logo

يا أهل الحق، لا تغلوا في دينكم


بتاريخ : الأربعاء ، 14 جمادى الأول ، 1439 الموافق 31 يناير 2018
بقلم : تيار الاصلاح
يا أهل الحق، لا تغلوا في دينكم

كثير من الظواهر الفكرية والسلوكية تحتاج إلى دراسة شرعية، حتى تتجلى حقيقتها في ضوء الأدلة والقواعد الشرعية، ومن أهم تلك الظواهر ظاهرة الغلو في الدين, التي شملت الفكر والسلوك, أو العقيدة والعمل, على مستوى الأفراد والجماعات.

فقد قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171]، ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهًا من دون الله، يعبدونه كما يعبدونه؛ بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه، ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوا؛ سواء كان حقًا أو باطلًا، أو ضلالًا أو رشادًا، أو صحيحًا أو كذبًا، ولهذا قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله} الآية، وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله»(1).

حينما يفتقد أفراد المجتمع الوعي السليم، والقدوة الرشيدة، ويقعوا فرائس الصراعات النفسية بين الحلال والحرام، بين الفطرة ومستجدات العصر، يبحثون عن سبل وأساليب أخرى يجدون فيها تعبيرًا عن الرفض للصور غير المقبولة بالمجتمع، ويتمردون على واقع يرون أنه لا يعبر عن حاجاتهم ومتطلباتهم؛ كاللجوء إلى شكل من أشكال التطرف أو التكفير وهجرة المجتمع، أو الغلو في العبادة أو التعصب في الأفكار والممارسات، أو حتى التفريط والتهاون في الأصول(2).

إن جنوح الفرد يمينًا أو يسارًا بالغلو والتطرف، أو اللامبالاة والتهاون، لهو مؤشر خطير يستوجب صحوة كل من يضطلع بمسئولية الدعوة؛ لبحث أسباب هذا التطرف، وسبل علاجه للجيل الحاضر، وإعداد العدة لوقاية الجيل الجديد من استفحال تلك الظواهر فيه.

لماذا الحديث عن التطرف والغلو؟

تأتي أهمية الحديث عن ظاهرة الغلو والتطرف نظرًا لاستشراء شرها وخطرها, وخصوصًا إذا قوبلت بردود أفعال مضادة على الطرف الآخر من الغلو، والتي غالبًا ما تغيب معها المعالجة العلمية المتأنية، المستندة إلى الأصول العلمية, لا إلى العواطف الحماسية.

كذلك ترجع أهمية دراسة هذه الظاهرة إلى ما جَرَّته على الدعوة من مِحَنٍ، أبرزها تشويه صورة الدعاة عند كثير من الناس, وتنفيرهم من الدعوة.

إن قضية الغلو في الدين لم تكن وليدة اليوم، فهي عند اليهود وأحبارهم وعند النصارى في رهبانهم، وظهرت في الخوارج في الإسلام، وظهرت عند المتصوفة، وعند كثير من الفرق التي انتسبت إلى الإسلام، ولذا كانت مناقشة هذا الموضوع لأسباب :

أولًا: لأنه واقع لا يمكن تجاهله، ولا يمكن أن ننزعج من معالجة هذه الأخطاء وحوارها؛ بل الصحيح أن ننزعج من إهمالها، كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة»(3).

ثانيًا: لقد تناول هذا الموضوع كثير من الغربيين والعلمانيين، وقد تكلم المتخصص وغير المتخصص، فلماذا لا يكون لحملة العلم الشرعي وقفة ووضوح في هذه القضية .

ثالثًا: ولأن مفهوم التطرف والإرهاب قد أصبح فضفاضًا، وقد أدخلت فيه كثير من القضايا، واستخدمت الآلة العسكرية والقوى الأمنية بأعلى درجات البطش للقضاء على التطرف والإرهاب، دون بحث في جذور المشكلة وأسبابها.

رابعًا: ولأن كثيرًا من الناس يستقون معلوماتهم من الإعلام، وفي كثير من الأحيان يكون الإعلام موجهًا لخدمة فكرة ما أو تيار معين، وقد أصبح من الواضح عبر الصياغة الإعلامية أن التطرف والأصولية والإرهاب إنما هي ألفاظ لصيقة بالإسلام والمسلمين، وليس لها علاقة بممارسات بعض الدول المحتلة، التي تستولي على الشعوب وتنهب خيراتها.

قال تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86], وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتم ميسرين, ولم تبعثوا معسرين»(4), وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»(5), وقال صلى الله عليه وسلم لما جاء الحبشة يلعبون يوم العيد في المسجد قام ينظر إليهم, ثم قال: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة؛ إني بعثت بحنيفية سمحة»(6).

أنواع الغلوّ في الدين:

قال الزمخشري: الغلو في الدين غلوان: غلو حق: وهو أن يفحص عن حقائقه، ويفتش عن أباعد معانيه، ويجتهد في تحصيل حججه؛ كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد، وغلو باطل: وهو أن يجاوز الحق ويتعداه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه، كما يفعل أهل الأهواء والبدع(7).

ويجدر التنبيه إلى أن هناك غلوًّا قد يغفل عنه كثير من الناس, ألا وهو غلوّ التفلت من أحكام الإسلام وواجباته, غلو في جانب التسيب والتفريط, ومشكلة من وقع في هذا النوع من الغلو أنه يرى كل التزام بأحكام الإسلام وإظهار لشعائره من الغلو والتزمت والتطرف، وهذا الصنف هو الأكثر تبجحًا في إنكار الغلوّ, وهو، في حقيقته، دعوة إلى التسيب وترك الالتزام.

مظاهر الغلو والإفراط:

1- إن أول مظهر من مظاهر التطرف هو التعصب للرأي تعصبًا لا يعترف للآخرين برأي، وهذا يُشير إلى جمود المتعصب؛ مما لا يسمح له برؤية مقاصد الشرع ولا ظروف العصر، ولا يسمح لنفسه بالحوار مع الآخرين، فالمتطرف يرى أنه وحده على الحق، وما عداه على الضلال، كذلك يسمح لنفسه بالاجتهاد في أدق القضايا الفقهية، ولكنه لا يجيز ذلك لعلماء العصر المتخصصين، منفردين أو مجتمعين، ما داموا سيصلون إلى ما يخالف ما ذهب هو إليه.

2- التشدد والغلو في الرأي، ومحاسبة الناس على الجزئيات والفروع والنوافل كأنها فرائض، والاهتمام بها والحكم على إهمالها بالكفر والإلحاد.

3- العنف في التعامل والخشونة في الأسلوب، دون التعامل بالحسنى والحوار والاعتراف بالرأي الآخر.

4- سوء الظن بالآخرين والنظر إليهم نظرة تشاؤمية لا ترى أعمالهم الحسنة، وتضخم من سيئاتهم، فالأصل هو الاتهام والإدانة، قد يكون مصدر ذلك هو الثقة الزائدة بالنفس، التي قد تؤدي في مرحلة لاحقة بالمتطرف إلى ازدراء الغير.

5- يبلغ هذا التطرف مداه حين يسقط في عصمة الآخرين، ويستبيح دماءهم وأموالهم، وهم بالنسبة له متهمون بالخروج عن الدين، وتصل دائرة التطرف مداها في حكم الأقلية على الأكثرية بالكفر والإلحاد، إن هذه الظاهرة متكررة وليست وليدة العصر؛ بل وقعت في مختلف العصور وفي كل الديانات السماوية.

6- العزلة عن المجتمع، والعزلة تؤدي وظيفتين:

الأولى: تجنب المتطرفين المنكرات، التي تملأ جوانب المجتمع، وحمايتهم من أن يشاركوا في نهج الجالية.

والوظيفة الأخرى: تكوين مجتمع خاص بهم، تُطبق فيه أفكارهم ومعتقداتهم، وتتسع دائرة هذا المجتمع شيئًا فشيئًا حتى تستطيع غزو المجتمع من خارجه، وكما هو واضح فإن الوظيفة الأولى فكرية دينية، بينما الوظيفة الأخرى سياسية حركية(8).

آثار التطرف والغلو:

1- القهر والقسوة:

من كان مرباه العسف والقهر، سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث؛ وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقًا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالًا على غيره(9).

وبذلك تستهدف القسوة سلب إرادة الشاب، وجعله عاجزًا عن إلجام نفسه بنفسه، وتكون مشفوعة بمجموعة من الانفعالات والأحقاد العمياء، فلا تعرف القسوة حدودًا لها، ولا تحقق سوى العبودية وفقدان الإحساس بالمسئولية، وامتناع تبلور الشخصية، فالقسوة لا تعرف إلا القهر، وقمع كل ما ينم عن الخروج على الخط المرسوم من جانب الأب، فتجعل الشاب بذلك غريبًا عن المجتمع، غير متكيف مع الحياة الاجتماعية، وأخيرًا تنال القسوة السخط والاحتقار من المجتمعات والأفراد المحيطين(10).

2- المبالغات:

يتبع بعض الأشخاص أسلوب المبالغة بشكل عام في الحياة؛ مما يجعلهم صورة مثيرة للسخرية، ذلك أنها نوع من الكذب المرضي، الذي يصور لصاحبه أنه يملك من البلاغة واللعب بعقول الآخرين ما يمكنه من إقناعهم بأفكاره أو خواطره أو هواجسه، وهي دليل أيضًا على عدم النضج النفسي والفكري، الذي يفقد الفرد قدرته على عرض الأفكار بموضوعية منطقية وهدوء ورزانة(11).

فالتساهل في أمور الدين لا يقل خطورة عن الغلو؛ بل هو شر منه، فالمتساهلون يصفون المتمسكين بالدين والوسطية بأنهم متشددون وغلاة ومتطرفون، ويرون الإباحية والتحلل من الدين والأخلاق تقدمًا ورقيًا وحضارة، ويقولون: إن التمسك بالدين فيه كبت للحريات، وعائق عن الانطلاق مع الحضارة العالمية(12).

الأسباب العامة في ظهور الغلو والتشدد:

أذكر هنا ما تيسر لي استقراؤه من أسباب ظهور نزعات الغلو والتنطع في الدين بين المسلمين في العصر الحديث، وهي الأسباب التي غالبًا ما تكون ممهدة لظهور هذه النزعات في أي زمان أو بيئة، وأهمها ما يأتي:

1- قلة الفقه في الدين؛ أي ضعف العلم الشرعي، أو أخذ العلم على غير نهج سليم، أو تلقيه عن غير أهلية ولا جدارة.

2- ظهور نزعات الأهواء والعصبيات والتحزبات.

3- الابتعاد عن العلماء وجفوتهم، وترك التلقي عنهم والاقتداء بهم، والتلقي عن دعاة السوء والفتنة والالتفاف حولهم.

6- شيوع المنكرات والفساد والظلم في المجتمعات، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التقصير فيه، كما في كثير من البلاد الإسلامية.

7- النقمة على الواقع وأهله، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية في كثير من بلاد المسلمين.

8- تحدي الخصوم، في الداخل والخارج، واستفزازهم للغيورين، وللشباب وللدعاة (المكر الكبَّار)، وكيدهم للدين وأهله، وطعنهم في السلف الصالح.

9- قلة الصبر وضعف الحكمة في الدعوة لدى كثير من الغيورين، ولا سيما الشباب المتدين(13).

أسباب ظهور الغلو ومظاهره في العصر الحديث:

أما ما يتعلق بالأسباب التي هيأت لبروز الغلو، الذي هو سبب من أسباب العنف والإرهاب بين المسلمين في العصر الحديث، فهي كثيرة ومتشابكة، تتمثل، في نظري، بما يأتي:

أولًا: إعراض أكثر المسلمين عن دينهم، عقيدة وشريعة وأخلاقًا، إعراضًا لم يحدث مثله في تاريخ الإسلام؛ مما أوقعهم في ضنك العيش وفي حياة الشقاء، كما قال تعـالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، يتجلى هذا الإعراض بأمور كثيرة في حياة كثير من المسلمين اليوم؛ أفرادًا وجماعات، ودولًا وشعوبًا، وهيئات ومؤسسات، ومن مظاهر هذا الإعراض:

1- كثرة البدع والعقائد الفاسدة، وما نتج عن ذلك من الافتراق والفِرَق والأهواء، والتنازع والخصومات في الدين.

2- الإعراض عن نهج السلف الصالح وجهله، أو التنكر له.

3- العلمنة الصريحة في أكثر بلاد المسلمين، والتي أدت إلى الإعراض عن شرع الله، وإلى الحكم بغير ما أنزل الله، وظهور الزندقة والتيارات الضالة، والتنكر للدين والفضيلة، مما أدى إلى:

4- شيوع الفساد، وظهور الفواحش والمنكرات، وحمايتها.

5- التعلق بالشعارات والمبادئ الهدامة والأفكار المستوردة.

وكل هذه الأمور ونحوها مما يندرج تحت مفهوم الإعراض عن شرع الله، وتثير غيرة الشباب المتدين، وحين لا يظهر له السعي الجاد لتغيير الحال وإنكار المنكر يلجأ إلى التصدي لهذه الانحرافات بلا علم ولا حكمة.

6- وقوع أكثر المسلمين في التقصير في حق الله تعالى، وارتكابهم للذنوب والمعاصي والمنكرات، وضعف مظاهر التقوى والورع والخشوع في حياة المسلمين اليوم.

7- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو التقصير فيه في أكثر بلاد المسلمين.

ثانيًا: شيوع الظلم بشتى صوره وأشكاله: ظلم الأفراد، وظلم الشعوب، وظلم الولاة وجورهم، وظلم الناس بعضهم لبعض، مما ينافي أعظم مقاصد الشريعة، وما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم من تحقيق العدل ونفي الظلم؛ مما يُنمي مظاهر السخط والتذمر والحقد والتشفي في النفوس.

ثالثًا: تحكُّم الكافرين، من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين، في مصالح المسلمين، وتدخلهم في شئون البلاد الإسلامية، ومصائر شعوبها، عبر الاحتلال والغزو الفكري والإعلامي والاقتصادي، وتحت ستار المصالح المشتركة، أو المنظمات الدولية، ونحو ذلك مما تداعت به الأمم على المسلمين من كل حدب وصوب، بين طامع وكائد وحاسد.

وغير ذلك من صور التحكم في مصائر المسلمين والحجر عليهم؛ مما أدى إلى تذمرهم، وشعور طوائف من شبابهم ومثقفيهم وأهل الغيرة منهم بالضيم والإذلال والإحباط، وما ينتج عن ذلك من ردود الأفعال والسخط والعنف.

رابعًا: محاربة التمسك بالدين والعمل بالسنن، والتضييق على الصالحين والمتمسكين بالسنة والعلماء والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وبالمقابل التمكين لأهل الفسق والفجور والإلحاد، مما يعد أعظم استفزاز لذوي الغيرة والاستقامة.

خامسًا: تصدر حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام، وأشباههم، للدعوة والشباب بلا علم ولا فقه، فاتخذ بعض الشباب منهم رؤساء جهالًا، فأفتوا بغير علم، وحكموا في الأمور بلا فقه، وواجهوا الأحداث الجسام بلا تجربة ولا رأي ولا رجوع إلى أهل العلم والفقه والتجربة والرأي؛ بل كثير منهم يستنقص العلماء والمشايخ، ولا يعرف لهم قدرهم، وإذا أفتى بعض المشايخ على غير هواه ومذهبه أو بخلاف موقفه أخذ يلمزهم، إما بالقصور أو التقصير، أو بالجبن أو المداهنة أو العمالة، أو بالسذاجة وقلة الوعي والإدراك! ونحو ذلك مما يحصل بإشاعته الفرقة والفساد العظيم، وغرس الغل على العلماء، والحط من قدرهم ومن اعتبارهم، وغير ذلك مما يعود على المسلمين بالضرر البالغ في دينهم ودنياهم.

سادسًا: التعالم والغرور: وأعني بذلك أنه من أسباب ظهور الغلو والعنف في بعض فئات الأمة اليوم ادعاء العلم، في حين أنك تجد أحدهم لا يعرف بدهيات العلم الشرعي والأحكام وقواعد الدين، أو قد يكون عنده علم قليل بلا أصول ولا ضوابط ولا فقه ولا رأي سديد، ويظن أنه بعلمه القليل وفهمه السقيم قد حاز علوم الأولين والآخرين، فيستقل بغروره عن العلماء، عن مواصلة طلب العلم، فَيَهْلك بغروره وَيُهلك، وهكذا كان الخوارج الأولون يدَّعون العلم والاجتهاد، ويتطاولون على العلماء، وهم من أجهل الناس.

سابعًا: فساد الإعلام: الإعلام في العصر الحديث صار، غالبًا، مطية الشيطان إلى كل فتنة وضلالة وبدعة ورذيلة، فإن وسائل الإعلام في أكثر البلاد الإسلامية غالبًا ما تسخَّر في سبيل الشيطان، وهي من خيله ورجله في الدعوة إلى الضلالة، ونشر البدعة والزندقة، وترويج الرذيلة والفساد، وهتك الفضيلة، وحرب التدين وأهله، وبالمقابل فإن إسهام الإعلام في نشر الحق والفضيلة قليل وباهت جدًا، ولا شك أن هذا الوضع منكر عظيم ومكر كبّار، ويعد أعظم استفزاز يثير غيرة كل مؤمن وحفيظة كل مسلم، فإذا اقترن ذلك بشيء من قلة العلم والحلم والصبر والحكمة، وغياب التوجيه الشرعي السليم، أدى ذلك بالضرورة إلى الصَّلف والقسوة في الأحكام والتعامل، وإلى الإحباط والتشاؤم واليأس عند بعضهم، فيندفع إلى التغيير بعنف؛ لذا فإن علاج هذه الظواهر لن يكون حاسمًا إلا بإزالة أسبابها(14).

علاج التطرف والغلو:

كثير من البحوث والمقالات المعاصرة أسهمت في طرح مقترحات جيدة في علاج هذه الظواهر الخطيرة:

1- أهمية الوضوح والشفافية والصراحة في طرح قضايا التكفير والعنف والغلو وأسبابها، والاعتراف بوجودها وآثارها، ولا سيما بعد أن شاعت هذه الأمور عبر وسائل الإعلام والإنترنت، ومجالس الناس الخاصة والعامة.

2- يجب عدم الخلط بين القضايا التي لها أصول شرعية وبين ما فيه مخالفة للشرع، فالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولاء والبراء ونحوها كلها أصول عقدية معتبرة شرعًا بشروطها، فيجب بيان الخطأ في تفسيرها وفهمها، وعدم الخلط بينها وبين التكفير والعنف والإرهاب والغلو، ولا سيما في الخطاب الرسمي للدولة، وفي الخطاب الإعلامي الذي يمثلها.

فليس كل أهل الغلو والتكفير خوارج، وليس كل مكفِّر جهاديًا، وليس كل مجاهد مكفِّرًا، والخلط بينهم أدى إلى تعاطف بعضهم مع بعض، وإلى التباس الأمور على كثير من الناس، وإلى تعاطف آخرين معهم كذلك.

3- كشف مواطن الإشكال واللبس والغموض في القضايا الحساسة، وإعلان الوجهة الشرعية فيها، وتأصيل ما لم يتم تأصيله شرعًا.

4- ثم يتبع ذلك أهمية استقراء شبهات الغلاة ودعاويهم وتلبيساتهم أو الأمور الملتبسة عليهم، وتتبع مقالاتهم ومؤلفاتهم وسائر مزاعمهم، والتعرف على رءوسهم ومرجعياتهم، ثم الرد عليهم بالحجة والدليل والبرهان الشرعي والعقلي، والحوار الجاد مع المنظِّرين والمتبوعين منهم.

5- أما وسائل العلاج والحوار، التي يمكن تفعيلها أو إنشاؤها، والمقترحات حول ذلك، فمنها:

أولًا: طرح برامج وخطط علمية مدروسة ومحددة ومبرمجة بعناية؛ لعلاج ظواهر الغلو بالحوار والمناقشة والحجة والتربية، وبالبرامج العلمية والإعلامية والتربوية والاجتماعية قريبة المدى وبعيدة المدى.

فمن الجانب العقدي والفقهي يجب أن تسهم الجامعات والمؤسسات التربوية؛ كأقسام العقيدة والفقه والكتاب والسنة والثقافة، ومراكز البحث ومراكز خدمة المجتمع، في كل الجامعات الإسلامية؛ لأنها كلها توجد فيها تخصصات شرعية قوية ومحترمة، وتدعم البحوث والدراسات والمواقف الإيجابية بحوافز.

ثانيًا: استنهاض همم العلماء والدعاة والمفكرين والمربين للإسهام في حل المشكلة، وتخفيف آثارها، والحد من انتشارها بأكثر مما هو حاصل، وبكل الوسائل المتاحة.

ثالثًا: يجب إنشاء مراكز وجمعيات ومؤسسات متخصصة رسمية وغير رسمية، تعنى بهذه الأمور، يكون فيها باحثون ومتخصصون متفرغون، يعكفون على البحث والدراسة والحوار، وتوفر لهم الإمكانات اللازمة والوسائل العلمية والإعلامية وغيرها.

رابعًا: ضرورة العدل وإعطاء الناس حقوقهم:

سواء كانت حقوقًا مالية أو سياسية أو اجتماعية أو شخصية، والقضاء على الظلم أو تقليصه، فإن المجتمعات لا يمكن أن يترعرع فيها الأمن وقد ساد الظلم، ومن الظلم سرقة أقوات الناس، وأخذهم بالظنة، وتعذيبهم ومصادرة عقولهم، وعد أنفاسهم، وأخذهم بجريرة غيرهم، فإن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة.

خامسًا: التأكيد على التفريق بين أحكام الدين في الجهاد بشروطه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء بضوابطهما الشرعية، وبين التشدد والغلو والتطرف الذي يحدث باسم هذه الأصول الشرعية العظيمة؛ لأن الخلط وتجاوز هذه الأصول من قبل البعض، والتنكر لها من بعض وسائل الإعلام والكتَّاب يؤدي إلى استفزاز الناس، ويتذرع به أهل الفتنة والغلو(15).

أمور يحسن التنبه لها في معالجة الغلو، منها:

* أن أعظم سبب لوجود التطرف في العصر الحاضر هو التطرف المعاكس في رفض الدين، أو التساهل والإعراض عنه، وعدم الجدية في علاج النوعين بتوازن.

* يجب في هذه الحال التفريق، بوضوح، بين التمسك بالدين والسنة، وهو حق، وبين الغلو والتطرف، وهو باطل.

* أن الغلو (التطرف الديني) لا يمكن علاجه علاجًا حاسمًا إلَّا بأمرين، وهما:

1- الحوار الجاد والمجادلة بالتي هي أحسن، ومن خلال النصوص الشرعية والقواعد المعتبرة من قبل الراسخين والمتخصصين، الذين يحترمهم المحاور ويعترف بجدارتهم.

2- ثم الجد والحزم في معالجة أسباب الغلو، بعد إقامة الحجة وكشف مواطن الانحراف بجلاء.

* أن أكثر ما يثيره أهل الغلو (التطرف الديني) مبني على أوهام وظنون وشائعات وتلبيس، ثم أدى ذلك إلى التهاجر والقطيعة بينهم وبين العلماء والمفكرين ورجال الدولة.

فالحل هو كشف الحقائق، والشفافية، والحوار الجاد، واللقاء المباشر، وفتح الأبواب بضوابط.

* يجب أن تضبط التعددية وحرية الرأي، التي ظهرت الدعوة إليها أخيرًا، بالضوابط الشرعية؛ بحيث تكون التعددية في الاجتهادات لا في العقيدة والمسلَّمات والثوابت، ولا تكون ترويجًا للفرق والبدع والأهواء؛ فالبلد بلد الإسلام والسنة، ويجب أن تبقى كذلك.

وأرى أن تجاوز هذه الثوابت، من قبل بعض الجاهلين، كان من أسباب تصاعد الغلو وذرائعه.

***

_________________

(1) أخرجه البخاري (3445).

(2) التطرف الديني، ص140.

(3) أخرجه مسلم (55).

(4) أخرجه البخاري (220).

(5) أخرجه النسائي (3057).

(6) أخرجه أحمد (24855).

(7) الكشاف (1/ 666).

(8) مفهوم التطرف، المرصد العربي.

(9) مقدمة ابن خلدون، ص540.

(10) رعاية المراهقين، ص41-43.

(11) الكلمة بين البلاغة والمبالغة، مجلة القادة، (العدد:13).

(12) الغلو مقابل التساهل، صالح الفوزان.

(13) الغلو.. الأسباب والعلاج، موقع: السكينة.

(14) سمات الخوارج ونزعاتهم في العصر الحديث، موقع: الألوكة، المجلس العلمي.

(15) الغلو.. الأسباب والعلاج، الموقع الرسمي للمكتبة الشاملة.