، ومشى في الأرض مرحًا، وفرح ومرح وتاه بنفسه، واعتقد أنه أفضل من غيره، واختال في مشيته، فخسف الله به وبداره الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (13).

وإذا جاء أمر فإنه يترك كل القوى اللائذة بأهل المال رغبة أو رهبة، عاجزة عن أي دور: {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ ومَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ}.

وحاصل المعنى: أن ما يحفظه التاريخ من وقائع الأمم من دأبها وعادتها في الكفر والتكذيب والظلم في الأرض، ومن عقاب الله إياها، هو جار على سنته تعالى المطردة في الأمم، ولا يظلم تعالى أحدًا بسلب نعمة، ولا إيقاع نقمة، وإنما عقابه لهم أثر طبيعي، لكفرهم وفسادهم وظلمهم لأنفسهم - هذا هو المطرد في كل الأمم في جميع الأزمنة (14).

وبقدر ما كان الانتقام فاجعًا لقارون كان مفاجئًا للدنيويين، فقد انتزعتهم النهاية من زيف أحلامهم، وسكرة مشاعرهم لتوقفهم على الأخذ الأليم؛ فيصرخون {وَيْ} لتبصر البصائر ما عجزت عنه النواظر، ويدركون ألا علاقة بين الهداية والثراء؛ فالله: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ويَقْدِرُ}.

كما يعترفون بفضل الله عليهم لتدارك رحمته إياهم بنُصح أولي العلم: {لَوْلا أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا}، كما يخرجون بتجربة ناجحة عن مستقبل الثراء الكافر: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ}، والتعبير بالمضارع {يُفْلِحُ} يفيد ديمومة الحكم ما وُجدت أطراف القضية.

وإذا كان الفوز في الآخرة هو الفوز، فالطريق إليه يبدأ في الدنيا بتجنُّب التجبُّر: {لَا يُرِيدُونَ عُلُوًا}، ومجانبة الفساد بكل مضامينه: {وَلَا فَسَادًا}، ولئن قُدّر للمبطلين أن يهيمنوا بعض الوقت فلن يتأتى لهم ذلك دائمًا أو انتهاءً؛ لأن: {الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه ولا ينتفع بمعرفته؛ فهذا فعل الأرذال، ولا تكتمه ما يستضر بجهله؛ فهذا فعل أهل الشر (15(.

قيادة أولي العلم:

تبدو أعداد الجماهير المنخدعة كثيرة، ويبدو عدد أولي العلم في كل زمان قليلًا؛ لكنهم فارقون في الأثر وفي اتجاه الأمة والمجتمع.

ولو أصبحت القيادة لأولي العلم والتأثير لهم، ورُفعت الحواجز بينهم وبين مجتمعاتهم؛ لاستخدم الناس عددهم وأفواجهم في ترسيخ القيم الحق، وإسقاط كل منحرف؛ بلا دماء ولا صراع؛ فالإسقاط المعنوي إذا كان المجتمع في حالة صحة، يسير بلا جهد ومرارة تضحيات.

لكن الفارق يظهر في القيادة إن كانت لأولي العلم أم كانت للقوارين! الذين يمتلكون ناصية التوجيه في المجتمعات المنكودة.

فالمال في المجتمعات المنكودة يملك الكلمة والاعلام والصحافة والكاميرا والشاشة، وأحيانًا أيضًا يملك المنابر! فأجدِر بمجتمع كهذا أن تخاف عليه وتخشى، وأن يتضاعف الجهد والواجب على أولي العلم (16).

---------------

(1) تفسير المراغي (30/ 239).

(2) تفسير الرازي (32/ 285).

(3) تفسير العثيمين: جزء عم (ص: 316).

(4) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9/ 27).

(5) محاسن التأويل (9/ 539).

(6) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1673).

(7) في ظلال القرآن (5/ 2710).

(8) في ظلال القرآن (5/ 2712).

(9) تفسير القرطبي (13/ 316).

(10) تفسير المراغي (20/ 98).

(11) في ظلال القرآن (5/ 2713).

(12) المصدر السابق.

(13) تفسير ابن كثير (6/ 278).

(14) تفسير المنار (10/ 41).

(15) رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق (ص: 125).

(16) يحسب أن ماله أخلده/ ناصحون