logo

عندما تنكسر الإرادة


بتاريخ : الاثنين ، 18 شوّال ، 1436 الموافق 03 أغسطس 2015
بقلم : تيار الاصلاح
عندما تنكسر الإرادة

إن من أعظم ما أصيب به المسلمون اليوم؛ بل هو أعظمه ولا شك، ما سيطر عليهم من روح الانهزام أمام أعدائهم، وضعف الهمة عن بعث روح المقاومة والمغالبة، والعجز عن مجرد التفكير في ذلك، حتى بلغت الأمة الإسلامية في ذلك مبلغًا؛ من الانحطاط والتقهقر والتخلف، لا مزيد عليه، فرضيت بالقعود واستسلمت للغزاة، وتخلفت عن القيام بالواجب، واستحلت الإخلاد إلى الدعة والراحة والسكون والمهادنة؛ طمعًا في العاجلة, وفرارًا من المواجهة, ورغبة في المزيد من الانغماس في الترف، الذي غرقت في أوحاله إلى أذنيها، وانطبعت به حياتها فتعودت عليه.

 

 إن هذه الروح الانهزامية التي انتشرت في أوساط الأمة الإسلامية لهي أخطر عليها من كل سلاح؛ بل لقد قامت وحدها مقام كل سلاح يمكن أن يغزوها به أعداؤها في القديم والحديث؛ إذ حققت لأولئك الأعداء ما لم يكونوا يستطيعون تحقيقه بالقوة والبطش والجبروت, فحققوا، عن طريق ما يسمى بالغزو الثقافي والفكري الذي أنتج تلك الهزيمة النفسية في مجتمعات المسلمين وأفرادهم على السواء وأدى إليها، ما لم يكونوا يحلمون به.

كل كلمة من كلمات الإحساس بالخزي والضعف والمهانة تنطبق على بعض مسلمي اليوم، العاجزين عن إيجاد أي انتماء لهم، سواء من الناحية الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية .

إن الضبابية التي تسيطر على الرؤية عند هؤلاء تجعلهم عاجزين عن إيجاد هوية ينتمون لها، فالإسلام الذي يحملون هويته في أوراقهم الثبوتية لا يجدون فيه ضالتهم وأمنهم؛ لأنهم، لاعتبارات تربوية، جهلوا أحكامه وتعاليمه، وثقافتهم ولغتهم، التي رفع من شأنها القرآن الكريم، لم تعد تفي بغرضهم؛ لأنهم لا يستخدمونها في معاملاتهم اليومية، أما هويتهم الاجتماعية فهي بدورها مبددة مع تبدد العادات والتقاليد، ومع تفتت الأسرة وضياع كل من المرأة والرجل.

وهناك أيضًا مِن المسلمين مَن يعود إلى نفسه، في لحظة من لحظات صفاء فطرته، فيبحث في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة عن دلائل النصر التي وعد بها الله عز وجل، ويستغرب سبب تأخر هذا النصر مع وجود كل هذا الظلم والمعاناة التي تحيط بالمسلمين اليوم.

وقد نسي أو جهل أو أغفل أسباب النصر التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والتي ربطها الله عز وجل بالعمل الجاد، وإخلاص النية، وبذل النفس والمال، وما إلى ذلك من الأعمال التي لا يمكن أن يتم من دونها نصر أو مدد، ولو استغرق الظلم قرونًا عدة .

لقد أدرك السلف الصالح أسباب النصر ودواعيه، وعملوا منذ اللحظة الأولى، التي أعلنوا فيها إسلامهم، على التقيد بأسبابه، ومع ذلك ابتلاهم الله عز وجل، في بعض الأحيان، بتأخير لحظة النصر؛ حتى يمتحن صبرهم ويقينهم بالله عز وجل، حتى إذا استيئسوا جاءهم النصر(1) .

ونذكر بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست نبي الله حقًا؟، قال: «بلى»، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟، قال: «بلى»، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذًا؟ قال: «إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري»(2).

وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم مع ما هم عليه من مرتبة رفيعة، قد ابتُلوا بتأخير النصر، فكيف بالمسلم اليوم الذي قد يصل به الجهل بدينه وأحكامه ألَّا يرى في القرآن الكريم إلا آيات تتلى في مناسبات الموت والعزاء، وألا يرى في أحكام القرآن وحدوده إلا تخلفًا وتقهقرًا، كان لهما اليد الطولى، بزعمه، فيما وصل إليه المسلمون من انهزام وذل.

إن أسباب حجب الله سبحانه وتعالى النصر عن المسلمين اليوم متعددة، وإن كانت لا تخرج عن مستويات ثلاث:

المستوى الأول: تشريعي؛ مرجعه الابتعاد عن تحكيم شرع الله تعالى فيما أمر به، والالتفاف حول حكم الدساتير والقوانين التي سنها اليهود وأتباعهم، بطريقة تخدم مصالحهم وأهواءهم .

المستوى الثاني: جماعي؛ مرجعه التباغض والتحاسد والتنافر بين المسلمين؛ مما مكّن الأعداء من اختراق صفوفهم، والكيد لهم بأيدي إخوانهم الذين زينوا لهم الباطل وألبسوه ثوب الحق .

أما المستوى الأخير: فهو فردي؛ مرجعه تغلب حب الدنيا وحب الجاه على نفوس بعض المسلمين؛ مما جعلهم يحوّرون مفهوم الجهاد والنصر بما يتناسب مع أهوائهم الشخصية والفردية .

والهزيمة النفسية ظاهرة تخضع لما تخضع له أية ظاهرة، من عوامل تمدها وأخرى تدفعها وتضعفها، وهي تظهر في وقت دون وقت؛ بسبب عوامل مكتسبة وليست أصيلة في بنية الأمة وتكوينها؛ أي أنها حدث طارئ يمكن تجاوزه.

أمور هامة لعموم الأمة:

أولها: إن الهزيمة وإن كانت شيئًا بشعًا إلا أنه ليس من العدل أن نعزو كل خلل عند المسلمين إلى الهزيمة النفسية، ولا شك أن بعض ما يعانيه المسلمون من أمراض سببها الهزيمة النفسية، ولكن بعض ما يعانونه سببه سوء الإدارة، وقسم آخر سببه تسلط العدو، وقسم ثالث سببه غلبة الشهوات والفساد.

وثانيها: من المعلوم أنه ليس من العلم في شيء تفسير الظاهرة بعامل واحد، فنعزو كل مصيبة عندنا مثلًا إلى الهزيمة النفسية، أو العدو الخارجي، أو العامل الاقتصادي.

ولابن القيم في هذا كلام جميل يحسن إيراده، يقول رحمه الله: «ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير؛ بل لا يؤثر سبب واحد البتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتفاء مانع يمنع تأثيره»(3).

ثالثها:الهزيمة قد تكون سببًا فيما يصيب الأمة، وقد تكون نتيجة لإخفاقات في السياسة والتربية والإدارة؛ أي علة من علل الأمة هي نتيجة لعلة أخرى سابقة عليها، وسبب لعلة أخرى نتجت عنها.

فتسلط العدو المتكرر، قد ينتج عنه هزيمة نفسية وضعف في الأمة، ويأس من الانتصار عليه، وربما كان أيضًا موقظًا للأمة، ومفتقًا لطاقاتها الكامنة، وباعثًا للحمية في نفوس أبنائها، في دفعه والتخلص من سيطرته.

رابعها: إن الهزيمة النفسية، كأي ظاهرة أخرى، هي نتيجة لأخطاء متراكمة عبر السنين، ولا يمكن أن تزول فجأة، فسنة الله في التدرج ثابتة، سواء في نشأة الظاهرة أو في رفعها.

خامسها: إن الهزيمة النفسية إذا وقعت فهي عبارة عن روح يسري في الأمة، فتصيب المطيع والعاصي، والعالم والجاهل، والمتبوع والتابع؛ بل إن العالم والمفكر يسخِّر كل منهما عقله وعلمه لترسيخ الهزيمة من حيث لا يشعران، ويرى كل منهما أن ما يراه هو الحكمة والصواب(4).

أسباب انكسار الإرادة:

السبب الأول :ضعف التوكل على الله تعالى:

الذي كرر علينا الأمر بالتوكل عليه في كتابه فقال: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]، وقال سبحانه: {إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67]، فإذا ما ملأ المؤمن قلبه بالتوكل على الله لم يبق للجزع في قلبه موضعًا، ولا للاضطراب في نفسه مكانًا؛ بل تراه ثابت الجنان، واثق الخطى، يعمل للدنيا كأنه سيعيش أبدًا، ويعمل للآخرة كأنه سيموت غدًا .

السبب الثاني: الفراغ الروحي:

فإن الروح إذا لم تجعل لها جدولًا عمليًا يخدم الإنسان فيه كل من تجب عليه خدمته، انشغلت هذه الروح بأوهام الهزيمة والضعف، وأصبحت هشة تشرب كل خبر، وتصدق كل نبأ، فكلمة تميل بها يمينًا وكلمة شمالًا.

إن الحقوق كثيرة، فاشغل نفسك بتأدية كل حق لصاحبه، تجد نفسك في غاية الأنس والسعادة، فأهلك في حاجتك، وبلادك في حاجتك، وأمتك في حاجتك، فتأمل كيف تزيد هذه الحقوق من قوة الأمة إذا هي أديت، ووالله ما ضعفت أُمَّتنا إلا بعد أن فرطنا في أداء حقوق بعضنا مع بعض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَتُؤَدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الْجَلْحَاءِ من الشاة القرناء»(5).

عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال: كل؟ قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان»(6).

السبب الثالث: عدم اليقين بنصر الله تعالى:

وضعف الإيمان بقدرته، وإنما أتى ذلك من الجهل بعظمته، وقلة تدبر كتابه العزيز، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم،وقصر النظر في كل حادثة تقع، حتى يظن بعض المنهزمين نفسيًا بأن كل قضية كبرى تحدث بأنها هي نهاية المسلمين، وفيها هلاكهم، ألم يقرأ من دبت الهزيمة في أوصاله قول الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقوله سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، ألم يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون»(7)، فلنوقن بأن النصر لمن نصر الله لا لمن حاربه وحارب أولياءه، ولنؤمن بأن العاقبة لأهل التقوى، لا لأهل الفجور والمنكرات، ولنجزم بأن أهل الحق ظاهرون حتى يأتي أمر الله .

السبب الرابع: التعلق بالدنيا:

والمبالغة في حب البقاء فيها، ومحاولة التلذذ بكل ملذاتها، وبالمقابل نسيان الآخرة، وما أعد الله فيها من النعيم للمتقين، والجحيم للكفرة والمجرمين، فذلك التعلق وهذا النسيان لا شك أنهما يوديان بالمرء في حفر الحرص على هذه الدنيا، حتى يشعر بأنه لا بد أن يبقى فيها بلا موت، ويحس بأن كل صيحة عليه وعلى أمواله، حتى يصل به الحال أن يهون حال الأمة في نظره بالنسبة لحال دنياه، فيا بؤس من تعلق قلبه بالدنيا، وهي دار الغرور والفناء، ونسي الآخرة، وهي دار البقاء والقرار {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:185](8).

السبب الخامس :قلة العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم:

وكيف لم تهزمه أعاصير الكفر، ولم تزده في نفسه إلا ثباتًا ويقينًا، إلى أن استعذبت ألسنة العرب والعجم شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فلم تكن الأحزاب لتقهره، ولم تكن المغريات لتثنيه؛ بل سار على طريق ربه عز وجل إلى أن أقر الله عينه بأمته في الدنيا، وسيقر الله عينه بها في الآخرة، لتكون أكثر الأمم دخولًا الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سواد يملأ الأفق، ثم قيل لي: انظر ها هنا وها هنا في آفاق السماء، فإذا سواد قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب»، ثم دخل ولم يبين لهم، فأفاض القوم، وقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله، فنحن هم، أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام، فإنا ولدنا في الجاهلية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج، فقال: «هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون»، فقال عُكَّاشَةُ بن مِحْصَنٍ: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: «نعم»، فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ قال: «سبقك بها عكاشة»(9) .

السبب السادس: عدم التعود على تحمل المسئولية:

ذلك أن التعويد على المسئولية وتشجيع الطفل على ذلك منذ بدايات نشأته يمنح المرء الثقة بالنفس، واحترامًا وتقديرًا لها، وأنها قادرة على تخطي الصعاب وتحمل المشاق، وإهمال هذا الجانب التربوي يفقد الإنسان الثقة بنفسه، إن لم يحقرها ويصغرها فتكون الهزيمة النفسية.

السبب السابع: العيش وسط المنهزمين:

فالبيئة لها أثرها في توجهات الشخص، وإذا كان مجالسو المرء مهزومين فسينهزم معهم ولو بعد حين، فبيئة الذل والاستكانة، ماديًا واجتماعيًا، أكثرها منهزمون، كما أن أكثر المثقفين المستغربين منهزمون ثقافيًا وفكريًا.

السبب الثامن: الغفلة عن عواقب الانهزام وآثاره:

فالانهزام النفسي له عواقب وخيمة، وآثار مدمرة جسيمة، إذا أدرك الإنسان مداها عالج نفسه ليتخطاها، وأما من غابت عنه تلك العواقب رضي بالدون واستساغ الهون،ومن تلك العواقب:

أولًا: مداهنة الظالمين:

فالمهزوم نفسيًا مبتلى باحتقار النفس مع تعظيم الآخر، فيرتمي في أحضانهم أو يداهنهم، على نحو ما نرى في واقع أمتنا اليوم على جميع أصعدتها {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52]، كما قال عبد الله بن أبي بن سلول عن موالاته لليهود: إني لا أدع موالاتهم؛ إني امرؤ أخشى الدوائر.

ثانيًا: الهزيمة العسكرية:

فالهزيمة النفسية مقدمة للهزيمة العسكرية، واحتلال الأرض بعد احتلال العقل والقلب، فأمثال هؤلاء لا يقاومون ولا يجاهدون؛ فهم في أنفسهم أصغر وأحقر من أن يقفوا في وجه أعدائهم، وقد يعلم الأعداء منهم ذلك فيستبيحون أرضهم، وينتهبون ثرواتهم وخيراتهم، ويجرعونهم ذل الاستعباد الحقيقي بعد الاستعباد الفكري والثقافي، وهو واقع تعيشه الأمة في فلسطين والعراق وأفغانستان والبلقان والصومال، والآتي لا يعلمه إلا من لا يعلم الغيب سواه.

ثالثًا: امتهان المقدسات وانتهاك المحرمات:

فحين يرى أعداؤنا الهزيمة قد تملكت من نفوسنا، والهلع قد احتل كل زاوية في قلوبنا، داسوا رقابنا، وانتهكوا أعراضنا، واستحلوا محارمنا، وجاهروا بانتقاص ديننا ورسولنا وقرآننا، وأعلنوا بالاستهزاء بأوامر ديننا ومظاهر شرعنا، ولا غرو فلا ملامة على حاقد موتور؛ فإنهم لم يجدوا من يصدهم ولا من يردعهم.

رابعًا: الأثر على العمل الإسلامي:

فالانهزامية لها أثرها السلبي على العمل الإسلامي ككل، وأعظم ذلك الفرقة والتمزق بسبب اختلاف يبدو كأنه اختلاف في وجهات النظر، لكن الحقيقة أنه اختلاف في وجهات القلوب، ذلك أن فريق المنهزمين غالبًا ما يطرح وجهات نظر تخالف الآخرين لاختلاف الهمم والرغبات، فيختلف الفريق الواحد إلى مؤيد ومعارض ومساعد ومعاند؛ مما يوهن الصف، ويفرق الكلمة، ويفتح الباب أمام المتربصين من الأعداء للولوج والإطباق والتطويق.

كما وأن الانهزامية تصرف الناس عن اتباع هؤلاء، فالناس لا تقتدي إلا بأهل القوة في الدين والثبات واليقين، أما المنهزمون فإن الناس لا يأبهون بهم، ولا يعلقون آمالهم عليهم في قليل ولا كثير، وهذا يؤثر بالسلب على الحركة الإسلامية والدعوة ككل؛ بل ويكون من أكبر أسباب تأخير النصر {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال:46](10).

ولعل من أهم أسباب هذه الهزيمة النفسية، التي أصابت الأمة في مقتل وأدى إلى ضعفها ووهنها، بُعد كثير من المسلمين عن دينهم وجهلهم بحقيقته، ومرارة الواقع الذي يعيشونه، وخذلان المسلمين بعضهم بعضًا، وعدم اتحادهم أمام قوة أعدائهم، وعدم إدراكهم لأسباب المد والجزر في تاريخ أمتهم، وعدم إلمامهم بعوامل النصر والهزيمة، وتأثرهم بوسائل الإعلام الموجهة إليهم، التي يحرص الغرب من خلالها على إبراز أنشطته العسكرية وقدراته الحربية، واستعراض أسلحته وتقنيته المتطورة، وإشهار اكتشافاته العلمية وغزوه حتى للفضاء الخارجي، ونحو ذلك من الأمور التي تُعزز مكانته وتوهن غيره، وتوحي له بالعجز واليأس، بالإضافة إلى ما يرونه من هيمنة أعدائهم على معظم المنظمات والبنوك والهيئات الرسمية، واستغلالها لإخضاع الدول الإسلامية، وإخضاع بعضها بالعقوبات والمقاطعات الاقتصادية، وأحيانًا بالقوة والتدخل العسكري إذا لزم الأمر.

مثل هذه الأمور مجتمعة ولّدت هزائم نفسية متتابعة، كان الغرب يهدف إليها ويغذيها بشتى وسائله الإعلامية والسياسية والاقتصادية؛ ليستمر التخدير، ويدوم الخنوع.

وتجاوز الأمر قنطرته، وأثَّر رجع ذلك الصدى في بعض أبناء جلدتنا الانهزاميين، الذين أكدوا هذه الهزيمة وعززوها؛ بكتاباتهم وتحليلاتهم الانهزامية في الصحف والمجلات، والفضائيات بثنائهم المبالغ فيه على الغرب وحضارته وقيمه وقوته وديمقراطيته، وأنه إنما سيطر على هذه الأمة بسبب ضعفها وتخلفها في الجوانب العلمية، والسياسية، والاقتصادية، والتقنية فحسب.

ومع مصداقية بعض تلك التحليلات ظاهريًا؛ لكونها أعراضًا للمرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا، إلا أن أولئك الكتاب والمحللين جعلوها أمراضًا مستقلة ينبغي أن يتجه إليها العلاج مباشرة، وذهلوا ذهولًا أعمى عن السبب الأساس في نشوء تلك الأعراض، وحادوا عن استلهام تعاليم القرآن، وتوجيهات السنَّة، واستقراء التاريخ، ومعرفة السنن الجارية، والنواميس الشرعية، حول أسباب ضعف الأمة الإسلامية والمخرج منها، ولم يتطرقوا إلى ذلك من قريب أو بعيد، لعدم إدراكهم لأبجديات تلك المسائل، ولجهلهم بفقه الهزيمة التي حلّت بالأمة، ولخوضهم في أمـور لا يملكـون أدواتها، ولتصدرهم لقضايا لا علاقة لتخصصاتهم فيما يتحدثون عنه أو يكتبون فيه، وللهوى والحقد الذي يُكنّه بعض أولئك لهذا الدين(11).

طرق ووسائل كسر الإرادة:

1- الدهشة الحضارية، حيث يُبرِز العدو حضارته وما فيها من جمال وقوة؛ فيصاب من يراها من الإغراء بالدهشة ويستسلم له.

وممن استخدم أسلوب الدهشة الحضارية القائد الفارسي رستم مع رِبْعِيّ بن عامر رضي الله عنه، قبل معركة القادسية، فأمر بوضع مفاتن الحضارة الفارسية في طريق ربْعي، ولكن أسلوبه فشل، وأدرك ربعي خطة رستم، فتعامل مع مفاتن الحضارة الفارسية باستعلاء، واستطاع المحافظة على إرادته والتمسك بخياراته.

2- تغييب السبل البديلة في الخيارات الحضارية، ويصور للطرف الضعيف أن سبيل النجاة واحد، وهو سبيل الخصم فقط، فالتطوير الاقتصادي والتقدم الإداري لا يتم إلا من خلال الطرق التي سلكها الخصم.

3- التجهيل بالهوية والتاريخ،ومن يجهل هويته وتاريخ أمته لا يبالي بأي حضارة أخذ، ولا يجد فرقًا بينه وبين خصمه ممن لا يريد له الخير(12).

الهزيمة النفسية سقوط حضاري، لا يضاهيه نوع آخر من الهزائم العسكرية التقليدية، وخطورتها تكمن في كونها احتلالًا للعقول والقلوب قبل أن تكون احتلالًا لخيرات الأرض ومقدراتها.

وعلى شدة وقع الاحتلال العسكري إلا أنه وسيلة قوية لإيقاظ الأمة من غفلتها، وتقوية لُحمتها، وتحرُّك غيرتها، وإحياء حميّتها الدينية، وفي النهاية طال هذا الاحتلال أم قصر فإن مصيره الرحيل.

أما الاحتلال النفسي فيتغلغل في نفوس معظم أبناء الأمة دون أن يدركوا أثره وخطره؛ بل دون أن يشعروا بإصابتهم به!

الآثار النفسية لكسر الإرادة:

لا يحتاج المرء إلى كبير تأمل ليدرك إلى أي مدى أثرت هذه الهزيمة النفسية في واقع أمته؛ فهي لا تعاني من شيء كمعاناتها من آثار هذه الهزيمة التي دمرت معنوياتها، وحطمت دوافعها، وأحبطت تطلعاتها، وأصابتها بالضعف والهوان، وألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها، ودانت له بالتبعية، والولاء التام، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة تذكر؛ حيث تشعر بمرارة العجز والقهر واليأس، إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين أية بارقة أمل في نهضة حضارية جديدة، أو مستقبل مشرق واعد، فتحقق لعدوها ما أراد من السيطرة على معظم أفرادها نفسيًا، ومن ثم ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا؛ بل وسلوكيًا.

ومن يُتابع وسائل الإعلام والاتصال المختلفة يجد أن الأمـة الإســلامية بلغت، بسبب عجزها ويأسها، حـدًا لا مزيد عليه من الذل والهوان، حتى إنه لا يكاد يوجد عضو من أعضائها إلا وفيه جرح ينزف، ودم يثعب، وشعب يُهان، وحرمات تنتهك، وأراضٍ تغتصب.

ووصلت أوضاع أمتنا إلى منتهى الانحطاط والتخلف، وأصبحنا نعيش على هامش العالم، وفي ذيل القائمة، وتداعت علينا الأمم الكافرة كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وتسلطوا علينا من كل جانب، وأصبحنا نعيش عصر الغثائية، التي أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أوَمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل»(13).

وجنت الأمة آثار الهزيمة النفسية التي تعايشت معها سنين طويلة، ولم تستطع معظم دولها الخروج منها حتى الآن؛ بل ولم تبذل ما يوحي بمجرد المحاولة، فقعدت واستسلمت وتخلفت وذلت، فاستُبيحت(14).

فقه الضعف والقوة:

القوة المادية في كل زمان ومكان هي إحدى دعائم الأمم والدول، ولا ينبغي التهوين من شأنها أو التشكيك في أثرها؛ فهي سبب من الأسباب، والأخذ بالأسباب واجب شرعي، وطلب النصر من دون بذل الغاية القصوى في الإعداد حسب سنن الله عبـث بالأســباب، وتعطيله تعطيـل لحكمته سبحانــه؛ فالله تعالى جعل للطير والبهائم عُدة وأسلحة تدفع عنها الشرور؛ كالمخلب والظفر والناب، وخلق للآدمي عقلًا يقوده إلى حمل ا