ولو يشاء الله لانتصر منهم
دماء وأشلاء، وحرق للأحياء، وقتل للضعفة من العجائز والأطفال، وهتك لأعراض النساء، وانتهاك للحرمات، وتعد سافر على الأموال والبيوت والأملاك، مشاهد دامية بمرأى ومسمع من العالم (المتحضر)! لا عذر لأحد، الكل يرى بالصوت والصورة، مناظر تقشعر لها الأبدان، وتستدر دموع أشداء الرجال؛ تجويع، وترويع، وخطف، وتقطيع! {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 10].
إن هؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأمثالهم في الأرض كلها في كل زمان من البغاة الطغاة المفسدين، الذين يظهرون في ثوب البطش والاستكبار، ويتراءون لأنفسهم وللضالين من أتباعهم قادرين أقوياء؛ إن هؤلاء جميعًا حفنة من الخلق، تعيش على ظهر هذه الهباءة الصغيرة المسماة بالأرض، بين هذه الكواكب والنجوم والمجموعات الفلكية والمجرات والعوالم التي لا يعلم عددها ولا مداها إلا الله في هذا الفضاء الذي تبدو فيه هذه المجرات والعوالم نقطًا متناثرة، تكاد تكون ضائعة، لا يمسكها ولا يجمعها ولا ينسقها إلا الله.
فلا يبلغ هؤلاء ومن وراءهم من الأتباع؛ بل لا يبلغ أهل هذه الأرض كلها، أن يكونوا نمالًا صغيرة.
لا بل إنهم لا يبلغون أن يكونوا هباء تتقاذفه النسمات؛ لا بل إنهم لا يبلغون شيئًا أصلًا حين يقفون أمام قوة الله.
إنما يتخذ الله المؤمنين- حين يأمرهم بضرب رقاب الكفار وشد وثاقهم بعد إثخانهم- إنما يتخذهم سبحانه ستارًا لقدرته، ولو شاء لانتصر من الكافرين جهرة، كما انتصر من بعضهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم.
بل لانتصر منهم من غير هذه الأسباب كلها، ولكنه إنما يريد لعباده المؤمنين الخير، وهو يبتليهم، ويربيهم، ويصلحهم، وييسر لهم أسباب الحسنات الكبار.
يريد ليبتليهم، وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات، فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به، حتى تجاهد في سبيله، فتقتل وتقتل، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه، ولا تستطيع الحياة بدونه، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله.
ويريد ليربيهم؛ فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه، ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف ويكمل كل نقص، وينفي كل زغل ودخل، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد، والتطلع إلى وجه الله ورضاه، فترجح هذه وتشيل تلك، ويعلم الله من هذه النفوس أنها خيرت فاختارت، وأنها تربت فعرفت، وأنها لا تندفع بلا وعي، ولكنها تقدر وتختار.
ويريد ليصلحهم؛ ففي معاناة الجهاد في سبيل الله، والتعرض للموت في كل جولة؛ ما يعود النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه، وهو هين هين عند من يعتاد ملاقاته، سواء سلم منه أو لاقاه، والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس في لحظات الخطر شيئًا يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام! وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح.
ثم هي الأسباب الظاهرة لإصلاح الجماعة البشرية كلها، عن طريق قيادتها بأيدي المجاهدين الذين فرغت نفوسهم من كل أعراض الدنيا وكل زخارفها وهانت عليهم الحياة وهم يخوضون غمار الموت في سبيل الله.
ولم يعد في قلوبهم ما يشغلهم عن الله والتطلع إلى رضاه.. وحين تكون القيادة في مثل هذه الأيدي تصلح الأرض كلها ويصلح العباد، ويصبح عزيزًا على هذه الأيدي أن تسلم في راية القيادة للكفر والضلال والفساد، وهي قد اشترتها بالدماء والأرواح، وكل عزيز وغال أرخصته لتتسلم هذه الراية لا لنفسها ولكن لله! ثم هو بعد ذلك كله تيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم الحسنى لينالوا رضاه وجزاءه بغير حساب (1).
ويتساءل المؤمنون، كما تساءل أسلافهم: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}، ويجيء الرد فورًا: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة.. عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} إنه مدخر لمن يستحقونه، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية، الذين يثبتون على البأساء والضراء.
الذين يصمدون للزلزلة، الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعند ما يشاء الله، وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى نصر اللَّه، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله.
بهذا يدخل المؤمنون الجنة، مستحقين لها، جديرين بها، بعد الجهاد والامتحان، والصبر والثبات، والتجرد لله وحده، والشعور به وحده، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه.
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقًا وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجًا كما وقع، وكما يقع في كل قضية حق، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين.
على أنه- حتى إذا لم يقع هذا- يقع ما هو أعظم منه في حقيقته، يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النهاية.. وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء، كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون، المؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته (2).
قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)} [محمد: 4- 6]، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} [آل عمران: 140- 141]، فهذه حكم شرع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها، وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمة المكذبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادًا الأولى بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل، وقوم شعيب بيوم الظلة، فلما بعث الله تعالى موسى عليه السلام، وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليم، ثم أنزل على موسى التوراة، شرع فيها قتال الكفار، واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} [القصص: 43]، وقتل المؤمنين الكافرين أشد إهانة للكافرين، وأشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14- 15]؛ ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم، أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان.
فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى، أشد إهانة له من أن يموت على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك، كما مات أبو لهب -لعنه الله- بالعدسة بحيث لم يقربه أحد من أقاربه، وإنما غسلوه بالماء قذفًا من بعيد، ورجموه حتى دفنوه (3).
إن استبطاء النصر والفرج نزعة بشرية طبيعية، يعالجها المؤمن بمسكِّنات القلوب، وحسن الظن بعلام الغيوب، وتلمس الحِكم الغائيَّة من وراء آلام الابتلاء.
ويلوح في أفق المؤمنين مشاهد تاريخية مماثلة للسابقين الأولين الذين مستهم البأساء والضراء وزلزلوا؛ كـ(القليل) الذين مع نوح، و(الذرية) التي مع موسى، و(الطائفة) التي مع عيسى، و(النُّزَّاع من القبائل) مع محمد صلوات الله وسلامه، ورضوانه عليهم أجمعين.
فهل نحن أعز على الله تعالى من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إذ أخذ بكافة الأسباب حين أراد الهجرة من مكة، من رفيق الطريق والزاد والدابة واستئجار الدليل، وإخفاء الليالي، كل ذلك والله قادر على إيصاله إلى المدينة بأقل من طرفة عين، لكنها السُنَنُ والمدرسة التي يجب أن نتعلم منها ونتلمس خطاها.
وهل نحن أعز على الله من مريم البتول صاحبة المعجزة العظيمة التي جاءها المخاض فآوت إلى نخلة باسقة عظيمة؟ آوت وهي في ضعف وألم، ومع هذا أمَرَها الله وقال لها: {وَهُزي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبي وَقَري عَيْنًا} [مريم: 25- 26]، فكيف تهز الضعيفة في وقت نفاسها نخلة؟ وماذا ستؤثر فيها...؟ ولكنه السبب الذي تعبدنا الله ببذله توكلًا لا تواكلًا، كل ذلك والله قادر على الإعطاء من غير سبب.
وقد أثمر التأمل المصحوب بالألم، عن حزمة من الحكم العظيمة، منها:
أولًا: تحقيق التوحيد: كل ذلك إنما جرى بقدر الله وفق مشيئته {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، ولمضت مشيئته بغير هذا كله، ولجرى قدره بغير هذا الذي كان، فليس شيء من هذا كله بالمصادفة، وليس شيء من هذا كله بسلطان من البشر كذلك أو قدرة! فإذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم، وبين شياطين الإنس والجن وباطلهم وزخرفهم وغرورهم.. إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله ويتحقق بقدر الله، فإن المسلم ينبغي أن يتجه إذن إلى تدبر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض، بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه (4).
يقول الغزالي: والجنود التي يخذل بها الباطل، وينصر بها الحق، ليست مقصورة على نوع معين من السلاح، ولا صورة خاصة من الخوارق، إنّها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإنّ خطرها لا يتمثّل في ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]، ومن صنع الله لنبيه يوم الهجرة أن عمى عنه عيون عداته، وهو منهم على مد الطرف، ولم يكن ذلك محاباة من القدر لقوم فرّطوا في استكمال أسباب النجاة، بل هو مكافأة من القدر لقوم لم يدعوا وسيلة من وسائل الحذر إلا اتخذوها (5).
حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (6)، ويقول له: «إن الله معنا» (7).
إن سنة الله تجري بترتيب النتائج على الأسباب، ولكن الأسباب ليست هي التي تنشئ النتائج، فالفاعل المؤثر هو الله، والله يرتب النتائج على الأسباب بقدره ومشيئته، ومن ثم يطلب إلى الإنسان أن يؤدي واجبه، وأن يبذل جهده، وأن يفي بالتزاماته، وبقدر ما يوفي بذلك كله يرتب الله النتائج ويحققها.
إن الأخذ بالأسباب مع تفويض الأمور إلى الله تعالى والثقة به هو من التوكل المأمور به، أما القعود عن الأسباب فليس من التوكل في شيء، وإنما هو اتكال أو تواكل، قال ابن القيم: التوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها؛ فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها.
فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية، والله سبحانه وتعالى أعلم (8).
حينئذٍ أدركوا معنى قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
إن المعالي لا تُنال بالأماني، ولا يتأتى النصر إلا على ألوان البذل والتضحية بشتى صنوفها، وإذا عرف أن الابتلاء سنة ماضية تبين أن النصر لا يقوم إلا على البذل في سبيل الحق.
ثانيًا: تمييز الصفوف، وانكشاف العدو من الصديق، والطيب من الخبيث: لقد عاشت بلادنا عقودًا اختلط فيها الحابل بالنابل، والتبس الحق بالباطل، واختلطت الشعارات، وتسنم ذروة الدين أقزام أدعياء، وعلماء سوء وصوليين، حتى تشيع كثير من السذج البسطاء سياسيًا، وربما عقديًا، فجاءت هذه الأحداث العظام، لتميط اللثام عن وجوه اللئام، الذين تواطؤا مع النظام.
لقد عرف الناس عدوهم، وأيقنوا أن المعركة معركة عقيدة، وأن معسكر الكفر والفسوق والعصيان، أخلاط من أوباش الصوفية والعلمانية، اصطفوا بقضهم وقضيضهم حماية لمكاسبهم المحرمة، التي كدسوها عبر عقود، في وجاه معسكر أهل السنة والإسلام.
وفي هذا الاحتكاك المرير، تنكشف الطباع، ويتميز الحق من الباطل، كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل- حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء! - ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله، لأنهم أهل لحمل أماناته، والقيام عليها، وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة.. عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث، فيلقي به في جهنم.. وتلك غاية الخسران..
والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم، وكأنما هو كومة من الأقذار، يقذف بها في النار، دون اهتمام ولا اعتبار! {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}.
وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعًا أعمق في الحس.. وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير والتأثير (9).
وتلك نعمة عظيمة، وحكمة جليلة، امتن الله بها على المؤمنين الأوائل، في مواقف جهادية مقاربة: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37].
انكشف علماء السوء الذين ظلوا يسوغون للنظام الباغي كفره، وفسقه، ويسبحون بحمده، ويقدسون، لقاء دراهم يقتاتون بها لدنياهم على حساب دينهم.
انكشف العلمانيون والليبراليون، الذين يتاجرون بالشعارات الوطنية، وينافقون، فتارة مع النظام، وتارة مع المعارضة، كما يصنع اليربوع.
ثالثًا: سنة الابتلاء سنة كونية، يستخرج الله بها مكنونات النفوس، وحقائق الضمير، ويستنبط بها إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين، قال تعالى: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)} [محمد: 4- 6]، لا بأس عليكم، فما أنتم إلا بإحدى الحسنيين؛ نصر، أو شهادة.
فأعطى الله العبد مددًا وعدة وأعوانًا وسلاحًا لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مددًا وعدة وأعوانًا وسلاحًا، وبلا أحد الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم، ويمتحن من يتولاه ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20] (10).
رابعًا: أسباب النصر: ربما تأخر النصر، لعدم توفر شرطه، أو أبطأ لعدم اكتماله، وقد صرح الله لعباده بشرطه، وتكفل لهم بالوفاء بوعده، بعبارة محكمة رصينة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)} [محمد: 7- 8]، فافحصوا حالكم يا إخواننا، وتعاهدوا قلوبكم، وأعمالكم، وثقوا بنصر الله.
إن من أكبر أسباب النصر: إحسان الظن بالله عز وجل، والثقة في حكمته ورحمته، وأنه ناصرهم لا محالة، وهذا بدوره يبث الأمل في النفوس ويبث الأمل في الأمة بأن المستقبل لهذا الدين مهما تسلط أعداؤه عليه وكادوا له: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 15- 17].
ألا وإن من أسباب النصر: إدراك أن العاقبة للمتقين بكل ما تعنيه من معنى وشعور، فإن وعد الله لا يتخلف، وكلمته لا تتبدل، وإن تأخر وأبطأ فلحكمة يعلمها الله، فقد يتأخر النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد ولم يتم تمامها، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكًا.
وقد يتأخر النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة وآخر ما تملكه من رصيد.
وقد يتأخر النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها.
وقد يتأخر النصر لتزيد الأمة من صلتها بالله وهي تعاني وتتألم وتبذل.
وقد يتأخر النصر؛ لأن الأمة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها.
وقد يتأخر؛ لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تمامًا، وقد ينخدع به البعض لعدم إدراكهم لزيفه وفساده.
وقد يتأخر النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير، فلو انتصرت حينئذ للقيت المعارضة.
من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يتأخر النصر، فتتضاعف التضحيات والآلام مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية (11).
إنه لا تزال كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة» (12)، وهذه الطائفة تجتمع فيها أسباب النصر المعنوية والمادية، التي خلقها الله من علم صحيح وسلوك مستقيم، وأخذ بالمقدمات التي جعلها الله وسيلة موصلة إلى نتائجها المرجوة.
ألا وإن الخشية على الأمة ألا تؤدي دورها المرجو منها وإلا كان الهلاك {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، قال عليه الصلاة والسلام حين سُئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث» (13)، وعلى هذا فلا بد للأمة من إيمان حقيقي يُربي النفوس على عدم الخوف من أحد مهما كان إلا الواحد القهار {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
لقد تحدى السحرة فرعون بالإيمان {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالذي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72]، وبهذا الإيمان صرح مؤمن آل ياسين: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25]، أذن بها في سمع الدنيا فقتلوه، {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26]، وكذلك استعلى بالإيمان أصحاب الأخدود {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].
ومن أسباب النصر: تفويض الأمور إلى الله بعد بذل الأسباب الممكنة شرعًا، ومن فوّض أمره إلى الله وقاه وهداه، انظر إلى تفويض مؤمن آل فرعون ونتائجه وهو القائل: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْري إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)} [غافر: 44- 45].
ومن ذلك: الصبر على الأذى {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، إن الصبر على الضراء والشكر على السراء فوق ما فيه من تقوية للمؤمن فهو يقطع عنه كل علاقة بعطاء الدنيا ولا يتضجر من البلاء «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» (14).
ومن الأسباب في استجلاب النصر الدعاء، فهو أمضى سلاح فرطت فيه الأمة، والله يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادي عَنِّى فَإني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لي وَلْيُؤْمِنُوا بي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، والله تعالى هو المدعو عند الشدائد والمرجو عند النوازل {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، فهو {خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]، إن الضعيف يقوى إذا احتمى بالله وركن إليه، فالدعاء الدعاء فالأمة أحوج ما تكون في ظلمتها إلى صلاة في جوف الليل، وأنه في سَحر في وقت التنزل الإلهي، ورفعة يد إلى السماء بأن ينصر الله الإسلام والمسلمين.
على الأمة أن تراجع نفسها في علاقتها بربها؛ عبادة ومنهج حياة {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ إني هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
يقول ابن جبير عن أبيه: لما فتحت قبرص فُرق بين أهلها فبكى أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء صاحب رسول الله جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير؛ ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هم أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى (15).
ومن أسباب النصر: تجرد الكلمة والهمة والسيف لله تعالى، فما كان لله يبقى، ومن أخلص لله هانت في نفسه عوائق الطريق وتلذذ بما يصاب في الله تعالى.
وختامًا: لا يزال صلاح آخر الأمة ممكنًا بإذن الله بما صلح به أولها، فلدينا رصيد الفطرة والتجربة، ولدينا الطموح الكبير لإعادة العزة لمجتمع المسلمين {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] (16).
-----------------
(1) في ظلال القرآن (6/ 3286).
(2) في ظلال القرآن (1/ 219).
(3) تفسير ابن كثير (4/ 21).
(4) في ظلال القرآن (3/ 1188).
(5) فقه السيرة للغزالي (ص: 175).
(6) أخرجه البخاري (3653)، ومسلم (2381).
(7) أخرجه البخاري (3615).
(8) مدارج السالكين (2/ 120).
(9) في ظلال القرآن (3/ 1507).
(10) زاد المعاد (3/ 6).
(11) في ظلال القرآن (4/ 2427).
(12) أخرجه مسلم (156).
(13) أخرجه البخاري (3346)، ومسلم (2880).
(14) أخرجه مسلم (2999).
(15) حلية الأولياء (1/ 217).
(16) ولو يشاء الله لانتصر منهم/ صيد الفوائد.