logo

أسباب ضعف المسلمين


بتاريخ : الأحد ، 9 جمادى الآخر ، 1439 الموافق 25 فبراير 2018
بقلم : تيار الاصلاح
أسباب ضعف المسلمين

بكى أبو الدرداء عند فتح قبرص، فقال له جبير بن نفير: «أتبكي وهذا يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟»، فقال: «ويحك إن هذه كانت أمة قاهرة لهم مُلْكٌ، فلما ضيعوا أمر الله صيرهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سُلِّطَ على قوم السبي فليس لله فيهم حاجة»، وقال: «ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره؟»(1).

إن الناظر في واقع أمتنا اليوم يدرك تمام الإدراك أنها تمر بمرحلة عصيبة؛ حيث أصيبت بالضعف والهوان، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، حتى أصبحت مطمعًا لكل ذي قوة من الأمم، وهذا، بلا شك، مصيبة عظيمة وبلاء جسيم يجب علينا أن نسعى في إزالته.

إن الضعف الذي حل بالأمة الإسلامية قد أفقدها شيئًا كثيرًا من هيبتها وعزتها ومن كرامتها, لقد دب الضعف في صفوف المسلمين لما اختلفت الأمة في أهوائها, وتفرقت كلمتها, وتشعبت مناهجها؛ فصارت ألعوبة للأعداء، ولقمة سائغة أكلتها سباع الشيطان، وما ذاك يا أمة الإسلام, وما ذاك يا أمة التوحيد, وما ذاك يا أمة لا إله إلا الله، إلا لمَّا تركت الأمة الإسلامية ما فيه غذاؤها الروحي والفكري، وهو القرآن والسنة والحكم بهما والتحاكم إليهما.

إن كل ما يحيط بنا من أحوال الأمم، وأعمال البشر وآثار العقول، وثمار العلم والعدل، ونتائج الجهل، وفضائح الظلم آيات للعبر، وبينات لا تحتاج في الحكم إلى كثير نظر، يلمسها الأعمى بيده، ويراها البصير حتى في نفسه وبيته وبلده وجواره، فالمرء في هذا العصر حيثما كان وأنى التفت وأينما اتجه؛ يرى من آثار العبر ما يتعظ به العاقل، ويتنبه الغافل، أفليس من العجب أن يكون المسلمون فاقدي الشعور بهذا المحيط، غافلين عن تلك العبر، يتعسفون في أخريات الأمم، تعسف الخابط في ظلام الجهالة؛ مع وضوح الطريق، ووفور أسباب السلامة والاهتداء(2).

إن عدو المسلمين في قوة ومنعة وتسلط على المسلمين، وفي كبرياء وتكبر على باطل وكفر، ونحن أمة الإسلام، أمة الحق والهدى، في ذل وضعف وهوان، ونحن أحق بالقوة والمنعة والنصر، ولكن، عباد الله، تعالوا بنا لنرى ما الأسباب التي جعلتنا أضعف الأمم، وأذل المجتمعات على الإطلاق، فالأسباب كثيرة ومتعددة في جميع الجوانب.

ومن أسباب ضعف المسلمين ما يلي:

1– غياب الإمام العالم العادل:

وهو من أعظم أسباب ضعف المسلمين منذ عصور مديدة، فإن الأصل في خطبة الجمعة أن يخطبها الإمام الأعظم، وهو الخليفة، بنفسه في المصر الأكبر (العاصمة)، ويخطبها نوابه الحكام في الأمصار والعواصم وكبار القرى، يجتمع الناس لها في البلد الواحد في مكان واحد، لا يتخلف منهم إلا مريض أو معذور، أو متهم في دينه خارج عن قومه، في كل أسبوع مرة، فيخطبهم الإمام الأكبر، ويخطب نوابه في الأمصار والقرى، يعظون الناس، ويجمعون قلوبهم على الإيمان والتقوى ومكارم الأخلاق، ويتحدثون إليهم فيما ينوبهم من الأحداث السياسية أو الاجتماعية أو الخلقية أو نحو ذلك، ومن ذلك روح الأمة واتجاهاتها، ويرشدونهم إلى طرق الهدى وسديد الرأي، مع المساواة التامة بين الصغير والكبير، والغني والفقير، فتشعر الأمة بوحدتها وقوتها.

حتى إذا ما ولي أمرَ المسلمين خلفاء جهال أو مستبدون، احتجبوا عن الناس، وأنابوا غيرهم في الخطبة والصلاة، ووضعوا نظام الطبقات الذي جاء الإسلام بهدمه، وولَّوا ولاةً جهالًا بدينهم كمثل جهلهم، حتى صار الأمر إلى ما نرى، ولا صلاح للمسلمين إلا أن تعود هذه الفريضة سيرتها الأولى، فيكون أمراؤهم وحكامهم علماء بدينهم، يقومون في الناس بإقام الصلاة، كما يقومون بإقامة ميزان العدل، ويشعر الضعيف، قبل القوي، أن حاكمه مثله، لا سلطان له عليه إلا في حدود الشرع والعدل، وتكون الأمة كلها واحدة متحدة، أمة أعزة ليس من بينها ذليل، وفي ذلك الفلاح والظفر(3).

2- حب الدنيا وكراهية الموت:

إن الحياة الدنيا بزخرفها طغت على قلوب كثير من المسلمين اليوم، وإنه الوهن الذي جاء في الحديث، قالوا: «وما الوهن يا رسول الله؟»، قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت»(4)، فكثير من المسلمين اليوم يكره الجهاد في سبيل الله، ويحب البقاء في هذه الدنيا، وهذا عامل أساسي في ضعف الأمة الإسلامية، عندما يتخلى أبناء الأمة الإسلامية عن الجهاد، فيأتي العدو يستبيح بيضتهم؛ كما هو حال الأمة الإسلامية اليوم، فالجهاد في سبيل الله وحب الموت دافع كبير لنصرة هذه الأمة؛ لأن هذا الدافع يجعل أبناء المسلمين يقدمون كل غال ورخيص في دفع هذا العدو الجائر، ويقدمون كل ما يملكون في سبيل النهوض بهذه الأمة من هذا الوحل الذي غرقت فيه.

إن انفتاح الدنيا على أغلب الناس، وانشغالهم بجمع الحطام الفاني، والإعراض عن العلم والعمل، والسعي وراء جمع المال وتنمية التجارات والمكاسب، كان سببًا لنسيان حق الله تعالى وتقديم الشهوات، وما تتمناه النفس مع توفر الأسباب والتمكن من الحصول عليها(5).

3- ضعف الإيمان في القلوب:

إن الإيمان لما ضعف في قلوبنا قَلَّ الدافع للعمل لهذه الأمة والنهوض بها، فضعف الإيمان يبعث الانهزامية في قلب صاحبه، ولهذا فضعاف الإيمان انهزموا عندما رأوا عدوهم في قوة ومنعة، وهم في ضعف وذل وجبن، ولم يرجعوا إلى كتاب الله الكريم الذي قال فيه: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ} [النور:55]، وقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، فهذا وعد الله لأوليائه في هذه الحياة الدنيا، إذا كانوا أقوياء الإيمان؛ حيث يجعل التمكين والنصر لهم.

4- إضاعة الصلوات واتباع الشهوات:

إن المساجد تشكو من قلة المصلين فيها، فالناس اليوم، إلا من رحم الله، ضيعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، فضعفت الأمة بسبب هذا التضييع للصلوات؛ فالصلاة هي عمود الدين، ولا يمكن لهذا الدين أن يقوم بغير هذا العمود، وكذلك لا يمكن لهذه الأمة أن تنتصر وتكون قوية بغير هذا الدين.

وإن الشهوات إذا سيطرت على النفس وصارت سيدًا مطاعًا انحرف الاعتقاد تبعًا لها، وحينئذ يتخذون إلههم هواهم، وكان معبودهم، وسرى ذلك إلى كل أعمالهم(6).

ولا شك أن لذلك أسبابًا عديدة؛ أشدها كثرة الدعاة إلى الفساد والمنكرات والمعاصي بالقول والفعل، من أناس ثقلت عليهم الطاعات، ومالت نفوسهم إلى الشهوات المحرمة؛ كالزنا وشرب الخمر وسماع الأغاني، ونحو ذلك، فقاموا بالدعوة إلى الاختلاط، وزينوا للمرأة التبرج والسفور، وجعلوا ذلك من حقها، ودعوا إلى إعطائها الحرية والتصرف في نفسها، فجعلوا لها أن تمكن من نفسها برضاها؛ ولو غضب أبوها أو زوجها فلا حد عليها، ولا على من زنا بها برضاها، وعند الانهماك في هذه الشهوات ثقلت عليهم الصلوات، وتخلفوا عن الجمع والجماعات، ومنعوا الواجبات، وتعاطوا المسكرات والمخدرات؛ مما كان سببًا لضعف الإيمان في قلوبهم(7).

5- عدم الإعداد للعدو، والرضا بأخذ حاجاتهم من عدوهم، وعدم الهمة العالية في إنتاج حاجاتهم من بلادهم وثرواتهم، فالمسلمون اليوم في أضعف ما يكون إعدادًا؛ بل لم يخطر على بال كثير من المسلمين أن يقوموا بالإعداد لمواجهة العدو والاستعداد للقائه، وهذا ما جعل العدو يعد العدة والقوة فصار قويًا، والمسلمون لا زالوا ضعفاء، وسيظلون كذلك إلا أن يأخذوا بأسباب النصر والتمكين.

قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60].

فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد، والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها، ويخص (رباط الخيل)؛ لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة، ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، والمهم هو عموم التوجيه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}.

إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في (الأرض) لتحرير (الإنسان)، وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها، فلا يصدون عنها، ولا يفتنون كذلك بعد اعتناقها.

والأمر الثاني: أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على (دار الإسلام) التي تحميها تلك القوة.

والأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء ألا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير الإنسان كله في الأرض كلها.

والأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها، ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده، ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه(8).

6- التفرق والاختلاف وعدم جمع الكلمة وعدم الاتحاد والتعاون، فالمسلمون اليوم جماعات وأحزاب متفرقة متناحرة، كل منها يريد القضاء على الآخر، وهذا من مخططات الأعداء الذين نجحوا فيها أيما نجاح، والمسلمون في نومهم العميق؛ وهذا مما جعل الأمة الإسلامية في هذا الحال التي هي عليه اليوم؟

إن ضعف الأمة وذهاب ريحها وهوانها على الناس إنما يكون بتنازعها وشقاقها، قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]، وهلاك من هلك، ممن كان قبلنا، إنما كان بسبب اختلافهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تختلفوا؛ فإن مَنْ كان قبلكم اختلفوا فهلكوا»(9).

وصدق الأستاذ العقاد عندما قال: «كثيرًا ما يكون الباطل أهلًا للهزيمة، ولكنه لا يجد من هو أهل للانتصار عليه»(10).

7- ضعف فهمنا لحقيقة الإسلام وأهدافه ومقاصده، الذي لو فهمناه حق الفهم لكنا أقوى الأمم وأعزها على الإطلاق، فالإسلام دين ودولة، وعمل وجهاد، وتعاون وإخاء، ورحمة وقوة, الإسلام اهتم بجميع جوانب الحياة العسكرية, والاقتصادية, والسياسية, والاجتماعية, وغيرها من الجوانب.

8- وترجع أسباب الضعف والتأخر وتسليط الأعداء إلى سبب نشأت عنه أسباب كثيرة، وعامل واحد نشأت عنه عوامل كثيرة، وهذا السبب الواحد والعامل الواحد هو الجهل؛ الجهل بالله وبدينه وبالعواقب التي استولت على الأكثرية، فصار العلم قليلًا والجهل غالبًا.

وعن هذا الجهل نشأت أسباب وعوامل، منها: حب الدنيا وكراهية الموت، ومنها إضاعة الصلوات واتباع الشهوات، ومنها عدم الإعداد للعدو، والرضا بأخذ حاجاتهم من عدوهم، وعدم الهمة العالية في إنتاج حاجاتهم من بلادهم وثرواتهم، ونشأ عن ذلك أيضًا التفرق والاختلاف وعدم جمع الكلمة، وعدم الاتحاد وعدم التعاون.

فعن هذه الأسباب الخطيرة وثمراتها وموجباتها حصل ما حصل من الضعف أمام العدو والتأخر في كل شيء، إلا ما شاء الله، والإقبال على الشهوات المحرمة، والشغل بما يصد عن سبيل الله وعن الهدى، وعدم الإعداد للعدو، لا من جهة الصناعة، ولا من جهة السلاح الكافي، الذي يخيف العدو ويعين على قتاله وجهاده وأخذ الحق منه، وعدم إعداد الأبدان للجهاد، وعدم صرف الأموال فيما ينبغي لإعداد العدة للعدو، والتحرز من شره، والدفاع عن الدين والوطن.

إن الإقبال على التفقه في الدين، والتعلم والتبصر بما يجب عليهم في العاجل والآجل، من أوجب الواجبات، وفي ذلك علامة على أن الله أراد بهم خيرًا، ومن ذلك تأدية فرائض الله، والانتهاء عن محارم الله، والوقوف عند حدود الله.

فالجهل أضراره عظيمة وعواقبه وخيمة، ومن ذلك ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من ذل المسلمين أمام عدوهم، ووصفهم بأنهم غثاء كغثاء السيل، وأن أسباب ذلك نزع المهابة من قلوب أعدائهم منهم؛ أي أن أعداءهم لا يهابونهم ولا يقدرونهم؛ لما عرفوا من جهلهم وتكالبهم على الدنيا والركون إليها.

فالعدو إنما يُعظِّم القوةَ والنشاط والهمة العالية والتضحية العظيمة في سبيل مبدئه.

فإذا رأى العدو أن هذا الخصم المقابل له ليس له هذه الهمة، وإنما هو يهتم لشهواته وحظه العاجل؛ أعطاه من ذلك حتى يوهن قوته أمامه، ويصرفه عن التفكير في قتاله لانشغاله بحب الدنيا والانكباب على الشهوات.

9- ومن الأسباب أيضًا ضعف الدعاة إلى الإسلام الحقيقي، وقلة ما معهم من العلم الصحيح، ورضاهم بأقل عمل مع مشاهدة كثرة الفساد، وتمكن المعاصي، وكثرة من يتعاطى على مرأى ومسمع من الجماهير، ولا شك أن الأمة متى ضعف فيها جانب الإيمان والعمل الصالح، وفسدت فطرها وانهمكت في الملاهي والشهوات، وأعرضت عن الآخرة؛ فإنها تضعف حسيًا، ويقوى الأعداء من كل جانب، ويسيطرون على ما يليهم من بلاد المسلمين، ولا يكون مع المسلمين قوة حسية ولا معنوية تقاوم قوة الأمم الكافرة، وذلك ما حصل في كثير من البلاد الإسلامية التي تسلط عليهم الأعداء يسومونهم سوء العذاب، وتسلط عليهم ولاة السوء، وأذلوهم وقهروهم حتى يرجعوا عن دينهم.

10- خلخلة العقيدة في قلوب الناس، أو سوء فهم العقيدة في قلوب الناس، وعدم صفاء المعتقد الصحيح، معتقد أهل السنة والجماعة، ثم التطبيق والممارسة الواقعية لهذا المعتقد لدى كثير من أبناء الأمة، فإذا كان ما في قلوب الناس لها مشارب شتى فكيف الاجتماع والوحدة.

إن للعقيدة الصحيحة أهميتها في تربية الأفراد وتوجيههم، فإذا رسخت العقيدة في قلب الإنسان فإنها سرعان ما تنعكس على جوارحه، وعلى خلقه وسلوكه ومعاملاته؛ ولهذا لا غرابة أن كثيرًا من الآيات والسور المكية عالجت موضوع العقيدة بجميع جزئياتها.

ولقد تربى المجتمع الإسلامي في عهده صلى الله عليه وسلم على العقيدة السليمة، التي حررت الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

إن العقيدة هي الأساس الذي يُبنى عليها النظام الأخلاقي، وهي التي تكون الأساس الفكري لعقلية المسلم، والأساس النفسي لسلوكه.

ومن العقيدة تنبثق نظرته إلى الحياة الاقتصادية والحياة السياسية وغيرها، وكذلك، أيها الإخوة، فإن العقيدة لها تأثير كبير في علاقة أفراد المجتمع بعضه البعض، سواء الفردية أو الجماعية، ألا تجد أن هناك موظفات في مكتب واحد، ومن منطقة واحدة، لكنك تجد النفرة والتباغض بينهم؛ لأن الأول على عقيدة أهل السنة والجماعة، والآخر على عقيدة أخرى؛ كعقيدة الرافضة مثلًا، وإن كانا يحملان نفس الجنسية.

إذًا العقيدة، أيها الإخوة، هي الأساس، وهي القاعدة وهي المنطلق لجميع تصورات وتصرفات الإنسان، ولكن المتأمل في واقع المجتمع اليوم يجد أن هذا المجتمع مختلف في صفاته وخصائصه عن المجتمع الإسلامي في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام.

ومن أهم الأسباب سوء فهم العقيدة عند متأخري هذه الأمة؛ حتى وصل الحال عند بعض أهل السنة أنه لا يبالي في مصاحبة وموالاة والثقة بأبناء غير أهل السنة.

إلى هذا الحد وصل التسيب في اعتقاد كثير من المسلمين، وبعد ذلك كيف لا يكون سوء فهم العقيدة من أهم الأسباب في هدم كيان الأمة؟!

ومن الانحرافات العقائدية الخطيرة أيضًا والتي تهدد كيان الأمة: ما حصل في كثير من بلاد المسلمين، من الاستغاثة والدعاء عند القبور والأضرحة، وإيقادها بالسرج، والتمسح بها، وذبح القربات لها، واعتقاد أنها تنفع وتضر من دون الله، وهذا، والله أعلم أيها الإخوة، شائع في كثير من الدول الإسلامية، وهناك الملايين من المسلمين من يعتقد بهذه الأمور؛ فإذا أصيب بمرض أو جاءته مشكلة أو مصيبة توجه إلى هذه القبور، بالدعاء والبكاء والتقبيل، ليُشفى من مرضه أو لتحل مشكلته، أو لتعود إليه زوجته.

فأين يأتي نصر الله، وأين يأتي تمكين الله لهذه الأمة، وكيف لا ينهدم كيانها وينهدم بناؤها، وهذا حال أبنائها.

تركوا الله عز وجل وتوجهوا إلى غيره، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «لا يجوز أن يُتخذ شيء من القبور والآثار والأشجار والأحجار ونحوها، بحيث يرجى نفعه وبركته بالنذر له، والتمسح به، أو تعليق شيء عليه؛ بل كل هذا من جنس الشرك».

وقال أيضًا: «ومن أعظم الشرك أن يستغيث الإنسان برجل ميت عند المصائب، فيقول: يا سيدي فلان، كأن يطلب منه إزالة الضرر أو جلب نفعه، كما هو حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم»(11).

10- الاستسلام للواقع السيئ:

كثير من المسلمين عندما تأمل حال العالم الإسلامي، ورأى الهزيمة والذل والإهانة للمسلمين من قِبل أعدائهم، استسلم لهذا الواقع، وقال هذا ما حصل إلا بقضاء الله وقدره.

وكذلك من رأى المنكرات والفواحش قد انتشرت في المجتمع، ورأى هذا الواقع السيئ من انحلال الشباب والشابات، ووقوع كثير من الشباب في أسر المخدرات وفي أسر المغازلات والمعاكسات يئس من تغيير هذا الواقع السيئ، ورماها على القضاء والقدر، يقول: «ما حصل هذا في المجتمع إلا بقضاء الله وقدره»، فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الدعوة إلى الله، وترك النصح والإرشاد بحجة أن الله هو الهادي.

إن أصل الداء والمرض هو تقصير المسلمين في دينهم، ومخالفتهم لشرع ربهم وسنة نبيهم, وأن الدواء والشفاء هو في رجوعهم إلى دينهم وتمسكهم واعتزازهم به, وأن غلبة الكفار وقوتهم وكيدهم، وتسلط الحكام الظلمة على بعض دول المسلمين، وتفرق المسلمين واختلافهم إنما هي أعراض لا أمراض؛ سببها هو إعراض كثير من المسلمين عن دين الله عز وجل.

فكيف ينصرنا الله جل وعلا والشرك قد ضربت أطنابه، ورفعت راياته في أكثر العالم الإسلامي؟! فالقبور تعبد من دون الله وينذر لها ويطاف بها.

كيف ينصرنا الله وقد ترك كثير من المسلمين الصلاة في المساجد والجمع والجماعات؟!

كيف ينصرنا الله سبحانه وتعالى وقد أصبح الزنا ميسورًا والفساد منشورًا؟!

أم كيف ينصرنا الله سبحانه وتعالى وقد حاربناه وحاربنا رسوله صلى الله عليه وسلم بالربا؟!

وهكذا في سلسلة من الذنوب العظام التي نجاهر بها صباح مساء، ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، وتمسكوا بدينكم وسنة نبيكم الكريم؛ ففي ذلك سعادة الدنيا والآخرة.

أسباب النصر:

رغم كل ما ذكر لكن لا تيأسوا وأنتم في هذا الحال، ليتحققن وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلًا يذل الله به الكفر»(12).

هذا وعد من الرسول الكريم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعد بأن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذا لا يكون إلا في حال قدرة المسلمين ومنعتهم، والقوة والمنعة لهذه الأمة لا تكون ولا تحصل إلا بالأخذ بالأسباب، التي تجعلها أمة قوية وعزيزة.

تعالوا بنا لنستعرض بعض أسباب النصر، التي من خلالها تصبح أمتنا الإسلامية في قوة وعزة، فمن هذه الأسباب:

1- التمسُّك بالكتاب والسنة: منهجًا وعقيدة، ففي ذلك الفلاح كله والخير كله، فلا فلاح إلا بالأخذ بهما معًا، وتحكيمهما في جميع مجالات الحياة {وأطيعُوا اللهَ والرَّسُولَ لعلَّكُم تُرحَمون} [آل عمران:132]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وقال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي»(13).

وبكل حال فالتمسك بالكتاب والسنة من أعظم أسباب الفلاح في الدين والدنيا، ويتبع التمسك بهما، أو من لازم التمسك بهما، محاولة رد البدع والتحذير منها، وعدم الغفلة عنها والتهوين من شأنها مهما صغرت، فإن البدع إذا غُفل عنها زاد انتشارها.

2- قراءة التاريخ الإسلامي: إعادة النظر في تاريخ المسلمين المجيد التليد، لا من باب التسلية والمواساة والتواكل؛ بل من باب شحذ الهمم وبعث العزائم، وكيف كان المسلمون الأوائل أقوياء حسيًا ومعنويًا، وكيف كان تمسكهم بدينهم واعتزازهم به حتى دانت لهم الأمم، وخضعت لهم الأعداء، نصروا الله فنصرهم، وأعزوا الإسلام فأعزهم الله تعالى به.

3- الالتفاف حول العلماء: الالتفاف حول علماء الأمة الراسخين في العلم، المعروفين بصلاح المعتقد، وسلامة المنهج، فالقرب من أولئك والاستئناس بآرائهم والصدور عن رأيهم فيه مصلحة عظيمة للأمة وشبابها، فعلماء السنة أدرى الناس بمعالجة قضايا الأمة، وهم أبصر الناس بمجاراة واقعها، وإيجاد الحلول الناجعة لها، فأولئك الثلة من العلماء لا تصدر آراؤهم إلا بعد النظر في النصوص الشرعية، فثوابهم مضاعف مأجور، وخطؤهم غير مأزور؛ بل مأجور، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فحكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فحكم فأخطأ فله أجر واحد»(14).

4- وكذلك من الأسباب: وحدة الصف، قال الله عز وجل: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]، في هذه الآية الكريمة ينهانا ربنا عن التنازع والافتراق؛ لأن ذلك سبب في ضعفنا، والوحدة والتآلف سبب في نصرتنا على عدونا، فالأمة الإسلامية اليوم بحاجة ماسة إلى توحيد صفها، ولم شملها؛ لأنها في نزاع واختلاف وتفرق لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فالوحدة حليفها النصر.

5- الحذر من اليأس والقنوط: وقتل الهمم والعزائم لكثرة ما يرى ويسمع من مصاب الإسلام في أي مكان أو زمان، فعلى المسلم أن يغلق عن نفسه باب اليأس والقنوط بأحكم الأقفال وأوثقها، وأن يحسن الظن بالله تعالى، وأن يستشعر معاني الآيات المحذرة والمرهبة من اليأس، كقوله تعالى: {لَا تَقْنطُوا مِنْ رَّحْمَةِ اللهِ...} [الزمر:53]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِهِ إِلَّا الْضَالُّون} [الحجر:15] وقوله تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]، وعلى المسلم أيضًا في الوقت نفسه أن يتذكر النصوص المبشرة والدالة على حصول اليسر بعد العسر، كما في قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، وكقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، إلى غير ذلك من النصوص والأخبار التي تذكي العزائم، وتشحذ الهمم.

6- استشعار المسئولية: من كل فرد من أفراد المجتمع، وذلك أن يشعر كل واحد من المسلمين، مهما كان موقعه، وشأنه أنه مسئول، فيبدأ بإصلاح نفسه وبيته، ثم تتسع دائرة الإصلاح حتى تشمل جلساءه وجيرانه ومجتمعه، وليعلم كل واحد منا أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فليحذر أن يؤتى الإسلام من قبله.

7- التنبه لمكائد الأعداء: والحذر منها؛ لأنها تتنامى وتزداد بحسب تجاهلها وعدم إلقاء البال لها، وفي الوقت نفسه تتبلد أحاسيس كثير من الناس تجاهها، ومن ثم يستمرئونها ويتأقلمون عليها(15).

أخيرًا: إنه لا مخرج للأمة الإسلامية من كل ما تعانيه إلا بالرجوع الصادق إلى الله جل وعلا، والتمسك الحقيقي بسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، والصدق الظاهر والباطن لدينها، والأخذ بأسباب النصر، فلا منقذ لهذه الأمة إلا التوجه النابع من القلب لمحبة الله جل وعلا ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، محبة توجب الوقوف عند الأوامر، والانزجار عن النواهي، والعمل بالشريعة في الحكم والتحاكم، وفي جميع شئون الحياة كلها، صغيرها وكبيرها، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب:36].

وإذا أردنا أن نختصر أسباب النصر فإننا نستطيع أن نقول: إن الله أعزنا بالإسلام، فمتى ابتغينا ‏العزة في غيره أذلنا الله، وإذا تركت الأمة الجهاد كتب الله عليها ذلًا لا ينزعه حتى يرجعوا إلى دينهم، ‏فالعودة إلى الله سبب لكل خير، والبعد عن الله سبب لكل شر وهوان.‏

ولا بد من تربية جيل النصر المنشود على كتاب الله ومائدة السنة النبوية الشريفة، وإعادة النظر في ‏مناهجنا، وخاصةً الجوانب الحضارية المشرقة التي تعهد الأعداء إخفاءها وتشويهها، والخير باق في أمة ‏النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن أمتنا لا تموت، ونحن نحتاج إلى ‏لحظة صدق مع الله.

***

_____________

(1) البداية والنهاية (7/ 172).

(2) هذا أوان العبر فهل نحن أحياء فنعتبر، مجلة المنار (7/ 269).

(3) جمهرة مقالات أحمد شاكر (2/ 882).

(4) أخرجه أبو داود (4297).

(5) أسباب ضعف الأمة الإسلامية اليوم، لابن جبرين.

(6) زهرة التفاسير (9/ 4665).

(7) أسباب ضعف الأمة الإسلامية اليوم، لابن جبرين.

(8) في ظلال القرآن (3/ 1543).

(9) أخرجه البخاري (2410).

(10) الفصول، ص239.

(11) المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 20).

(12) أخرجه أحمد (16957).

(13) صحيح الجامع (5248).

(14) أخرجه أبو داود (3574).

(15) من أسباب عزة المسلمين، موقع: طريق الإسلام.