logo

الحرب الناعمة وأثرها على الشباب


بتاريخ : الأحد ، 14 شوّال ، 1443 الموافق 15 مايو 2022
بقلم : تيار الاصلاح
الحرب الناعمة وأثرها على الشباب

هي مصطلح جديد في الاستعمال العالمي، يستخدم للتعبير عنها بأشكال مختلفة: كحرب المعنويات، وغسل العقول، والغزو الثقافي، والحرب السياسية.

وتعرف من قبل المختصين بأنها القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلًا عن الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة، بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للعوامل والوسائل العسكرية والصلبة.

هذه الحرب كائنة فعلًا، والعالم ليس مسير سوى بهذه الحروب الفكرية، والتي يعتقد البعض أن هذا مبالغات، ولكن الحقيقة أن هذا ليس مبالغة؛ بل واقع نعيشه في كل شيء في حياتنا، وكونك لا تعلمه هو بالحقيقة ذكاء من الآخرين أن تظل لا تعلم شيء عن الحرب الفكرية والتأثير النفسي، وتظل مغيب وغير واعي لأي شيء سوى حياتك التي لا تتجاوز بضعة سنوات وحفنة أماكن والقليل من الأشخاص.

وعندما نتحدث عن قوة ناعمة إنما نتحدث عن مشروعٍ احتلالي معاصر، اختار القوة الناعمة المقابلة للقوة الصلبة (العسكرية)، لعجزه عن الوصول إلى أهدافه عن طريق القوة الصلبة، أو لتخفيف التكلفة الباهظة المترتبة عليها.

وقد لجأ إلى القوة الناعمة ليخرِّب من داخلنا، وليسقطنا من داخلنا بأيدينا وأدواتنا، من دون أن نلتفت في كثير من الأحيان إلى ما يحصل؛ بل نعيش أحيانًا حالة الغبطة بما يحصل، يترافق ذلك مع تعديل القيم التي يريدون تأسيسنا عليها لتسود قيمهم، ثم نندفع بشكل طبيعي وعادي لتصديقها وتنفيذها، فيتعدّل سلوكنا تبعًا لها، فنتحول أتباعًا بدل أن نكون مستقلين وأصحاب قرار.

وقد تحدث مبكرًا عن هذا الموضوع أحد أبرز مفكري وعالم من علماء المسلمين فقال: مراكز الفساد الكثيرة التي أوجدوها، لنشر الفساد والدعارة ولإفساد الشباب، لم تظهر بلا غاية.

لقد قاموا بإعلامٍ مكثَّف لهذا الأمر، فسخَّروا مجلَّاتهم ووسائلهم الإعلامية السمعية منها والبصرية خدمةً لهذا الأمر، الإذاعة والتلفزة، والوسائل السمعية والبصرية، كانت تدأب على جذب الشباب من الأسواق ومن الصحاري التي يعملون فيها، ومن الدوائر التي يخدمون فيها، إلى مراكز الفساد تلك؛ لكي يصنعوا من الجامعي إنسانًا فاسدًا، ويجعلوا من الموظف موجودًا فاسدًا. 

وهذه الحرب تستخدم الأساليب الشيطانية والابليسية التي ذكرها القرآن الكريم: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر: 39- 40]، أي الوسوسة والإفساد والإغواء، فالإنسان خُلق حسيًا أكثر منه عقليًا، ولذلك هو يتأثر بالأمور المادية والإغراءات والغواية، وفي أحيانٍ كثيرة يبدو العقل وكأنَّه قد تعطَّل، مع أنه يعمل، ولكنَّ مؤثرات الجسد تسيطر في كثير من الحالات على منطق العقل.

فالشيطان لا يقوم بعمل عسكري، ولا يقوم بعمل مادي مباشر، فكل أعماله تدور حول التدليس والزينة والوسوسة، ويتحمل الناس مسؤولية الاختيار بأعمالهم، حيث يكون تأثيره على الذين يستجيبون له، والذين يتولونه والذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم كما قال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53]، فلا بدَّ من وجود قابلية عند المتلقي، كي يتأثر بهذه التوجيهات والإغراءات التي يقوم بها إبليس (لعنه الله) (1).

إنها حرب عقائدية وفكرية، تستقطب كافة القدرات والعقليات؛ لزعزعة الثوابت العقائدية، وخلخلة الأمن الفكري عند الشباب، وللأسف فإن تلك الحرب نجحت نجاحًا كبيرًا في التسلل إلى شريحة من شبابنا، في ظل غفلتنا وتساهلنا.

لقد شُغل أهل الفكر ونُخب المثقفين والدعاة عن هموم الشباب؛ وخصوصًا أسئلتهم الحرجة والذكية، بصراعات ومعارك داخلية، فتَّت في اللحمة الفكرية، وشككت الشباب في قيمهم ورموزهم، كما حصل في المواجهات التي دارت بين بعض طلاب العلم في الفترة الماضية حول مسائل منهجية تتعلق بمسيرة الدعوة إلى الله، أكثرها مما يقبل الاجتهاد والتأويل.

لقد أنتجت تلك المعارك ضحايا، وبأشكال مختلفة، وخرَجت من تحت عباءتها تياراتٌ جديدة، نفضت عنها غبار وأنقاض تلك المعارك؛ كالعقلانية الإسلامية، والإصلاحية التنويرية، والليبرالية الإسلامية، كما يسميها البعض، لقد كان أغلب هؤلاء هم من أبناء الصحوة السابقين، والذين أرادوا أن يُبينوا عن سخطهم على ما حدث -بالإضافة إلى أسباب أملتْها طبيعة المرحلة- بانتحال تلك الأشكال الجديدة للتصحيح، مع بقاء بعضهم في الأغلب -محسنين الظن- داخل إطار المبادئ الكلية للإسلام.

وأنتج الوضع الجديد معركةً جديدة بين التقليديين -كما يحلو للبعض أن يسميهم- وبين فريق التنويريين والعقلانيين والليبراليين الإسلاميين -كما يصفون أنفسهم- وتمحور الصراع حول شرعية مبادئ الحرية، والديمقراطية، والعدالة، والأنسنة، والمجتمع المدني، والموقف من الآخر، مع رفع الفريق الثاني شعارَ التمسك بالأصول والثوابت، كما يفهمها هو.

وقد استنـزف هذا الصراع قدراتِ الطرفين، وهممَه وجهودَه، وضم فريق شعارات التنوير أطيافًا عديدة ومختلفة ومتناقضة من اليمين إلى اليسار، وربما استقوى في ذلك بأطراف خارجية، حتى وصل الحال بقلة منهم إلى الخروج من الدائرة بشكل كلي، وإعلانه الانسلاخ من كل ما يمت إلى الأمة من مقدساتٍ وثوابتَ.

وفي موازاة تلك التيارات التنويرية وما رافقها من نقد وانتقاد، كان هناك تيار آخر يتشكل في ضوء الوضع الجديد، وهو تيار شبابي حديث، منقطع عن الجذور، ومتمرد على التصورات التقليدية والتنويرية، منكر للرب، هاجر للعبادات، ويقتات على النقد والصراع الجديد بين ما يُسمى بالمحافظين والليبراليين الجدد، وتجاوزت ذلك -بفضل التقنيات الحديثة، وإجادة اللغات الأجنبية، والابتعاث- إلى الارتكاز والتمحور حول الروايات الأجنبية بمختلف أشكالها، والكتب الفلسفية، وأطروحات المذاهب الفكرية الحديثة، فأنتج ذلك المخاض جيلًا شبابيًّا منقطع الانتماء والجذور عن مجتمعه، يحمل ثقافة مستوردة، قائمة على الشك، وناقمة على الثقافة المحلية، وحاقدة ومبغضة للنمطية، تتخذ النسبية دينًا، ولا تعترف بوجود حقائق ثابتة، كل ذلك مع ضعفٍ شديدٍ في التصورات الشرعية.

ومما زاد الأمرَ سوءًا، عند هؤلاء الشباب، أمران:

الأول: الحملة المحمومة في وسائل الإعلام على المتدينين، وعلى أنماط التدين، تلك الحملة الشاملة في الصحف والقنوات والمسلسلات، والتي تناولت الدين والمتدينين دون معرفة دقيقة أو تمييز، ودون حسبان للجوانب السيئة والنتائج الخطيرة التي سوف تنتجها حملة التشكيك والتشويه، مع أمنٍ مِن محاسبٍ ورقيب.

لقد ربطوا مظاهر الدين والتدين في تعاطيهم معها -يُظن أنها مقصودة ومدروسة- بالإرهاب، والعنف والتطرف، وسوء الأخلاق، والغباء، والجهل، والتدمير.

لقد كانت حملة مركزة، وجرعة قاتلة، حطمت إلى حد كبير أسس القوة الناعمة (أي قوة القيم والمبادئ وأسسها الفكرية) التي كان المجتمع يتحلى بها.

الثاني: ممارسات منحرفة حملت بصمة التدين؛ كما فعلت الفئة الضالة في ترهيب المجتمع، بالإضافة إلى تصرفات كثيرٍ من المتدينين -على الأقل في الظاهر- والتي تحلت بالقسوة والخشونة في التعامل مع الآخرين، والتحزبات والتكتلات داخل مجتمع المتدينين، ووُجِدَ منهم مَن انبرى لتصنيف الناس، وكأنهم قضاة في محاكم للتصنيف، كل ذلك أدى -إلى حد كبير- إلى تحطيم لحمة البناء الداخلي وتصدُّعه، وخروج تلك الصراعات القاسية والخشنة للعلن، وتجاوزت دائرتَها الضيقة وانتقلت إلى عامة الناس، وتعصب بعض طلاب العلم لبعض العلماء ضد البعض الآخر، وازدادت الشُّقة، واتسعت الهوة بين العلماء أنفسهم وأتباعهم من طلبة العلم.

نشأ وترعرع هذا الجيل الجديد في هذه البيئة التنازعيَّة القلقة، وأضحى الواقع يفرز -بطريقة مقصودة وغير مقصودة- شبابًا لا يؤمن بثوابته؛ بل يزدريها ويحاربها، وقد ظهر شيء من آثاره من خلال الروايات التي تُطرح بين حين وآخر، ومن خلال اللقاءات التلفزيونية والكتابات الحادة -والتي تصل إلى الإلحادية- والتي تنقلها لنا الشبكة العنكبوتية ومنتديات الإنترنت، التي تزعم أنها إسلامية (2).

ثانيًا: الفــرق بين الحرب الناعمة والحرب النفسية والدعاية:

تركِّز الحرب الناعمة بأساليبها على الاستمالة والإغواء والجذب، من دون أن تظهر للعيان، ومن دون أن تترك أي بصمات، في حين تركِّز الحرب النفسية والدعاية على إرغام العدو وتدمير إرادته ومعنوياته بصورة شبه مباشرة وعلنية.

فالحرب الناعمة تستهدف الجميع، وفي كل الأوقات، وبوسائل متنوعة جدًا، وبجاذبية.

أما الحرب النفسية فتتجه لإضعاف الرأس والقدرة والحكام والموجهين وتماسك الجماعة، على قاعدة أنها إذا أضعفتهم أسقطتهم فيسهل التأثير على الناس، فلا يبقى للجماعة قائد مؤثر، ويسقط القائد عند جماعته، ولا يصمد الحاكم أمام الضغوطات فيفشل في توجيه الرعية التي تتخلى عنه، وهكذا.

هذا الفرق هو الذي يُظهر لنا كم هي قدرة القوة الناعمة على أن تدخل إلى كل تفاصيل حياتنا بدءًا من الأطفال وانتهاء بالشيوخ من دون تمييزٍ بين الرجال والنساء.

أساليب الحرب الناعمة:

أما أساليب وتكتيكات الحرب النفسية المعروفة تاريخيًا فنورد أمثلة عليها:

الدعاية ضد معتقدات الخصم، الإشاعة، بث الرعب، الخداع، افتعال الأزمات، إثارة القلق، إبراز التفوق المادي والتقني والعسكري، التقليل من قوة الخصم والعدو، التهديد والوعيد، الإغراء والإغواء والمناورات، الاستفادة من التناقضات والخلافات، الضغوطات الاقتصادية، إثارة مشاعر الأقليات القومية والدينية، الاغتيالات، تسريب معلومات عسكرية وأمنية وسياسية حساسة عن العدو في الصحافة، الإفصاح عن امتلاك نوعية خاصة من الأسلحة الفتاكة، وغيرها من الوسائل طابعها العام عسكري أو شبه عسكري.

في حين تعتمد الحرب الناعمة على نفس الأهداف مع اختلاف التكتيكات التي أصبحت تكتيكات ناعمة، فبدلًا من تكتيكات التهديد تعتمد الحرب الناعمة على الجذب والإغواء عبر لعب دور المصلح والمنقذ، وتقديم النموذج الثقافي والسياسي وزرع الأمل بأن الخلاص في يد أميركا، المانحة لحقوق الإنسان والديمقراطية وحريات التعبير، وما شاكل من عناوين مضللة للعقول ومدغدغة للأحلام وملامسة للمشاعر.

وفي التقييم والتشخيص نستنتج بعد المقارنة والمطابقة بين الحرب النفسية والحرب الناعمة أنهما يسيران على نفس الخط في الأهداف، ويتعاكسان في الوسائل والأساليب، فيتفقان ويشتركان في الهدف لجهة قصد تطويع إرادة العدو (الدول والنظم والشعوب والجيوش والرأي العام والمنظمات والجماعات) ولكنهما يختلفان ويتعاكسان في الوسائل والأساليب.

 فكل ما هو من الإرغام والضغط والفرض بوسائل أكثر صلابة دون أن تصل لمستوى الوسائل العسكرية هو من الحرب النفسية (خطابات عالية النبرة وتهديدات وعروض عسكرية وشائعات واغتيالات وحرب جواسيس) وكل ما هو من جنس الاستمالة والجذب والإغواء الفكري والنفسي بوسائل أكثر نعومة (أفلام وأقراص ممغنطة وصفحات فيس بوك ومسلسلات ورسائل نصية) يدخل في تعريف الحرب الناعمة.

ثالثًا: موارد ومصادر الحرب الناعمة:

ومن أجل تحقيق أهدافها، تستفيد القوة الناعمة من كل المؤثرات والرموز البصرية والإعلامية والثقافية والأكاديمية والبحثية والتجارية والعلاقات العامة والدبلوماسية.

وقد حدد جوزيف ناي المنظر الأول لمصطلح القوة الناعمة الموارد بثلاثة محاور:

• القيم والمؤسسات الأميركية.

•  جاذبية الرموز الثقافية والتجارية والإعلامية والعلمية الأميركية.

• وصورة أميركا وشرعية سياساتها الخارجية وتعاملاتها وسلوكياتها الدولية.

كما حدد ناي مصادر القوى الناعمة بأنها: مصانع هوليـود وكل الإنتاج الإعلامي والسينمائي الأميركي، الطلاب والباحثين الأجانب الوافدين للدراسة في الجامعات والمؤسسات التعليمية، ورجال الإعمال الأجانب العاملين في السوق الأميركي وقطاع الأعمال، شبكات الانتــــرنت والمواقع الأميركية المنتشرة في الفضاء الالكتروني، برامج التبادل الثقافي الدولي والمؤتمرات الدولية التي ترعاها وتشارك في تنظيمها أميركا، الشركات الاقتصادية العابرة للقارات، الرموز والعلامات التجارية مثل كوكا كولا وماكدونالدز وغيرها.

وبالإجمال ترتكز القوة الناعمة على كل المؤثرات الإعلامية والثقافية والتجارية والعلاقات العامة، وكل مورد لا يدخل ضمن القدرات العسكرية المصنفة ضمن القوة الصلبة (3).

دور العلماء في صيانة عقول الشباب:

مما يحزنني حزنًا شديدًا، أنه حينما يسعى بعض العلماء لتنبيه العلماء وطلاب العلم إلى وجود تلك الحالات، وما يترتب على انتشارها من خطر، في ظل غياب دورهم المهم في دفعه، يُواجَهون -للأسف- ببرود وتجاهل، وتكرار عبارة: نحن بلد مسلم.

هذا صحيح، لكننا نتعاطى مع بشر، ومع شبابٍ ومراهقين، قد طمعت فيهم الجهات المشبوهة، والمنظمات الدولية، وربما بعض (الطوائف والفرق)، وغفل عنهم الرقيب، وغاب المثال الصالح، وتصارعت الأفكار أمامهم، وتساقطت الرموز، وقَصَفَتْ عقولَهم الأفكارُ الخارجية، مع لين العود، وحداثة السن، وقلة المحصول الشرعي، فماذا تنتظرون من هؤلاء؟

إن الأفكار عند هؤلاء الشباب الطريين تبدأ بشكل وساوس عابرة، ومع تجاهلنا لهم، بل وخوفهم منا، تزداد تلك الوساوس والإيرادات، لتصبح إرادات، ثم اعتقادات راسخة.

والحديث هنا ليس عن بعض الكتبة المفتونين؛ من أرباب الشهوات وطالبي الشهرة، الذين يُلبِسون شهواتِهم ونزواتهم لباسَ الفكر والفلسفة، وإنما حديثي عن شبابٍ نابهين صادقين مع أنفسهم، غير أن الحيرة تحيط بهم، وتزعزع تصوراتهم، وغالبًا ما يتصفون بالذكاء والنباهة، والرغبة في اقتحام كل مجالٍ فكريٍّ يشرعُ أمامهم، فورود الإشكالات الفكرية والشبهات العقدية على أمثال هؤلاء أصبح أمرًا مألوفًا في هذا العصر، يتعرض له المؤمن المثقف، فضلًا عن الشاب الغر السطحي، وإن من أقل واجبات العالم حمايةَ هذا الجيل من مخاطر تلك الأفكار المسمومة.

قال شيخ الإسلام ابن تيميه: وأما المؤمن المحض فيعرض له الوسواس، فتعرض له الشكوك والشبهات وهو يدفعها عن قلبه، فإن هذا لا بد منه (4).

لقد بيَّن ابن القيم أن الناس حينما تتخبطهم الشبهات والشكوك، وتحيط بهم الطوائف المتعددة والمختلفة، البعيدة عن الهدى، ويغيب العالم الرباني الذي يَهدي الناسَ إلى مسالك الأنوار، ولا يجدون من يُنقذهم منها؛ فإن عقولهم تضطرب بالشبهات، وتتأصل فيها، وخصوصًا الأذكياء.

يقول ابن القيم واصفًا واقعًا شبيهًا بما أتخوفه على شبابنا: فعظُمت البلية، واشتدت المصيبة، وصار أذكياء العالم زنادقةَ الناس، وأقربهم إلى التدين والخلاص أهل البلادة والبله (5).

هذه الكلمات من ابن القيم تُعد أمرًا عظيمًا يستحق التوقف عنده كثيرًا؛ من أجل رسم منهجية في التعامل مع العقليات الذكية والمتميزة، التي قد تنحرف بسبب الآراء الضالة -إرهابيةً كانت أم إلحادية- في ظل غياب الرموز والأعلام الهادية.

إن تقصير العلماء والدعاة اليوم كبيرٌ في دفع تلك الشبهات عن الشباب، وقد فقد كثير من الشباب ثقتَهم في بعض العلماء؛ لأن بعضهم يمثل بحد ذاته مشكلة في طريقة تعامله مع هؤلاء الشباب، وبعض آخر يمثل مشكلة أخرى أكبر بسبب الآثار المدمرة للصراع الداخلي الذي حصل ويحصل بينهم.

إن حاجة الناس في عصرنا الحاضر للعلماء وطلبة العلم، والمعالجة الناجعة لتلك المواضيع المتصلة بتلك الإشكالات الجديدة؛ حاجةٌ ملحة وضرورية، وهي معالجة يجب أن تتسم بالحكمة، واتباع النص، وموافقة العقل السليم، وإشباع رغبة النفس باليقين والاطمئنان.

قال ابن تيمية: ما عُلم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع ألبتة؛ بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، وقد تأملتُ ذلك في عامة ما تَنازع الناسُ فيه، فوجدت ما خالف النصوصَ الصحيحة الصريحة شبهاتٍ فاسدةً يُعلَم بالعقل بطلانها؛ بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع (6).

وقال: والقول كلما كان أفسد في الشرع، كان أفسد في العقل، فإن الحق لا يتناقض (7).

يا أيها العلماء الكرام، إن القنوات الفضائية المخالفة، والمواقع المعادية عقديًّا تشن حربًا لا هوادة فيها على الدين، وتواصل بثها للشبهات حول آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، وحول التفاسير، وتنشر ما علق بالتراث من الغث والضعيف، والموضوع والخرافي، زاعمةً أن هذا هو ديننا، وموردةً الشبهاتِ بوسائل حديثة، وتقنيات خطيرة.

والشباب كما هو معلوم، وهم الأكثرية الغالبة في مجتمعنا اليوم، وهم في الوقت نفسه الشريحة التي تدمن مطالعة الإنترنت (تشير الدراسات أن 90 % من متصفحي الإنترنت من الشباب) ومشاهدة القنوات؛ صاروا بهذا ضحية للشبهات السياسية والدينية.

ولا شك أن اهتزاز هذين الأمرين في الشريحة الشبابية، يعني تغيرات جذرية في الخارطة الفكرية بشقيها السياسي والديني لا قدر الله.

هذا هو الواقع، وهذه هي ضريبة التقنية، التي لا يمكن مواجهتها بالمنع، أو سياسة التكتم، أو وضع الرأس في التراب؛ بل لا بد من مواجهة الفكر بمثله؛ لمقاومته وصده، ولا بد من الاستفادة من التقنية؛ لكبح شر الجانب السلبي فيها أو تخفيفه.

إن سياسة التكتم أو المنع أو الحجب قلَّت فاعليتُها، وضعفت جدواها، وعُزلة العلماء وصدودهم لم يعد أمرًا مقبولًا، وتنازعهم فيما بينهم أصبح اليوم أكثر قبحًا ودمامة.

لقد أخذ الله على العلماء العهد والميثاق بالبيان والتوضيح للناس، توضيح أمر الدين الصحيح، والذب عنه وحراسته، ولا بد لهم من مواكبة الأحداث ومتابعة المستحدثات من الشبهات والرد عليها.

لقد سجل التاريخ الإسلامي أسماء رجال عظماء، واجهوا بالعلم والإيمان الطوفان الأول والطوفان الثاني، وسخَّرهم الله للوقوف في وجه تلك الفتن والتصدي لها، وحماية وحراسة العقول من الشبهات والشكوك.

ونحن في أمسِّ الحاجة في هذا العصر إلى رجال عظماء يواجهون بالعلم والإيمان والفكر السليم الطوفانَ الثالث، الذي بدأت تتشكل سحابته السوداء في الأفق، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة جدًّا لا قدر الله؛ لأن الطوفان الثالث يختلف كثيرًا عن السابقَيْنِ، كمًّا ونوعًا وتأثيرًا، ويختلف في أنه يُركز تركيزًا خطيرًا على قلب ومنبع ومصدر الإسلام، بلاد الحرمين الشريفين وأهلها، نسأل الله أن يحميها وجميع بلاد المسلمين (8).

وسائل المواجهة المضادة:

جدير بمن يعدون أنفسهم في عالمنا الإسلامي بأنَّهم الرؤوس العلمية والنخب الفكرية والمثقفة، أن يكون لهم دور كبير في حماية الشباب، واحتوائهم فيكونوا على ثغر كبير من ثغور الحماية لأرواح الشباب ومهجهم من الوقوع فيما لا يحمد عقباه، ومن هنا فإنِّي أزعم بأنَّ هناك ثلاثي خطير، أؤكد على ضرورة توجيه عقول الشباب نحوه، حتى لا يقتنصهم أهل الشر والفساد لإضلالهم، وهي:

- معرفة مصادر التلقي في العقول الإسلاميَّة وتحصين العقول بها.

- الولاء لدين الإسلام وتطويع الولاء لخدمة هذا الدين.

- تشجيع الشباب على حبِّ العلم والعمل معًا والنيل من معين المعرفة.

هذه ثلاثيَّة عامَّة أجد -بإذن الله تعالى- أنَّ التركيز عليها، سيثمر أرضيَّة خصبَّة، نجني منها ثمارًا يانعة، وعملًا بُنِيَ على قواعد إسلاميَّة خالصة.

 ففي القسم الأوَّل (معرفة مصادر التلقي في العقول الإسلاميَّة وتحصين العقول بها) وسيكون بهذا حماية للشباب من خطط مرسومة تجاههم، يستطيعون من خلالها بإذن الله أن تكون لهم معايير واضحة فيما لو أشكلت عليهم قضيَّة منهجيَّة، وبالطبع فإنَّه يدخل في ذلك عدة من القضايا التي من الضروري أن نستثمرها في صالح الشباب ومن ذلك:

(1) حثُّ الشباب على العناية بكتاب الله حفظًا وتأمُّلًا وعملًا.

(2) توثيق صلة الشباب بعلماء الأمَّة الربَّانيين والدعاة المصلحين.

(3) تنبيه الشباب على كثير من الخطط آثمة الصنع والمصنع، والتي منشؤها بالطبع فكري وأيديولوجي، التي تستهدفهم بدينهم وعقديتهم، وهي كثيرة للغاية وتحتاج لرصد وتتبع.

وأمَّا القسم الثاني: الولاء لدين الإسلام وتطويع الولاء لخدمة هذا الدين؛ فهذا الأمر يندرج تحته قضايا كثيرة، ومنها:

1- الاعتزاز بدين الإسلام، والارتفاع عن النظر لغيره من الأديان، إلا بنظرة الإشفاق عليهم، ومحاولة استخراجهم من ضلالات العمى، وانحراف الطريق.

2- الحذر من التشبه بالكفَّار، أو الإعجاب بهم بقيمهم، فإنَّ التشبه بهم هو المنزلق الأوَّل لبداية الانحراف، وتنكُّب منهج الولاء لهذا الدين، فحري أن يكون لدينا حرصًا وحماية لمظاهر تديُّننا، وعدم الانسياق والتبعيَّة الذليلة للتشبُّه بأعداء الدين، حتَّى لا نكون بهائم إنسانيَّة ونحن لا نشعر.

3- هناك روح جهاديَّة في الأمَّة المسلمة، حيث قامت هذه الأمَّة بتحطيم الأصنام، وتكسير الأوثان، وتعبيد الناس لدين الإسلام طوعًا -وإن لم يكن فالجزية أو القتال- هذه معالم من ديننا ينبغي ألا ننساها، أو أن يؤثِّر علينا بعض المنهزمين تجاه الغرب ونحن لا نشعر.

ومن هنا فإنَّ تربية الشباب على معاني الجهاد في سبيل الله، وأهميَّة الإعداد الكامل له، وذكر قصص المجاهدين، والاعتزاز بها، وتحديث النفس بالغزو، كلُّ هذه الأمور ملحٌّ طرقها في زمن الصراع الديني والحضاري، وإنَّ من صفات هذه الأمَّة أنَّ راية الجهاد قائمة فوق سنامها وأنَّه ماض إلى قيام الساعة، وأنَّ من صفات الطائفة المنصورة مواصلة المقاومة للكفرة المحتليَّن، وجهاد أعداء الدين، ولو كره الكافرون.

4- بذل الهمم في إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي أوصلها بعض العلماء إلى الركن السادس من أركان الإسلام، وخصوصًا أنَّ هذه الشعيرة العظيمة يقف لها الليبراليون بالمرصاد، ويرون أنَّه تدخل وتطفل، وأنَّه لكل حريَّته فليفعل ما يشاء، فلا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر.

5- تشجيع مقاطعة جميع المشروعات الإمبراطوريَّة الغربيَّة وخصوصًا الأمريكيَّة، وتجاهلها.

وفي القسم الثالث والأخير: تشجيع الشباب على حبِّ العلم والعمل معًا، والنيل من معين المعرفة، فإنَّ الشباب بحاجة إلى عناية ورعاية، واستثمار طاقاتهم وتوجيهها للإنتاج، وحثهم على السعي والدأب لمواصلة السير في طريق العلم، والنهل من معين المعرفة، وضخّ ما تعلَّموه في قنوات الإصلاح، وطرق الخير، لينتشر العلم والعمل معًا على أيدي الشباب (9).

------------

(1) تعريف الحرب الناعمة ومصادرها ومواردها/ هيئة علماء بيروت.

(2) عقولنا تحت القصف/ صيد الفوائد.

(3) تعريف الحرب الناعمة ومصادرها ومواردها/ هيئة علماء بيروت.

(4) شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 182).

(5) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 253).

(6) درء تعارض العقل والنقل (1/ 147).

(7) منهاج السنة النبوية (1/ 300).

(8) عقولنا تحت القصف/ صيد الفوائد.

(9) المخطَّط الغربي الاستراتيجي تجاه العالم الإسلامي/ صيد الفوائد.