اتهموا الرأي
ثبت عن الصديق رضي الله عنه أنه قال: «أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت على الله ما لا أعلم»(1)
وعن عمر بن الخطاب قال: «اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهادًا إليه، ما آلو عن الحق، والكتاب يكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل بن عمرو: (إذن قد صدقناك بما تقول، ولكنا نكتب كما نكتب: باسمك اللهم)، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت عليهم، حتى قال لي رسول الله: (ترى أني قد رضيتُ وتأبى؟)، فرضيت»(2).
يعني: يحذر المسلمين من أن يقابلوا أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام وخبر الله وخبر رسوله بالتكذيب، فيجب على المسلم أن يسلم لأمر الله ورسوله عليه السلام، ولا يكون له الخيرة في أمره إذا قضى الله ورسوله أمرًا، فيقول للصحابة: خذوا درسًا وعبرة من موقفي هذا.
وعن علي رضي الله عنه قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه»(3).
وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار»(4).
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: «يا أيها الناس، اتهموا رأيكم على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه لرددته، وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه، غير هذا الأمر»، وقال أبو وائل: «شهدت صفين وبئست صفون»(5).
قال المهلب: «قوله: (اتهموا رأيكم)؛ يعني: في هذا القتال، يعظ الفريقين؛ لأن كل فريق منهم يقاتل على رأي يراه، واجتهاد يجتهده، فقال لهم سهل: اتهموا رأيكم، فإنما تقاتلون في الإسلام إخوانكم برأي رأيتموه، فلو كان الرأي يقضي به لقضيت يوم أبي جندل برد أمر النبي يوم الحديبية، حين قاضى أهل مكة أن يرد إليهم من فر إلى النبي من المسلمين، فخرج أبو جندل يستغيث يجر قيوده، وكان قد عذب على الإسلام.
فقال سهيل، والد أبي جندل: (هذا، يا محمد، أول ما أقاضيك عليه)، فرد إليه أبا جندل، وهو ينادي: (أتردونني إلى المشركين وأنا مسلم، وترون ما لقيت من العذاب في الله؟)، وقام سهيل إلى ابنه بحجر فكسر فمه، فغارت نفوس المسلمين حينئذ، وقال عمر: (ألسنا على الحق؟)، ولذلك قال سهل: (ولو أستطيع أن أرد أمر النبي لرددته).
وقوله: (فما وضعنا سيوفنا)، يعني: ما جردناها في الله لأمر فظيع علينا عظيم إلا أسهلت بنا سيوفنا، وأفضت بنا إلى السهل من أمرنا، غير هذا الأمر، يعني: أمر الفتنة التي وقعت بين المسلمين في صدر الإسلام؛ فإنها لم تتبين السيوف فيها الحقيقة؛ بل حلت المصيبة بقتل المسلمين، فنزع السيف أولى من سله في الفتنة»(6).
وأما ما أخرجه البيهقي عن عمر قال: «إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي؛ فضلوا وأضلوا»، فظاهر في أنه أراد ذم من قال بالرأي مع وجود النص من الحديث، لإغفاله التنقيب عليه، فهلا يلام، وأولى منه باللوم من عرف النص وعمل بما عارضه من الرأي وتكلف لرده بالتأويل، وإلى ذلك الإشارة بقوله في الترجمة وتكلف القياس، والله أعلم.
وقال ابن عبد البر في «بيان العلم»، بعد أن ساق آثارًا كثيرة في ذم الرأي ما ملخصه: «اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذم في هذه الآثار، مرفوعها وموقوفها ومقطوعها، فقالت طائفة: هو القول في الاعتقاد بمخالفة السنن؛ لأنهم استعملوا آراءهم وأقيستهم في رد الأحاديث، حتى طعنوا في المشهور منها الذي بلغ التواتر؛ كأحاديث الشفاعة، وأنكروا أن يخرج أحد من النار بعد أن يدخلها، وأنكروا الحوض والميزان وعذاب القبر، إلى غير ذلك من كلامهم في الصفات والعلم والنظر.
وقال أكثر أهل العلم: الرأي المذموم، الذي لا يجوز النظر فيه ولا الاشتغال به، هو ما كان في نحو ذلك من ضروب البدع، ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال: (لا تكاد ترى أحدًا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل).
وقال جمهور أهل العلم: الرأي المذموم في الآثار المذكورة هو القول في الأحكام بالاستحسان، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصول السنن، وأضاف كثير منهم إلى ذلك من يتشاغل بالإكثار منها قبل وقوعها؛ لما يلزم من الاستغراق في ذلك من تعطيل السنن.
وقوى ابن عبد البر هذا القول الثاني، واحتج له ثم قال: ليس أحد من علماء الأمة يثبت عنده حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ثم يرده إلا بادعاء نسخ، أو معارضة أثر غيره، أو إجماع، أو عمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك بغير ذلك لسقطت عدالته فضلًا عن أن يتخذ إمامًا، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك، ثم ختم الباب بما بلغه عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد المشهور قال: ما أحدث أحد في العلم شيئًا إلا سئل عنه يوم القيامة؛ فإن وافق السنة سلم وإلا فلا»(7).
آفةٌ خطيرة جدًا أن يكون الرأي هو الدين، أن يحتكم الإنسان إلى رأيه وعقله لا إلى وحي ربِّه؛ بل إن الفتنة الكُبرى التي يتعرَّض لها المسلمون، مِن عهد النبي عليه الصلاة والسلام وإلى يوم القيامة؛ أن يبحثوا عن بديل الوحيين (الكتاب والسُنَّة).
والرأي إذا كان مستندًا إلى أصل من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو المحمود، وإذا كان لا يستند إلى شيء منها فهو المذموم.
وحديث سهل بن حنيف وعمر بن الخطاب وإن كان يدل على ذم الرأي لكنه مخصوص بما إذا كان معارضًا للنص؛ فكأنه قال: اتهموا الرأي إذا خالف السنة كما وقع لنا، حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحلل فأحببنا الاستمرار إلى الإحرام، وأردنا القتال لنكمل نسكنا ونقهر عدونا، وخفي عنا حينئذ ما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم مما حمدت عقباه.
وعمر هو الذي كتب إلى شريح القاضي: «انظر ما تبين لك من كتاب الله فلا تسأل عنه أحدًا، فإن لم يتبين لك من كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يتبين لك من السنة فاجتهد فيه رأيك».
وقال في آخره: «اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك».
فهذا عمر أمر بالاجتهاد، فدل على أن الرأي الذي ذمه ما خالف الكتاب أو السنة، وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن مسعود نحو حديث عمر، وقال في آخره: «فإن جاءه ما ليس في ذلك فليجتهد رأيه، فإن الحلال بَيِّنٌ والحرام بين، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك»(8).
قال المهلب وغيره: «إذا كان الرأي والقياس على أصل من كتاب الله وسنة رسول الله أو إجماع الأمة فهو محمود، وهو الاجتهاد والاستنباط الذى أباحه الله للعلماء، وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف المنهي عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول؛ لأن ذلك ظن ونزغ من الشيطان، والدليل على صحة هذا قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].
قال ابن عباس: (لا تقل ما ليس لك به علم)، وقال قتادة: (لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، وأصل القفو الْعَضْهُ والبهت، فنهى الله عباده عن قول ما لا علم لهم به، فإنه سائل السمع والبصر والفؤاد عما قال صاحبها، فتشهد عليه جوارحه بالحق، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقبض العلم بقبض العلماء؛ فيبقى ناس جهال فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون»(10)، ألا ترى أنه وصفهم بالجهل، فلذلك جعلهم ضالين هو خلاف الذين قال فيهم: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وأمر بالرجوع إلى قولهم.
قال الطبري: «وجه قولهما: (اتهموا الرأي) الذي هو خلاف لرأي رسول الله وأمره على الدين، الذي هو نظير آرائنا التي كنا خالفنا بها رسول الله يوم أبي جندل، فإن ذلك خطأ، فأما الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة فذلك هو الحق الواجب والفرض اللازم لأهل العلم، وبنحو هذا جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة الصحابة والتابعين، روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الأحزاب قال: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذُكِر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدًا منهم»(11).
وهذا الخبر نظير خبر سهل بن حنيف، ومن حرص يوم أبي جندل على القتال اجتهادًا منهم، ورسول الله يرى ترك قتالهم في أنه لم يؤثمهم كما لم يؤثم أحد الفريقين؛ لا الذين صلوا قبل وصولهم إلى بني قريظة؛ لأن معنى ذلك كان عندهم ما لم يخشوا فوت وقتها، وكذلك لم يؤثم أيضًا الذين لم يصلوا حتى فاتهم وقتها إلى أن صاروا إلى بني قريظة؛ لأن معنى أمره صلى الله عليه وسلم بذلك كان عندهم لا يصلوها إلا في بني قريظة، وإن فاتكم وقتها، فعذر كل واحد منهم لهذه العلة.
وأخبر أنه لما أعياهم حفظ سنن رسول الله قالوا بآرائهم وخالفوها، جهلًا منهم بأحكام رسول الله وسننه، وذلك هو الجرأة على الله بما لم يأذن به في دينه، والتقدم بين يدي رسول الله، فأما اجتهاد الرأي في استنباط الحق من كتاب الله وسنة رسوله فذلك الذي أوجب الله على العلماء فرضًا، وعمل به المسلمون بمحضر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعنفهم ولا نهاهم عنه؛ إذ كان هو الحق عنده والدين، واقتفى أثرهم فيه الخلف من بعدهم.
قال ابن مسعود: ومن عرض له منكم قضاء بما في كتاب الله، فإن جاء أمرًا ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن جاءه أمر ليس في سنة نبيه فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه ما ليس في ذلك فليجتهد رأيه، ولا يقل: إني أرى وإني أخاف، فإن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك(12).
وفي غزوة أحد كان في استطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة، التي تعرضت لها، وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب، والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها.
نقول كان في استطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها، لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة، مستندًا إلى رؤياه الصادقة، وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة ولم يستشر أصحابه، أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة، أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع، وقد خرج من بيته، فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد.
ولكنه، وهو يقدر النتائج كلها، أنفذ الشورى، وأنفذ ما استقرت عليه؛ ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية، وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي، وتبعة العمل؛ لأن هذا في تقديره صلى الله عليه وسلم، وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه، أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة، ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة، فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة، وحرمانها المعرفة، وحرمانها التربية، ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى، بعد المعركة كذلك، تثبيتًا للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة، فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية، وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية.
إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته، فهو يعلم أنها لن تستعد أبدًا لمزاولته إلا إذا زاولته فعلًا، وأن حرمانها من مزاولة مبادئ حياتها الأساسية؛ كمبدأ الشورى، شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله، وأن الأخطاء في مزاولته، مهما بلغت من الجسامة، لا تبرر إلغاءه؛ بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت؛ لأنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي، ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف؛ بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقًا، وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعالى، بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.
كما أن المزاولة العملية للمبادئ النظرية تتجلى في تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين، واعتباره هذا ترددًا وأرجحة؛ وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم، والشلل الحركي، فقال قولته التربوية المأثورة: «ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له»، ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [آل عمران:159]، فتطابق، في المنهج، التوجيه والتنفيذ(13).
فالغرور بالنفس يولد الإعجاب بالرأي، والكبر على الخلق، فيصر الإنسان على رأيه، ولو كان خطأً، ويستخف بأقوال الآخرين، ولو كانت صوابًا، فالصواب ما قاله، والخطأ ما قاله غيره، ولو ارعوى قليلًا واتهم نفسه وعلم أنها أمارة بالسوء لدفع كثيرًا من الخلاف والشقاق، ولكان له أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله تعالى له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، وإذا كانت صفة التواضع ولين الجانب من أوائل صفات المؤمنين، فإنها في حق من انتصب للعلم والدعوة والفتوى والتعليم أوجب وأكثر ضرورة وإلحاحًا(14).
الإعجاب بالرأي المذموم هو الذي يحمل صاحبه على الغرور وتسفيه آراء الآخرين، وإيثار الهوى على الهدى الذي يمنع من قبول الحق وإن كان واضحًا.
قال القاري: «أي من غير نظر إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة، والقياس على أقوى الأدلة، وترك الاقتداء بنحو الأئمة الأربعة.
والاعجاب هو وجدان الشيء حسنًا ورؤيته مستحسنًا بحيث يصير صاحبه به معجبًا، وعن قبول كلام الغير مجتنبًا، وإن كان قبيحًا في نفس الأمر.
وقال الطيبي: واعجاب المرء برأيه ألا يرجع إلى العلماء فيما فعل؛ بل يكون مفتي نفسه فيه»(15).
إن الإعجاب بالرأي ورفض آراء الآخرين أحد أسباب ما وصلت إليه الأمة اليوم من تخلف، وأحد أسباب ما وصلت إليه الأمة اليوم من مشاكل؛ بل وأصبح الإعجاب بالرأي والتعصب له أحد المعوقات لحل هذه المشاكل، إنه الشعار الفرعوني الذي عبر عنه القرآن الكريم، قال الله تعالى على لسان فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، إنها منتهى الغطرسة والغرور، عندما يرى فرعون ألا رأي إلا رأيه، فما يقوله هو الصواب، وما يقوله الآخرون هو الخطأ بعينه.
بل إن مرض الإعجاب بالرأي يكون أشد خطرًا عندما يصاب به صنفان من الناس، الصنف الأول: هم العلماء، فبعضهم لا يرى رأيًا صوابًا إلا رأيه في مسألة من المسائل، ومن خالفه فيها فهو مبتدع وضال.
والصنف الثاني: هم بعض الحكام الذين ابتليت بهم الأمة في هذا الزمان، الذين لا يرون إلا رأيهم، متبعين نفس الطريقة الفرعونية، ومن خالفهم الرأي فهو عميل وخائن.
فإذا أراد المؤمن، الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهًا في سنة رسوله، وفهمًا في كتابه، وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه، كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه صلى الله عليه وسلم، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم، ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله.
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم؛ لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.
وبالجملة: فهو غريب في أمور دنياه وآخرته، لا يجد من العامة مساعدًا ولا معينًا؛ فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف(16).
***
____________
(1) أخرجه مالك في الموطأ (2079).
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (82).
(3) أخرجه أبو داود (162).
(4) أخرجه النسائي (8031).
(5) أخرجه البخاري (7308)، ومسلم (1785).
(6) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (5/ 364).
(7) فتح الباري، لابن حجر (13/ 289-290).
(8) المصدر السابق (13/ 288).
(9) المصدر السابق.
(10) أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673).
(11) أخرجه البخاري (946).
(12) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (10/ 352-354).
(13) في ظلال القرآن (1/ 533).
(14) أدب الخلاف، للقرني، ص27–29، بتصرف.
(15) شرح سنن ابن ماجه، للسيوطي وغيره، ص290.
(16) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (3/ 189).