logo

ومن يهن الله فما له من مكرم


بتاريخ : الثلاثاء ، 22 ربيع الآخر ، 1447 الموافق 14 أكتوبر 2025
بقلم : تيار الإصلاح
ومن يهن الله فما له من مكرم

ومن السنن الالهية في الناس قوله تعالى: {وَمَن يُّهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18] ومعناها: مَنْ أراد الله إهانته فلن يُكرمه أحد، لا بنُصْرته ولا بالشفاعة له، فلا كرامة إلا بإكرام الله، ولا عزة إلا بعزة الله، لأن الأمور كلها بيده {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139].

فقد قسَّم الله الناس، مهتد مكرم، ومهين قد لازمته الإهانة، ولا يمكن أن يكرمه أحد أبدًا؛ ولذا قال تعالى: {وَمن يُّهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} وإهانة الله تعالى لمن يكتب له في لوحه المحفوظ وقدره المحتوم، إنما تكون لمن سلك سبيل الغواية، وسد مسامع الهداية، فيأخذه سبحانه إلى مواطن الهوان، فبفعله هانَ، وبإعراضه عن الحق مريدًا مختارًا عُذِّب، وحق عليه العذاب فما لأحد أن يكرمه، ولا يمكن أن يُمكَّن من ذلك، ولا قدرة له عليه (1).

فلا كرامة إلا بإكرام الله، ولا عزة إلا بعزة الله، وقد ذل وهان من دان لغير الديان.

وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق، وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال.. ولمن شاء أن يختار..

وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن، وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله، وما أحوج ناسًا ممن يدعون الإسلام ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن- إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين- وإلا فإن الله غني عن العالمين، ومما يلحق بطلب العزة عند الكفار وولايتهم من دون المؤمنين: الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين ماتوا على الكفر واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبًا وقرابة؛ كما يعتز ناس بالفراعنة والأشوريين والفينيقيين والبابليين وعرب الجاهلية اعتزازًا جاهليًا، وحمية جاهلية (2).

يوهب عقل للشخص، ثم تسلب فائدته؛ وإن هذا لأقوى دليل على قادر قاهر.... غير أن الحق سبحانه وتعالى وهب لأقوام من العقل ما يثبت عليهم الحجة، وأعمى قلوبهم كما شاء عن المحجة (3).

وقوله تعالى: {وَمَن يُّهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]، أي ومن أراد الله إشقاءه وعذابه فما له من مكرم يكرمه بِرَفْع العذاب عنه واسعاده في دار السعادة، وقوله: {إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، فمن شاء أهانه ومن شاء أكرمه، فالخلق خلقه وهو المتصرف فيهم مطلق التصرف، فمن شاء أعزه ومن شاء أذله، فعلى عباده أن يرجعوا إليه بالتوبة سائلين رحمته مشفقين من عذابه؛ فهذا أنجى لهم من عذابه وأقرب إلى رحمته (4).

قيل لعلي: إن هاهنا رجلًا يتكلم في المشيئة، فقال له علي: يا عبد الله، خلقك الله كما يشاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف (5).

أسباب الهوان:

وسبب هوان العاصي على الله أمران:

الأول: هوان المعاصي على العبد: فإن العبد لا يزال يرتكب الذنب حتى يهون عليه، ويصغر في قلبه وعينه، حتى لا يراه شيئًا، ولا يخاف عقوبته ولا عاقبته، وذلك علامة الهلاك، فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم عند الله، وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود حديثين: أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه، قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه» فقال به هكذا، قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه (6).

قال سهل: لا تستصغر شيئًا من الذنوب وإن قل، فإنهم قالوا: أربعة بعد الذنب أشد من الذنب: الإصرار والاستبشار والاستصغار والافتخار (7).

عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» (8).

قال الغزالي: صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى تفوت أهل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة.

وقال أيضًا: تصير الصغيرة كبيرة بأسباب؛ منها الاستصغار والإصرار، فإن الذنب كلما استعظمه العبد صغر عند الله، وكلما استصغره عظم عند الله؛ لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهته له، وذلك النفور يمنع من شدة تأثيره به، واستصغاره يصدر عن الألفة به؛ وذلك يوجب شدة الأثر في القلب المطلوب تنويره بالطاعة والمحذور تسويده بالخطيئة.

وقال الحكيم: إذا استخف بالمحقرات دخل التخلط في إيمانه وذهب الوقار، وانتقص من كل شيء، بمنزلة الشمس ينكسف طرف منها، فبقدر ما انكسف ولو كرأس إبرة ينقص من شعاعها وإشراقها على أهل الدنيا، وخلص النقصان إلى كل شيء في الأرض، فكذا نور المعرفة ينقص بالذنب على قدره فيصير قلبه محجوبًا عن الله، فزوال الدنيا بكليتها أهون من ذلك، فلا يزال ينقص ويتراكم نقصانه وهو أبله لا ينتبه لذلك حتى يستوجب الحرمان (9).

والثاني: عدم تعظيم الرب سبحانه: لأن استمراء المعاصي يضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، ويضعف وقاره في قلب العبد ولا بد، شاء أم أبى، ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه؛ فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته، وتعظيم حرماته يحول بينه وبين الذنوب، والمتجرئون على معاصيه ما قدروا الله حق قدره، وكيف يقدره حق قدره، أو يعظمه ويكبره، ويرجو وقاره ويجله، من يهون عليه أمره ونهيه؟ هذا من أمحل المحال، وأبين الباطل، وكفى بالعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله، وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه.

وإذا هانت في قلب العبد المعصية، وهان عنده قدر الرب وذهب تعظيمه من قلبه؛ هان العبد على الله، ومن كان هذا حاله لم يكرمه أحد من الخلق، كما قال الله: {وَمَن يُّهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18].

ولا يغرنك أن بعض العصاة من أصحاب النفوذ والمناصب والسطوة والسلطان يعظمهم بعض الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه، وهم كذلك في أنفسهم حقيقة، كما قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.

 الهوان على الناس: ومن إهانة الله لهذا وأمثاله أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمره واستخف به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق، وعلى قدر تعظيمه لله وحرماته يعظمه الناس، وكيف ينتهك عبد حرمات الله، ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته؟ أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق؟ وقد أشار سبحانه إلى هذا في كتابه: {وَمَن يُّهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].

فإنهم لما هان عليهم السجود لله واستخفوا به ولم يفعلوه أهانهم الله فلم يكن لهم من مكرم، فمن ذا يكرم من أهانه الله؟ أو من ذا يهين من أكرمه الله؟

هوان العاصي على نفسه: ومن آثار المعصية أنها تصغر النفس، وتقمعها، وتدسيها، وتحقرها حتى تكون أصغر كل شيء وأحقره، كما أن الطاعة تنميها وتزكيها وتكبرها، قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9-10]، والمعنى قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية الله.

قال ابن القيم رحمه الله:

- من آثار الذنوب والمعاصي: أَنَّهُ ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يَسْتَقْبِحُ مِنْ نَفْسِهِ رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التهتك وتمام اللذة، حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها، وهذا الضرب من الناس لا يعافون، وتسد عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب.

- ومنها: أَنَّ كل معصية من المعاصي فهي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل، فالعلو في الأرض بالفساد، ميراث عن قوم فرعون، والتكبر والتجبر ميراث عن قوم هود، فالعاصي لابس ثياب بعض هذه الأمم، وهم أعداء الله.

- ومنها: أَنَّ المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصَوه، ولو عزّوا عليه لَعَصَمهم، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: {وَمَن يُّهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ}، وفي الحديث: «وجعل الذل والصغار على من خالف أمري» (10)، وإِنْ عَظَّمَهُمُ النَّاسُ في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.

- ومنها: أَنْ يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمره واستخف به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق، وعلى قدر تعظيمه لله وحرماته يعظمه الناس، وكيف ينتهك عبد حرمات الله، ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق؟ وقد أشار سبحانه إلى هذا في كتابه عند ذكر عقوبات الذنوب، وأنه أركس أربابها بما كسبوا، وغطى على قلوبهم، وطبع عليها بذنوبهم، وأنه نسيهم كما نسوه، وأهانهم كما أهانوا دينه، وضيعهم كما ضيعوا أمره، ولهذا قال تعالى في آية سجود المخلوقات له: {وَمَن يُّهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ}.

- ومنها: أَنَّ غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه، فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم، فلا يكفيه عقاب ذنبه، حتى يلعنه من لا ذنب له، وكان أبو هريرة يقول: إن الْحُبَارَى لتموت في وكرها من ظلم الظالم، والْحُبَارَى نوع من الطيور، قال ذلك حين سمع رجلًا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، وقالها مرة أخرى حين سمع آخر يقول: كل شاة معلقة برجلها.

- ومنها: أَنَّ المعصية تورث الذل ولا بد؛ لذا كان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك، قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهَملَجَتْ بهم البراذين، إنَّ ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى اللهُ إلا أن يُذِلَّ من عصاه، ومعنى الهملجة: أي حسن سير الدابة في سرعة وبخترة، والبراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العرب.

- ومن عقوباتها: أنها تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد طرق العلم، وتحجب مواد الهداية، وقد قال مالك للشافعي لمّا اجتمع به: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية، ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحلّ، وظلام المعصية يقوى، حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم، فكم من مَهْلكٍ يسقط فيه، وهو لا يبصره، كأعمى خرجِ بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب، فيا عزّةَ السلامة، ويا سرعةَ العطب! ثم تقوى تلك الظلمات، وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجهَ منها سوادٌ بحسب قوتها وتزايدها!!

- ومن عقوباتها: أنها تجعل صاحبَها من السِّفْلة بعد أن كان مُهَيًّأ لأن يكون من العِلْية، فإنّ الله خلق خلقَه قسمين: عِلية وسِفلة، وجعل أهل طاعته أكرمَ خلقه عليه، وأهلَ معصيته أهونَ خلقه عليه، وجعل العزّة لهؤلاء، والذلّة والصغار لهؤلاء، فكلّما عمل العبد معصيةً نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، وكلّما عمل طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلَين، وها هنا أمر وهو أنّ العبد قد ينزل نزولًا بعيدًا أبعدَ مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض، فلا يفي صعودُه ألفَ درجة بهذا النزول الواحد، كما في الصحيح: «إنّ العبد لَيتكلّم بالكلمة الواحدة، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب» (11)، فأيُّ صعود يوازي هذه النَّزْلَةَ؟ (12).

فعلى كل عاقل أن يعلم أن المعصية تورث الذل ولا بد؛ وأن العز كل العز في طاعة الله تعالى، قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [سُورَةُ فَاطِرٍ: 10]، أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله.

الملامح التربوية المستنبطة من الآية:

أولًا: أن العبد إذا هان على الله تعالى، حجب عنه الإكرام، ومن لم يكرمه الله عز وجل فليس له مكرم ألبتة، {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، وسنن الله تعالى في الخلق لا تحابي أحدًا، لا تتبدل، ولا تتغير: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]؛ قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمدُ، إلا سنة الله بهم في عاجل الدنيا، أن أُحِلَّ بهم من نقمتي على شركهم بي، وتكذيبهم رسولي، مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم (13).

وهذا تنبيه مهم في الآية الكريمة، وفي الآية موضوع المقال أن سنن الله تعالى الجارية في الخلق لمن بغى وتجاوز الحدود الشرعية لن تتبدل ولن تتحول، فالسعيد من اتعظ بغيره قبل فوات الأوان؛ ومن لم يعتبر بحال غيره من المفرِّطين الذين سبقوه، كان لمن بعده عِبرة.

ثانيًا: يُوصَف بعض البشر قديمًا وحديثًا بشدة الكرم والمبالغة في الجود، وقد خلد التاريخ أسماء كثير ممن عُرفوا بكرمهم وسخائهم؛ منهم: حاتم الطائي، وعبد الله بن جدعان وغيرهم، وفي مقدمة جود البشر على الإطلاق كرم نبينا صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في الحديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان» (14).

هذا الكرم في حق البشر خلده التاريخ، فكيف بإكرام أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين؟ إكرام لا حد له، ولا منتهى لمداه في شتى المجالات المادية والمعنوية، ومن الصعب بسط ذلك، وإليك لمحة عابرة، وقطرة من بحر إكرام الله تعالى وإحسانه؛ جاء في الحديث القدسي: «من همَّ بحسنة فلم يعملها، كُتبت له حسنةً، ومن همَّ بحسنة فعملها، كُتبت له عشرًا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها، لم تُكتب، وإن عملها كُتبت» (15)، وجميلٌ وصف الغزالي رحمه الله لاسم الله الكريم؛ قال: هو ‌الذي ‌إذا ‌قدر ‌عفا، ‌وإذا ‌وعد ‌وفَّى، ‌وإذا ‌أعطى ‌زاد ‌على ‌منتهى ‌الرجاء، ‌ولا ‌يبالي ‌كم ‌أعطى ‌ولمن ‌أعطى، ‌وإن ‌رُفعت ‌حاجة ‌إلى ‌غيره ‌لا ‌يرضى، ‌وإذا ‌جُفِيَ ‌عاتب، ‌ولا ‌يضيع ‌من ‌لاذ به ‌والتجأ، ‌ويُغنيه ‌عن ‌الوسائط ‌والشفعاء، ‌فمن ‌اجتمع ‌له ‌جميع ‌ذلك ‌لا ‌بالتكلف، فهو الكريم المطلق، وذلك لله سبحانه وتعالى فقط (16).

ثالثًا: إن من أعظم إكرام الله عز وجل للعبد أن يهديه للإسلام، ويشرفه بعبوديته وتوحيده، ويجعله على صراط مستقيم؛ لأن ذلك فضل وإحسان واصطفاء لا يناله كل أحد، وأن أعظم إهانة للعبد وليس بعدها إهانة أن يجعله يتخبَّط في أوحال الشرك المخزية، ولوث المعاصي والذنوب، ومآله جهنم وبئس المصير، والعياذ بالله إن لم يتداركه الله سبحانه بكرمه ولطفه وإحسانه؛ قال تعالى: {مَنْ يَشَأْ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]؛ قال القاسمي رحمه الله: أي: فهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فمن أحب هدايته، وفَّقه بفضله وإحسانه للإيمان، ومن شاء ضلالته، تركه على كفره؛ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] (17).

رابعًا: من وُفِّق لنَيل إكرام الله تعالى بالهداية للإسلام، وتشرف بعبودية الله وتوحيده، فحريٌّ به أن يحرص أشد الحرص للمحافظة على مرضاة الله تعالى باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، فتقوى الله تعالى أساس وأصل الإكرام؛ قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]؛ قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: إن أكرمكم- أيها الناس- عند ربكم، أشدكم اتقاء له بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتًا ولا أكثركم عشيرة (18)، وفي هذا السياق يؤكد ابن القيم رحمه الله: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]، وإن عظَّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم، أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه (19).

خامسًا: إذا وُفِّق العبد للزوم صراط الله المستقيم، فقد نال إكرام الله تعالى له، وفتح له الخير من أوسع أبوابه؛ وصدق الله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]؛ قال الطبري رحمه الله: لوسَّعنا عليهم في الرزق، وبسطناهم في الدنيا(20)، ويعرف ابن رجب رحمه الله الاستقامة أنها: سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك: فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخِصال الخير كلها (21)، ويتضح وجود ربط قويٍّ بين الاستقامة والإكثار من الطاعات، والنتيجة حصول خصال الخير كلها بفضل الله وإحسانه، ويشهد لذلك ما جاء في الحديث القدسي: «وما يزال يتقرب عبدي إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأُعطِينَّه، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن استعاذني لأُعيذنه» (22).

سادسًا: هناك من ينخدع عندما يرى في الظاهر أن المنحرفين عن منهج الله تعالى بالكفر، أو الفسق والضلال، والمجاهرة به، أنهم في سعادة وفرح وأنس لا مثيل له؛ فهذا لا يمكن ألبتة، وهو مخالف لسنن الله تعالى في خلقه، وإن حصل لهم شيء من المتاع المؤقت، لكن عاقبته وخيمة والعياذ بالله تعالى؛ قال سبحانه: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 197]؛ قال القرطبي رحمه الله تعالى: هذا دليل على أن الكفار غير منعم عليهم في الدنيا؛ لأن حقيقة النعمة الخلوص من شوائب الضرر العاجلة والآجلة، ونعم الكفار مشوبة بالآلام والعقوبات، فصار كمن قدم بين يدي غيره حلاوة من عسل فيها السُّم، فهو وإن استلذَّ آكله لا يُقال: أنعم عليه؛ لأن فيه هلاك روحه (23).

سابعًا: حذر القرآن الكريم من الإعجاب بأهل الكفر والفسق والضلال، وما مدَّهم به الأموال والأولاد، وما ظهر عليهم من النعم، وفي ظنهم أنها من إكرام الله لهم: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55- 56]، فجاء التحذير من الله تعالى بعدم الإعجاب بهم؛ قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]؛ قال البغوي رحمه الله: لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد؛ لأن العبد إذا كان من الله في استدراج، كثَّر الله ماله وولده، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 55]، فإن قيل: أي تعذيب في المال والولد وهم يتنعمون بها في الحياة الدنيا؟ وقيل: يعذبهم بالتعب في جمعه، والوجل في حفظه، والكُره في إنفاقه، والحسرة على تخليفه عند من لا يحمَده، ثم يقدم على مُلك لا يعذره (24).

أكرم الخلق عند الله أتقاهم له، وأقربهم منه منزلة أطوعهم له، وعلى قدر طاعة العبدِ تكون منزلته عنده، فإذا عصاه هان عنده، وأوجب ذلك القطيعة بين العبد وبين مولاه، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عن العبد أسباب الخير واتصلت به أسباب الشر، فأي فلاح، وأي رجاء، وأي عيش لِمَن انقطعت عنه أسباب الخير وقطع ما بينه وبين وليِّه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك.

قد استودعنا خالقنا خلقة كريمة، فعلينا أن نعرف قيمتها، وأن نقدره، وحق على من كرمه ربه أن يكرم نفسه:

أ- فعلينا أن نكرم أنفسنا بتكريم أرواحنا، بتنزيهها عن مساوئ الأخلاق، وتحليتها بمكارمها.

ب- وتكريم عقولنا، بتنزيهها عن الأوهام، والشكوك، والخرافات، والضلالات، وربطها على العلوم والمعارف وصحيح الاعتقادات.

جـ- وتكريم جوارحنا بتنزيهها عن المعاصي، وتجميلها بالطاعات؛ فنتحرى بأقوالنا وأفعالنا أكرم الأقوال، وأكرم الأعمال. ونترفع عن جميع الرذائل والدنايا ونتباعد عن كل مواطن السوء والسفالة.

د- ونحفظ كرامتنا وشرفنا أمام الله والناس، ونجتهد أن لا يمسها سوء لا منا، ولا من غيرنا.

فإذا قدرنا- هكذا- أنفسنا، وشكرنا- كما تقدم- ربنا، بلغنا- بإذن الله تعالى- أبعد الغايات من التكريم والتفضيل (25).

إنه لا عزة للأمة الإسلامية ولا مكانة لها ما دامت لا تضحي لدينها، ولا تثأر لعقيدتها. ولن تنال العزة والقوة والتمكين في يوم من الأيام، بالمال والجاه، أو الانهزامية، والخذلان، لقد كانت المبادئ عند الصحابة والتابعين، والغايات التي يسعون لتحقيقها هي رفعة الدين، ونصرة الدعوة وحماية العقيدة فبذلوا لتحقيقها كل غاية ووسيلة صغرت أم كبرت.

أيها المسلمون: اربؤوا بأنفسكم أن تكونوا أذلاء صاغرين لا قيمة لكم ولا عزة لكم، وارفعوا أنفسكم عن سفاسف الأمور، وتطلعوا إلى معاليها، وإياكم والمعاصي والاستسلام للمحرمات صغُرَت أم كبُرَت، وإن الخلق لا يهونون عند الله إلا حينما يخالفون أمره، كما قال أبو الدرداء: «ما أهون الخلق على الله إذا هم خالفوا أمره»، وإذا كتب الله علينا الهون فمن يكرمنا، ومن يهن الله فما له من مكرم.

--------------

(1) زهرة التفاسير (9/ 4961).

(2) في ظلال القرآن (2/ 780).

(3) صيد الخاطر (ص: 425).

(4) أيسر التفاسير للجزائري (3/ 463).

(5) تفسير ابن كثير (5/ 404).

(6) أخرجه البخاري (6308).

(7) تفسير التستري (ص: 202).

(8) أخرجه أحمد (3818).

(9) فيض القدير (3/ 127).

(10) أخرجه أحمد (5114).

(11) أخرجه مسلم (2988).

(12) الجواب الكافي (ص: 86)، وما قبلها باختصار.

(13) جامع البيان (20/ 484).

(14) أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308).

(15) أخرجه مسلم (130).

(16) المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (ص: 117).

(17) محاسن التأويل (4/ 358).

(18) جامع البيان (22/ 312).

(19) الجواب الكافي (ص: 144).

(20) جامع البيان (23/ 662).

(21) جامع العلوم والحكم (ص: 511).

(22) أخرجه البخاري (6502).

(23) تفسير القرطبي (4/ 320).

(24) تفسير البغوي (4/ 59).

(25) تفسير ابن باديس (ص: 131).