logo

مقاصد صلاة الجماعة


بتاريخ : الثلاثاء ، 15 جمادى الآخر ، 1443 الموافق 18 يناير 2022
بقلم : تيار الاصلاح
مقاصد صلاة الجماعة

يقول ابن القيم: فاعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون المحبين، ولذة أرواح الموحدين، وبستان العابدين ولذة نفوس الخاشعين، ومحك أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين.... ولما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة وأشباهها من داخل فيه وخارج عنه، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخلع والعطايا، ودعاه إليها كل يوم خمس مرَّات، وجعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة، لذة ومنفعة ومصلحة ووقارًا لهذا العبد.. فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه، وخلع عليه بخلع القبول، وأغناه، وذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة، قد ناله من الجوع والقحط والجذب والظمأ والعري والسقم ما ناله، فصدر من عنده وقد أغناه وأعطاه من الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه (1).

خصائص الصّلاة في الإسلام:

الصلاة هي عماد دين الإسلام، وركن أساسي فيه، وهي الفريضة الأولى بعد الإيمان بالله، والصلاة التي يخشع فيها المسلم وتجعله ذليلًا أمام الله متواضعًا لخلقه، تدفعه لفعل الخير وتبعده عن الشر، فيكون قويًا بالله مُعتمدًا عليه في أموره كلها، ويتّجه المسلمون جميعًا نحو بيوت الله تعالى، التي قال عنها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (3)} [النور: 36- 37]، وهذه البيوت مركز مهم في حياة المسلم؛ ففيها التوجيه، والتدريس، والتعليم، وتبادل هموم الأُمّة، وهي مكان راحة وسَكينة للقلوب والأرواح، وبعدها تخرج للمُجتمع صالحةً مُصلحةً عاملةً بانيةً، وللصلاة خصائص وميّزات، منها ما يأتي:

يُطلق على الصلاة لفظ الإيمان؛ تعظيمًا لمكانتها، كما في قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143].

خُصّص ذكر الصلاة في كثير من المواضع بين الأعمال والشعائر الإسلامية، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ} [الأنبياء: 73]، ذُكرت الصلاة مقرونةً مع عباداتٍ أخرى كثيرة في العديد من مواضع القرآن الكريم، مثل قوله سبحانه وتعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 3]، ذكر الله تعالى أهمية الصبر عليها، وأَمَر بذلك، كما في قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132]، لا تسقط الصلاة عن المسلم تحت أيّ ظرف، فهي واجبة عليه بكل الأحوال والأوقات.

جَعَلها الله أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة، فإن صَلُحت صَلُحَ العمل كلّه، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر» (2).

أثر الصّلاة في حياة الفرد والمجتمع:

إنّ للصلاة آثارًا عظيمة في حياة الفرد، ومن ذلك ما يأتي:

صلةٌ بين العبد وربّه: فقد منّ الله تعالى على المُسلمين بأن رزقهم تِلك الصِّلة العظيمة بين الإنسان بضعفه وبين الإله الواحد العظيم بسلطانه وقدرته، إنّها الصلاة، فهي العبادة المُرتبطة بالمسلم بكل أحواله سواء كان مريضًا، أو مسافرًا، أو حتى مُجاهِدًا فيها، وتجتمع فيها جميع العبادات قلبيًّا وعقائديًا وبدنيًّا ولفظيًّا.

الصلاة مُكفّرة للذنوب والخطايا: فقد ورد في حديث نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا» (3).

هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمحو الخطايا بالصلوات الخمس، فجعل مثل ذلك مثل من ببابه نهر يغتسل فيه كل يوم خمس مرار، كما أن درنه ووسخه ينقى بذلك حتى لا يبقى منه شيء، فكذلك الصلوات الخمس في كل يوم تمحو الذنوب والخطايا حتى لا يبقى منها شيء.

واستدل بذلك بعض من يقول: إن الصلاة تكفر الكبائر والصغائر، لكن الجمهور القائلون بأن الكبائر لا يكفرها مجرد الصلاة بدون توبة (4).

الصلاة ملجأ العبد إلى الله: فمن آثار الصلاة أنها تُشعر المسلم بِعزّةٍ ورفعةٍ عندما يضع الشخص جبهته وناصيته على الأرض؛ ليتذلل ويفتقر إلى خالقه، فيتحرر من قيوده، ويعلن كامل التسليم لله تعالى، ويكرر في استقامة قلبه: سبحان ربي الأعلى.

ارتباط الصلاة بالأخلاق: فقد قَرَن الله تعالى في غير موضعٍ من القرآن الكريم الصلاةَ باستقامة الخُلُق، فقال: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

قال أبو العالية: إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر القرآن يأمره وينهاه (5).

فالصلاة تَبني وتُقّوِّم الوازع الأخلاقي وجوانب عديدة أخرى، منها الجانب الفكري؛ حيث تَحُثُّ المسلم على التفكر والتدبر في خلق الله تعالى، ويحرص المسلم فيها على التَزين والتَّطِيب وأن يكون بأفضل حلة أمام الله، وغير ذلك من الجوانب، الصلاة وسيلة لسكينة النفس واستقرارها: وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: «وصلوا كما رأيتموني أصلي» (6)؛ توجيهٌ نحو الأناة وعدم الاستعجال، فيتعلم المسلم كيف يعيش كل لحظةٍ من حياته دون تَعجُّل، ويكون مُدركاً أنّ الأمر كلّه بيد الله، وأنّ الضر والنّفع بيده سبحانه وحده.

وللصلاة آثارًا عظيمة على المجتمع المسلم، فعندما يقرأ المسلم آية: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، وما فيها من دلالاتٍ على أهمية صلاة الجماعة وجوبًا كما في صلاة الجمعة، أو رغبة في الأجر كما في بقية الصلوات؛ فإن ذلك فيه آثار مختلفة وعديدة على كل من الفرد والمجتمع، من خلال إظهار الشعائر بشكل جماعي، كما أن التزام العلماء والصالحين فيها سبب في اقتداء الضعفاء والأقل إيمانًا بهم في ذلك، واجتماعهم عليها جميعًا من صغير، وكبير، وعالم، وجاهل، وقوي الإيمان وضعيفه يبين عظمة دين الإسلام ووحدته، وأن كلمة الله تعالى هي العليا.

كما أن لأذان الصلاة أيضًا وقع خاص في أسماع المسلمين؛ فهو بمثابة الإعلان عن دخول وقت الصلاة، وترسيخ العقيدة في نفوس المسلمين التي تؤكد على معاني توحيد الله تعالى وإثبات النبوة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من خلال الأذان وتكراره.

ومن الآثار أيضًا أن الفروق تتلاشى بين الناس حين يصطف الفقير بجانب الغني، والمسؤول بجانب المواطن، والأبيض والأسود، وكلهم يعترفون بافتقارهم وعبوديتهم لله تعالى، ويؤدونها بشكلٍ يومي؛ ليرسّخ في نفوسهم ونفوس غيرهم وحدة هذا المجتمع وهذه الأمة.

وحين يتجه المسلمون باتجاه قبلة واحدة ويتحدون في جميع أنحاء الأرض في عبادتهم وعقيدتهم وقبلتهم، وكأنهم جسد واحد، فهي من أعظم أسباب ثبات المسلم في المحن.

والصلاة تزيد من ثقة المسلم بربه مع المداومة عليها، وتغذي الجانب الاجتماعي في حرص الإسلام على صلاة الجماعة ورفع قيمتها وأجرها، ويوجب الشرع صلاة الجمعة للرجال، وهي لا تصح إلا في جماعة، ومن هنا يخالط المسلم بقية المسلمين ويتعرف عليهم، وتزداد الوحدة بينهم (7).

فضل صلاة الجماعة:

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمسًا وعشرين ضعفًا» (8).

فإن صلاة الجماعة لعظم فضلها تم التأكيد عليها في الحضر والسفر، وحتى في الحرب والسلم، وكان التهديد والوعيد والهم على حرق بيت المتخلف عنها، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلي قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» (9)، بل إن السنة بينت عدم قبول عذر من يسمع النداء، كما ثبت أن «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا» (10).

قال ابن دقيق: محمول على الصلاة في جماعة، وإن كان غير مذكور في اللفظ؛ لدلالة السياق عليه، وقوله عليه السلام: «لأتوهما ولو حبوًا»، وقوله: «ولقد هممت -إلى قوله- لا يشهدون الصلاة»، كل ذلك مشعر بأن المقصود: حضورهم إلى جماعة المسجد.

إنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين، لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما، وقوة الصارف عن الحضور، أما العشاء: فلأنها وقت الإيواء إلى البيوت والاجتماع مع الأهل، واجتماع ظلمة الليل، وطلب الراحة من متاعب السعي بالنهار.

وأما الصبح: فإنها في وقت لذة النوم. فإن كانت في زمن البرد ففي وقت شدته، لبعد العهد بالشمس، لطول الليل، وإن كانت في زمن الحر: فهو وقت البرد والراحة من أثر حر الشمس لبعد العهد بها.

فلما قوي الصارف عن الفعل ثقلت على المنافقين، وأما المؤمن الكامل الإيمان: فهو عالم بزيادة الأجر لزيادة المشقة فتكون هذه الأمور داعية له إلى هذا الفعل، كما كانت صارفة للمنافقين ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ولو يعلمون ما فيهما» أي من الأجر والثواب، «لأتوهما ولو حبوًا»، وهذا كما قلنا: إن هذه المشقات تكون داعية للمؤمن إلى الفعل (11).

كما أكدت السنة على أن فضلها عظيم، فعن أنس بن سيرين، قال: سمعت جندب بن عبد الله، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه فيكبه في نار جهنم» (12).

وأن ثوابها في الآخرة عظيم «بشر المشائين في الظلم إلي المساجد بالنور التام يوم القيامة» (13).

مقاصد صلاة الجماعة:

أبرزَ علماء المقاصد والأسرار ما تتضمنه هذه الشعيرة من غايات وحكم باهرة، وليس بغريب أن تسجل السنة النبوية حضورًا واضحًا في إبراز مقاصد صلاة الجماعة، من خلال النظر الكلي إلى مجموع نصوصها الواردة في ذلك.

المقصد التعبدي لصلاة الجماعة:

الأساس في مقاصد صلاة الجماعة أنها صلة بين العبد وربه، وتقوية لهذه الصلة، بحيث ترتقي علاقته الروحية بربه إلى مستوى عال من اليقظة التي تمكنه من أن يعبده فيها كأنه يراه، وبالتالي رفع درجات المراقبة والمحاسبة والخوف من الله، فضلًا عن رفع درجة إيجابيته الاجتماعية، وهذا المقصد الروحي للصلاة، يعد من أهم مقاصدها، لأن هذا هو غاية الخلق عمومًا، وتأتي بقية المقاصد تابعة لهذا الأصل.

كما في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء، إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة» (14).

فعلمه أن المساجد بقاع مقدسة، وأن الاجتماع فيها له مقصود شريف، وهو ذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، ومجموع تلك الأعمال هو التعبد لله تعالى، وتقوية الارتباط بين العبد وربه تبارك وتعالى، وهذا المقصد ظاهر غني عن الاستدلال عليه.

مقصد الاجتماع والألفة:

الاجتماع هو: الاتفاق واتحاد الرأي، ولا شك أن الاجتماع لصلاة الجماعة في المساجد لا يقصد به مجرد اجتماع الأبدان، إذ قد يتفق ذلك في المجالس، والأسواق، والمناسبات العامة، ولكن المقصود به اجتماع مبني على الألفة، والصلة الإيمانية بين المصلين، وذلك مظنة الوحدة الفكرية، واجتماع الرأي.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على التنبيه على هذا المعنى، كما في حديث أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم (15)، فهي بهذا الاعتبار رمز لوحدة المسلمين وجمع قلوبهم واتحاد صفوفهم، كما في حديث أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية» (16)، قال زائدة: قال السائب: يعني بالجماعة: الصلاة في الجماعة.

والمتأمل في طبيعتها وأهدافها وخصائصها ووظائفها الروحية والاجتماعية، يلاحظ أثرها على تنمية الحس الاصطلاحي والخيري لدى المسلم، والعمل على السير بها قدمًا في اتجاه الانسجام والتوازن والصلاح والخير.

ولذلك قال ابن العربي في أحكام القرآن في التعليق على قوله تعالى: {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107]، يعني أنهم كانوا جماعة واحدة في مسجد واحد، فأرادوا أن يفرقوا شملهم في الطاعة، وينفردوا عنهم للكفر والمعصية، وهذا يدلك على أن المقصد الأكثر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة، حتى يقع الأنس بالمخالطة؛ وتصفو القلوب من وضر الأحقاد والحسادة (17).

وقد شرع الاجتماع للصلاة مع اختلاف أغراضها ومناسباتها، فشرعت لصلاة الفرائض الخمس، وصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وصلاة التراويح، وصلاة الجنازة، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء، مما يدل على أن الصلاة مقترنة بالاجتماع في أغلب أحوالها.

ولما لم يكن الغرض هو مجرد جمع الناس في مكان واحد فحسب، بل شرع لهذا الاجتماع أمور تنظمه، وتحقق مقصد الألفة والانضباط، كتسوية الصفوف، واحترام قدسية المكان بعدم رفع الأصوات، وهيشات الأسواق، والنهي عن إنشاد الضالة، والنهي عن مسابقة الإمام، أو الاختلاف عليه، حينها تبين أن المقصد هو الاجتماع المنتظم، الذي تتهذب به كل نوازع الفرقة والاختلاف والأنانية.

فحرصت الشريعة على أن يكون الإمام موضع رضا من المأمومين، بمعنى غير ساخطين له، حتى يتحقق به مقصد الاجتماع، كما في حديث عبد الله بن عمرو، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ثلاثة لا يقبلُ الله منهم صلاةَ: (وذكر منهم) مَن تقدَّمَ قومًا وهم له كارهون...الحديث» (18).

ويستدل أيضًا في هذا المقام بفعل النبي صلى الله عليه وسلم من توحيد صلاة الجمعة، وفعل الخلفاء الراشدين من بعده، مما يدل على تأكد مقصد الاجتماع، وهكذا رأي فقهاء الأمصار في منع تعدد الجمعة إلا على سبيل الاستثناء للحاجة الظاهرة، عند توسع الدول والأقطار، وإلا فيبقى الرأي على جمع الناس في خطبة واحدة، فهذا أدعى لتحقيق مقصد الاجتماع، وإزالة أسباب الفرقة والاختلاف، بخلاف ما جرى في هذا العصر من التساهل في إنشاء الجمعة دون التفات إلى ما سبق، فهذا يعود على مقصدها بالنقص والاختلال.

يقول الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع: لو تعددت الجمعة لفات المقصود الأعظم، وهو اجتماع المسلمين وائتلافهم؛ لأنه لو ترك كل قوم يقيمون الجمعة في حيّهم ما تعارفوا ولا تآلفوا، وبقي كل جانب من البلد لا يدري عن الجانب الآخر، ولهذا لم تقم الجمعة في أكثر من موضع، لا في زمن أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الصحابة كلهم، ولا في زمن التابعين (19).

مقصد التنظيم والترتيب في صلاة الجماعة:

يبرز أيضًا في صلاة الجماعة مقصد تدريب المسلم على النظام والترتيب، من خلال الإلزام بمتابعة الإمام؛ دون تقدم عليه ولا تأخر عنه في جميع أفعال الصلاة امتثالا لقصد الشارع الظاهر في قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: «فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلى قائمًا فصلوا قيامًا» (20)، وهي بذلك تعلم المسلمين التوحد، وجمع الكلمة، وتربط بين المسلم ومجتمعه، وتشجعه على نبذ الفوضى والأنانية، والخلاف والشقاق، ومن ثم فهي تعمل على حفظ وحدة صفوف المسلمين، وقيام نظام الألفة والتربية على الانتظام والانضباط والإتباع والسمع والطاعة والاقتداء.

وهذا يقتضي التهيئة لإقامة النظام بمفهومه الأوسع في حياة المسلمين، من خلال إقامة نظام الجماعة السياسية المسلمة، ولن يتأتى ذلك إلا إذا صاغوا أنفسهم في جماعة واحدة، وفي صفوف متراصة كالبنيان الواحد وراء إمام واحد دفعًا للفساد والاختلاف، ومنه سمي المسجد بالمسجد الجامع: لأنه علامة للاجتماع، ومن لم يتعلم الانضباط في هذه الصورة المصغرة فسيكون فوضويًا في المشهد الأكبر المتعلق بالأمة، ولذلك فإن المقيمين لصلاة الجماعة بهذا الوعي يكونون أقدر على احتمال الفروض الكفائية الأخرى بكامل الانضباط والإتقان.

 وهذا ملحوظ في قول عمر رضي الله عنه الذي أورده الآجري في الشريعة: رضيناه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا، فقد استأنس الصحابة بمثل هذا القياس اللطيف، وهو ما يسمى بقياس الأولى عند جمهور الأصوليين، بحيث قدموا الصديق رضي الله عنه في الإمامة الكبرى قياسًا على إمامة الصلاة، وهذا يدلنا على أن الصلاة وما يتعلق بها من مشروعية الجماعة وإن كانت مشهدًا مصغرًا في حياة المسلمين لكنها مرتبطة بالإمامة العظمى، من حيث تربية النفوس على معاني الانضباط التي يحتاجونها في مثل هذه القضايا المصيرية.

وصلاة الجماعة تربي على ممارسة صور الرقابة الشعبية على أعمال الإمام في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإذا أخطأ الإمام ساهيًا عن قول أو فعل من أوضاع الصلاة فعلى المأموم تصحيح الخطأ بتنبيه الإمام إليه، وفي ذلك تدريب على تقديم النصح والرقابة بالمعروف والموعظة الحسنة، وكما أنه لا يجوز للمأموم متابعة الإمام على زيادة في ركعات الصلاة أو في أركانها على سبيل المثال رغم أنه مأمور بمتابعته في جميع الأحوال ركوعًا وسجودًا؛ ابتداء وانتهاء؛ إلا أنه إذا خرج عن قواعد المشروعية وجب رده برفق ولين، وهو في ذلك كله يمارس ويتدرب على واجب طاعة الحاكم في غير معصية، فإن خرج الحاكم على قواعد المشروعية وجب نصحه بالاستفتاح دون الخروج عليه، ولا المتابعة له على المعصية.

 مقصد المساواة في صلاة الجماعة:

ويظهر هذا المقصد من خلال الأمر بتسوية الصفوف بلا تمييز أو تفضيل، فالجميع خاضع خضوع عبودية لله، ولا يسوغ لأحد أن يخل باستقامة الصف بتقديم أو تأخير؛ وإلا كان معتديا على نظام الجماعة، لا فرق بين حاكم ومحكوم؛ ولا بين الصغير والكبير؛ أو بين الغني والفقير، لا فرق بين أيٍّ من المصلين؛ فبتكبيرة الإمام يكبر المأمومون، وبتسليمه يسلمون كلهم على صف واحد في نظام عجيب.

ففي أداء صلاة الجماعة تأكيد للمساواة الكاملة، بحيث ينتظم الجميع في صفوف متراصة على سبيل المساواة بعضها خلف بعض؛ كل فرد حر في اختيار مكانه من الصف؛ لا يجوز أن يؤثر عليه غيره مهما كانت منزلته؛ كما لا يحق لأي أحد أن يمنعه من ذلك، وأحاديث السنة النبوية وافرة معلومة في كل جزئية مما سبق.

وهنا نسجل شهادة الكاتب الانجليزي هراس ليف على ما شاهده من مظهر المساواة وهو يرى جموع المصلين، حين قال: ما كان شيء في العالم ليقنعني بأن أي دين من الأديان يدعو إلى المساواة بين الناس، ولو أن بعضها يتظاهر بهذه الدعوة، فقد زرت كثيرًا من الكنائس والمعابد، رأيت التفريق بين داخل المعابد كما هو خارجها، وكان اعتقادي بالطبع أن الأمر لا بد كذلك داخل المساجد الإسلامية، ولكن ما كان أشد دهشتي حينما رأيت الشعور بالمساواة على أتمه بين المسلمين في عيد الفطر في مسجد ووكنج بلندن، هنالك وجدت أجناسًا مختلطين على اختلافهم في المراتب اختلاطًا لك أن تسميه أخويًا، ولم أكن شاهدت مثل ذلك، ترى في المسجد فقيرًا يصافح عظيمًا من رجال الأعمال المصريين أو سياسيًا من بلاد العرب، وقد ارتفعت الكلفة بين الجميع فلا يأنف أحدهم مهما عظم قدره من أن يجاوره في الصلاة أقل الناس شأنًا، وإنك لا تجد أقل محاولة لتخطي الصفوف إلى مكان ممتاز في المسجد، لأنه ليس هنالك أي مكان ممتاز فالكل عند الله سواء، لا فضل لأحد على سواه (21).

-----------

(1) الجامع لأحكام الصلاة (ص: 5)، نقلًا عن كتاب أسرار الصلاة للإمام ابن القيم.

(2) أخرجه الترمذي (413).

(3) أخرجه البخاري (528)، ومسلم (667).

(4) فتح الباري لابن رجب (4/ 221).

(5) تفسير ابن كثير (6/ 282).

(6) أخرجه البخاري (631).

(7) أثر الصلاة في حياة الفرد والمجتمع/ موضوع.

(8) أخرجه البخاري (620).

(9) أخرجه البخاري (618)، ومسلم (651).

(10) أخرجه البخاري (626)، ومسلم (651).

(11) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 193).

(12) أخرجه مسلم (657).

(13) أخرجه ابن ماجه (781).

(14) أخرجه أحمد (12984).

(15) أخرجه مسلم (432).

(16) أخرجه أبو داود (547).

(17) تفسير القرطبي (8/ 257).

(18) أخرجه أبو داود (593).

(19) الشرح الممتع على زاد المستقنع (5/ 70).

(20) أخرجه البخاري (378).

(21) مقاصد صلاة الجماعة/ موقع مقالات إسلام ويب.