الحكمة الدعوية
يقول الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[البقرة:269]، إذًا فالحكمة منة ونعمة عظيمة من الله تعالى،
يمتن بها على من يشاء من عباده، وهي من الأشياء التي يمكن اكتسابها بالمراس والمران.
ويعرف ابن القيم رحمه الله تعالى الحكمة بأنها:«فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي»(1).
إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به؛ لا على الدعوة، ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله.
والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه(2).
يقول الشيخ السعدي رحمه الله:{ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125]،أي كل أحد على حسب حاله وفهمه، وقبوله وانقياده، ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبداءة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة وإلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المَقرون بالترغيب والترهيب(3).
والحكمة التي نرمي إلى بيانها هنا هي الحكمة التي ينبغي أن يتصف بها القائم بالدعوة إلى الله، ومن أجل هذا فهي غالبًا ما تكون قولًا في علم وموعظة، أو تصرفًا نحو الآخرين من أجل دفعهم إلى الخير أو صرفهم عن الشر.
وفي هذا المفهوم يقول ابن زيد: «كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة».
وأدق من هذا قول أبي جعفر محمد بن يعقوب: «كل صواب من القول ورث فعلًا صحيحًا فهو حكمة».
وفي تعريفات الجرجاني: «كل كلام وافق الحق فهو حكمة».
والحكمة من أعظم الركائز وأهمها التي تقوم عليها الدعوة إلى الله، ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو بها في قوله تعالى: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].
والحكمة في المفهوم الدعوي لا تقتصر على الكلام اللين، أو أسلوب الترغيب وحده، أو التودد والتلطف دومًا فحسب؛ بل هي تشمل ذلك وغيره، وحقيقتها أن توضع هذه الأمور وغيرها من التصرفات الحميدة والأساليب الجميلة، وتستخدم في مواضعها المناسبة لها، فالرفق واللين يستخدمان في موضعهما، والحزم والقوة يستخدمان في موضعهما المناسب لهما.
والحكمة لا تعني بأي حال من الأحوال الضعف والخور والجبن، ولا تعني كذلك العنف والقسوة والشدة دون مبرر شرعي، يقول الشنقيطي رحمه الله: «فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق، فإنها تضر أكثر مما تنفع، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسنادًا مطلقًا، إلا لمن جمع بين العلم، والحكمة، والصبر على أذى الناس; لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم، وهو مستلزم للأذى من الناس; لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة.
واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين وطريق قسوة؛ أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت، وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده، وتقام حدوده، وتمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»(4).
الداعية الحكيم:
الداعية الحكيم هو الذي يقوم بالدعوة على بصيرة، ويبلغها بكل ثقة، ويؤديها بكل دقة وإتقان، فيضع الأمور في نصابها ويقدرها حق قدرها.
فمن الحكمة ألا يدعو الداعي إلا بعلم ومعرفة، وأن يكون هدفه في دعوته ابتغاء مرضاة الله، وتعبيد الناس لله رب العالمين، وأن يترفع عما في أيدي الناس، وأن يحب الخير لهم، ويحسن إليهم، وأن يعرض عن اللغو، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه؛ إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه ولبه بما لا جدوى له، وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك(5).
ومن الحكمة التدرج في الدعوة، ومراعاة الأولويات فيها، والبدء بالأهم فما دونه، والعناية بالأصول قبل الفروع، ويدل على ذلك ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب»(6).
ومن الحكمة في موضوعات الدعوة: اختيار الموضوع المناسب للمدعو، كما هو الحال في دعوة موسى وهارون عليهما السلام لفرعون؛ حيث كانت حال فرعون ظلم بني إسرائيل وإيذاءهم واضطهادهم والتضييق عليهم، فكان موضوع دعوتهما له بعد التوحيد رفع الظلم عن بني إسرائيل وترك الطغيان، وهذا ما يناسب حاله، يقول تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47]، وقال تعالى لموسى: {اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)} [النازعات:17-26].
وكذلك الحال في دعوة لوط عليه السلام لقومه، حيث دعاهم بعد التوحيد إلى ترك الفاحشة التي كانت شائعة بينهم، فكان موضوع الدعوة مناسبًا لحالهم، وهذا من الحكمة، يقول تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)} [الشعراء:160-166].
ومن الحكمة في الدعوة اختيار الوقت المناسب لعرضها، واستغلال الفرص المناسبة والظروف المواتية لتبليغها، وتجنب الأوقات والأحوال التي لا تتهيأ النفوس فيها للاستماع والاستيعاب، ويدل على ذلك ما جاء في قوله تعالى عن موسى وفرعون والسحرة: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59]، فاختيار ضحوة ذلك اليوم الذي يجتمع فيه الناس في مكان مكشوف ليرى كل الناس المناظرة الحاسمة(7)، هو عين الحكمة.
وكانت نتيجة المواجهة الحكيمة، بعد توفيق الله، أن تحول السحرة الكفرة الفجرة إلى مؤمنين أتقياء بررة، ويدل على ذلك أيضًا ما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا»(8).
ومما يدل على ذلك أيضًا ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك؛ يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب»(9).
ومن الحكمة في الدعوة عدم تأخير البيان عن وقته، وقول الحق في الظرف الذي يستدعي قوله فيه، كما في قصة مؤمن آل فرعون، الذي قال الحق واعترض على فرعون في تهديده بقتل موسى عليه السلام: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28].
ومن الحكمة الدعوية معرفة الداعي للمدعو من حيث طبيعته ومستواه وإمكاناته وظروفه وأحواله، واختيار المدعو المناسب لقدرات الداعية وإمكاناته، وظروفه، والتعامل مع المدعو بما يناسب أحواله وطبائعه، ومراعاة مدارك المدعوين وعقولهم، وإنزال الناس منازلهم، ويدل على ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود.
ومن الحكمة الدعوية اختيار الأسلوب والوسيلة التي تناسب الموضوع، وتناسب المدعو، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [العنكبوت:46]، وهذا من الحكمة.
ومنها الاكتفاء بذكر الخطأ، وعدم التصريح بصاحبه حيث لا تدعو الحاجة الشرعية لذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام»(10)، مثل ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية»(11).
ومثله ما ثبت عن أنس أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(12)(13).
ومن الحكمة في الدعوة كذلك مراعاة بيئة كل مدعو، وضرْب الأمثال النافعة له من واقع بيئته، ولفْت نظر المدعوين إلى نِعَم الله عليهم، وإحسانه إليهم دون قسوة أو غِلظةٍ؛ بل يزن الكلام وزنًا، ويُقدره تقديرًا قبل أن يتكلَّم به، ثم يستشعر الداعية في نفسه موقف المدعو وكأنه هو، وأن مراده من دعوته إنما هو سعادته في الدنيا والآخرة.
ومن الحكمة كذلك تلوينها وتنويعها؛ بين السرية والجهرية والليلية والنهارية، وفي ذلك كله يذكر اللهُ تبارك وتعالىحكمةَ نوحٍ عليه السلام في دعوته إذ يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5)فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:5-12].
إن الحكمة هي الضابط المهم لتصرفات الداعية وتعامله مع المدعوين، وهي من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية في جميع مراحل دعوته؛ قبل الدعوة، وأثناءها، وبعدها.
نماذج من الحكم النبوية في الدعوة:
عن معاوية بن الحكم السُّلَمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطَس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْل أُميَّاه، ما شأنكم تنظرون إليّ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصَمِّتونني، لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهَرني، ولا ضربني، ولا شتَمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلُح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(14).
وعن أبي هريرة قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلموأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام، فتأبَى عليّ، فدعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادعُ الله أن يهدي أمَّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ اهدِ أمَّ أبي هريرة».
فخرجتُ مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا جئتُ فصِرتُ إلى الباب، فإذا هو مُجاف، فسمِعت أمي خَشْف قدَمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمِعتُ خَضْخضة الماء، قال: فاغتسلتْ ولبِستْ دِرعها، وعَجِلت عن خِمارها، ففتحت الباب: ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتُه، وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشِر، قد استجاب الله دعوتك وهدى أمَّ أبي هريرة، فحمِد الله وأثنى عليه، وقال خيرًا، قال: قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويُحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبِّب عبيدك هذا،يعني أبا هريرة وأمه، إلى عبادك المؤمنين، وحبِّب إليهم المؤمنين»، فما خُلِق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبَّني(15).
في صحيح مسلم عن معاذ بن جبل قال: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم،ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرَّحل، فقال: «يا معاذ بن جبل»، قلت: لبَّيك رسول الله وسَعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: «يا معاذ بن جبل»، قلتُ: لبَّيك رسول الله وسَعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: «يا معاذ بن جبل»، قلت: لبَّيك رسول الله وسَعديك، قال: «هل تدري ما حق الله على العباد؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا»، ثم سار ساعة، ثم قال: «يا معاذ بن جبل»، قلتُ: لبَّيك رسول الله وسعديك، قال: «هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «ألا يُعذبهم»(16).
آثار الدعوة بالحكمة:
1-الاقتداء به:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
2-السلامة من الخطأ.
3-العصمة من الضلال والإضلال.
4-أدعى لاستجابة الناس(17).
_____________
(1) انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (2/449).
(2) في ظلال القرآن (النحل: 125).
(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (النحل: 125).
(4) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (المائدة: 105).
(5) التحرير والتنوير (20/145).
(6) رواه البخاري (1496)، ومسلم (27).
(7) محاسن التأويل (5/105).
(8) رواه البخاري (66)، ومسلم (5047).
(9) رواه البخاري (5862).
(10) رواه البخاري (6101)، ومسلم (2356).
(11) رواه البخاري (5636).
(12) رواه مسلم (2487).
(13) الحكمة الدعوية، مجلة البحوث الإسلامية، العدد: 88.
(14) رواه مسلم (537).
(15) رواه مسلم (2491).
(16) رواه البخاري (6267)، ومسلم (30).
(17) الحكمة في الدعوة إلى الله، أ.د. سليمان بن قاسم بن محمد العيد.