ولكن الله يهدي من يشاء
لكل أمة قائد يدعوهم إلى سبل الخير، فطره الله على سلوك طريقه بما أودع فيه من الاستعداد له بسائر وسائله، وقد شاء أن يبعث هؤلاء الهداة في كل زمان كي لا يترك الناس سدى، وأولئك هم الأنبياء الذين يرسلهم لهداية عباده، فإن لم يكونوا فالحكماء والمجتهدون، الذين يسيرون على سننهم، ويقتدون بما خلفوا من الشرائع وفضائل الأخلاق وحميد الشمائل(1).
يجب على كل داعية أن يبذل جهده في الدعوة إلى الله، وإرشاد من يدعوهم إلى طريق الله المستقيم، أما الهداية والنتائج فهي على الله تعالى وحده، فقد أمر الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67].
ثم بين له أن مهمته هي التبليغ فقط، أما الهداية فهي على الله وحده فقال: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة:272].
وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس:99].
ولو شاء ربك لخلق هذا الجنس البشري خلقة أخرى، فجعله لا يعرف إلا طريقًا واحدًا هو طريق الإيمان؛ كالملائكة مثلًا، أو لجعل له استعدادًا واحدًا يقود جميع أفراده إلى الإيمان.
ولو شاء كذلك لأجبر الناس جميعًا وقهرهم عليه، حتى لا تكون لهم إرادة في اختياره.
ولكن حكمة الخالق، التي قد ندرك بعض مراميها وقد لا ندرك، دون أن ينفي عدم إدراكنا لها وجودها، هذه الحكمة اقتضت خلقة هذا الكائن البشري باستعداد للخير وللشر، وللهدى والضلال، ومنحته القدرة على اختيار هذا الطريق أو ذاك، وقدرت أنه إذا أحسن استخدام مواهبه اللدنية، من حواس ومشاعر ومدارك، ووجهها إلى إدراك دلائل الهدى في الكون والنفس، وما يجيء به الرسل من آيات وبينات، فإنه يؤمن ويهتدي بهذا الإيمان إلى طريق الخلاص، وعلى العكس حين يعطل مواهبه ويغلق مداركه ويسترها عن دلائل الإيمان يقسو قلبه، ويستغلق عقله، وينتهي بذلك إلى التكذيب أو الجحود، فإلى ما قدره الله للمكذبين الجاحدين من جزاء.
فالإيمان إذن متروك للاختيار، لا يكره الرسول عليه أحدًا؛ لأنه لا مجال للإكراه في مشاعر القلب وتوجهات الضمير: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وهو سؤال للإنكار، فإن هذا الإكراه لا يكون: {وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} [يونس:100]، وفق سنته الماضية التي بيناها، فلا تصل إلى الإيمان وقد سارت في الطريق الآخر الذي لا يؤدي إليه، لا أنها تريد الإيمان وتسلك طريقه ثم تمنع عنه، فهذا ليس المقصود بالنص.
بل المقصود أنها لا تصل إلى الإيمان إلا إذا سارت وفق إذن الله وسنته في الوصول إليه، من طريقه المرسوم بالسنة العامة، وعندئذ يهديها الله ويقع لها الإيمان بإذنه، فلا شيء يتم وقوعه إلا بقدر خاص به، إنما الناس يسيرون في الطريق، فيقدر الله لهم عاقبة الطريق، ويوقعها بالفعل جزاء ما جاهدوا في الله ليهتدوا(2).
إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله، ولو كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه من أمر الله وحده، فهذه القلوب من صنعه، ولا يحكمها غيره، ولا يصرفها سواه، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله، وما على الرسول إلا البلاغ.
فأما الهدى فهو بيد الله، يعطيه من يشاء، ممن يعلم سبحانه أنه يستحق الهدى، ويسعى إليه.
وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر، يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حس المسلم؛ ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده، ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم ويعطف عليهم، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدى، وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد(3).
عن المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله»، فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة، حتى كان آخر ما قال: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله، لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك»، فأنزل الله تعالى: {مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113]، وأنزل في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [القصص:56](4).
وعن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عماه، قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة»، فقال: لولا أن تعيرني بها قريش، يقولون: ما حمله عليها إلا جزع الموت لأقررت بها عينك، لا أقولها إلا لأقر بها عينك، ونزل قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56](5).
فأخرج هذا الأمر، أمر الهداية، من حصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله خاصًا بإرادته سبحانه وتقديره، وما على الرسول إلا البلاغ، وما على الداعين بعده إلا النصيحة، والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن، والهدى والضلال وَفق ما يعلمه من قلوب العباد واستعدادهم للهدى أو للضلال(6).
لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أشد الناس على المسلمين، حتى إنهم قالوا: لن يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب، ولكن عمر رضي الله عنه أسلم من حيث لا يتوقع أحد؛ لأن الهداية جاءته من الله تعالى.
قال الحسن: «والله، ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها».
وقال وهب بن منبه: «قرأت في سبعة وثمانين كتابًا مما أنزل الله على الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر»، وفي التنزيل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [الأنعام:111]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} [يونس:100]، والآي في هذا كثير، وكذلك الأخبار، وأن الله سبحانه هدى بالإسلام، وأضل بالكفر(7).
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء إلى الخير بمسئولين عنه؛ بل على الداعي بذل جهده، وما عليه إذا لم يصغ المدعو إلى الدعوة، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [القصص:56](8).
إن الأمة المسلمة هي حزب الله، ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان، ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن؛ لأنه لا اشتراك في عقيدة؛ ومن ثَمَّ لا اشتراك في هدف أو وسيلة، ولا اشتراك في تبعة أو جزاء.
وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها، وأن تتناصح وتتواصى، وأن تهتدي بهدى الله، الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها، ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئًا أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى.
ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى، والهدى هو دينها هي، وشريعتها ونظامها، فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة، وأن تحاول هدايتهم، وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم، ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم.
إن كون الأمة المسلمة مسئولة عن نفسها أمام الله، لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولًا، ثم في الأرض جميعًا، وأول المعروف الإسلام لله، وتحكيم شريعته، وأول المنكر الجاهلية، والاعتداء على سلطان الله وشريعته، وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه، والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولًا، وعلى البشرية كلها أخيرًا.
وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية، كما فهم بعضهم قديمًا وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثًا، أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا اهتدى هو بذاته، ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض إذا هي اهتدت بذاتها وضل الناس من حولها.
إن هذه الآية لا تُسقِط عن الفرد ولا عن الأمةِ التبعةَ في كفاح الشر، ومقاومة الضلال، ومحاربة الطغيان، وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله، واغتصاب سلطانه، وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم.
ولقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه»(9).
وهكذا صحح الخليفة الأول رضوان الله عليه ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة، ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح؛ لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق، فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه!
وكلا والله! إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد، ولا يصلح إلا بعمل وكفاح، ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ولتقرير ألوهية الله في الأرض، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس، وإقامة الناس عليها، لا بد من جهد، بالحسنى حين يكون الضالون أفرادًا ضالين، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة، وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم(10).
ولقد أخبرنا الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم أن يوم القيامة يأتي نبي من الأنبياء وليس معه أحد؛ أي بالرغم من أنه ظل سنين طويلة يدعو قومه إلى عبادة الله، ولم يأْلُ جهده في ذلك؛ إلا أن إرادة الله شاءت أنه لم يؤمن بدعوته أحد، ومع ذلك لم يرد أنه قد تخلى عن الدعوة إلى الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عليَّ الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده»(11)، وفي رواية: «عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد»(12).
فإياك، أيها الداعية، إياك أن يتسلل اليأس إلى قلبك من إعراض الناس عنك، فقد أُمرت بالتبليغ، وأما الهداية فإنها من الله وحده.
أنواع الهداية:
الهداية لها أنواع كثيرة، منها:
هداية عامة للكون جميعًا، وهي الهداية العامة، فقد خلق الله الكون وهداه إلى ما ينظم به حياته، قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى:1–3]، وقال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
والنوع الثاني من أنواع الهداية: هداية البيان والإرشاد والدلالة، فقد أنزل الله عز وجل الكتب وأرسل الرسل لتبين للناس وترشدهم، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]؛ أي: أما ثمود فبينا لهم وأرشدناهم ونصحناهم إلى طريق الهداية، وميزنا لهم بين الضلال والحق، ولكنهم تركوا الحق واختاروا الضلال.
وهداية البيان والإرشاد ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم كما أنها ثابتة لله عز وجل، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]؛ أي: إنك لتبين وترشد إلى الصراط المستقيم، وإلى طريق الصالحين.
النوع الثالث من أنواع الهداية: هداية التوفيق؛ أي: توفيق العبد إلى طريق الهدى، فهذه الهداية متعلقة بإرادة الله عز وجل وحده، وليس لأحد فيها نصيب ولا حتى الأنبياء، فقال الله عز وجل: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93].
ومن هذه الهداية تحبيب الإيمان وتزيينه في قلوب المؤمنين، وهذه الهداية منفية عن جميع الخلق، حتى عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما قلت، قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
وهداية التوفيق متعلقة بالله عز وجل دون أحد من خلقه، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، وقال الله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ}، وهذا الكلام موجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37]؛ يعني: رغم حرصك يا محمد صلى الله عليه وسلم على هداية هؤلاء، فإن الله تعالى لا يهدي من كتب عليه الضلال، وعلم أنه سيختار الضلال في الأزل.
النوع الرابع من أنواع الهداية: هداية المؤمنين إلى الجنة، والكافرين إلى النار، قال الله تعالى عن المؤمنين بعد دخولهم الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:43]، فهذا إقرار واعتراف بأن الهادي إلى الجنة هو الله عز وجل، قال: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف:43](13).
العبد مطالب بالأخذ بأسباب الهداية، مُطالَب بالصبر والثبات والبدء بطريق الاستقامة، فقد وهبه الله عز وجل عقلًا منيرًا، وإرادة حرة، يختار بها الخير من الشر، والهدى من الضلال، فإذا بذل الأسباب الحقيقية، وحرص على أن يرزقه الله الهداية التامة جاءه التوفيق من الله تعالى، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:153].
الهدى اختيار شخصي، فالإنسان إن لم يقبل الهدى، فلو جلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو جلس مع الأنبياء عليهم السلام جميعًا، ولو رأى كل المعجزات، ولو رأى رجلًا خرج من القبر وأخبره، ولو رأى هذا الكتاب نزل من السماء إن لم يختر الهدى، وإن لم يطلب الهدى، لا تجدي معه كل الأدلة والبراهين وأنواع البيان، ولا المعجزات ولا الكرامات، لا أي شيء آخر، أما لو أراد الهدى وطلبه فأي شيء في الأرض ينتفع به، فالطير يعلمه، والنملة تعلمه، والنصيحة يأخذ بها، والآية يتفاعل معها، والحديث يخضع له، فهناك قرار يتخذه الإنسان في أعماقه، إن لم يتخذه في أعماقه لا ينفعه شيئًا، وإن اتخذه ينفعه كل شيء، فهل في الأرض كلها إنسان أجدر وأقوى بقوة تأثيره من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمه أبو لهب هل آمن به؟ وأبو جهل هل آمن به؟ قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
فأي إنسان أراد الهداية يهديه الله تعالى، فقوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} تعود على من أراد الهداية(14).
***
________________
(1) تفسير المراغي (13/ 73).
(2) في ظلال القرآن (3/ 1822).
(3) المصدر السابق (1/ 314).
(4) أخرجه البخاري (1360)، ومسلم (24).
(5) أخرجه الترمذي (3188).
(6) في ظلال القرآن (5/ 2703).
(7) تفسير القرطبي (19/ 243).
(8) التحرير والتنوير (7/ 76).
(9) أخرجه ابن ماجه (4005).
(10) في ظلال القرآن (2/ 993).
(11) أخرجه البخاري (6541).
(12) أخرجه مسلم (549).
(13) شرح صحيح مسلم، لأبي الأشبال (76/ 18).
(14) تفسير الآية 56 من سورة القصص، موسوعة النابلسي للعلوم الإسلامية.