عبادة الستر
ماذا لو كانت للذنوب رائحة؟ هل يستطيع بعضنا أن يجالس بعضًا؟ ماذا لو كتبت ذنوبنا على جباهنا فاطلع عليها الناس؟ ماذا لو كتبت على جدران بيوتاتنا الذنوب التي يقترفها هذا البيت أو ذاك؟ كم من أسرة ستحطم لو كشف ستر الله؟ كم من زوجة ستطلق لو كشف ستر الله؟ كم من صاحب سيفارق صاحبه لو كشف ستر الله؟ كم من خليل سيترك خليله لو كشف ستر الله؟ كم من أرحام ستقطع لو كشف ستر الله؟ كم من علاقة إنسانية ستمزق لو كشف ستر الله؟
الستر معناه: تغطية المسلم عيوبه وإخفاء هناته، وعدم كشفها للناس مع طلب التوبة والندم عليها، وتيقنه بأن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها» (1).
وها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جاءتها امرأة، فأخبرتها أن رجلًا قد أخذ بساقها وهي مُحرمة -أي: حاول كشف عورتها- فقاطعتها عائشة، وأعرضت بوجهها وقالت: يا نساء المؤمنين، إذا أذنبت إحداكن ذنبًا، فلا تخبرن به النَّاس، ولتستغفر الله، ولتتب إليه؛ فإن العباد يعيرون ولا يغيرون، والله يغير ولا يعير (2).
ولقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم النموذج الأعلى في الستر على الناس وعدم تعييرهم بأخطائهم وهفواتهم، عن زيد بن أسلم، أن خوات بن جبير، قال: نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، قال: فخرجت من خبائي فإذا أنا بنسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت عيبتي، فاستخرجت منها حلة فلبستها وجئت فجلست معهن، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبته فقال: «أبا عبد الله ما يجلسك معهن؟»، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هبته واختلطت، قلت: يا رسول الله جمل لي شرد، فأنا أبتغي له قيدا فمضى واتبعته، فألقى إلي رداءه ودخل الأراك كأني أنظر إلى بياض متنه في خضرة الأراك، فقضى حاجته وتوضأ، فأقبل والماء يسيل من لحيته على صدره - أو قال: يقطر من لحيته على صدره - فقال: «أبا عبد الله ما فعل شراد جملك؟»، ثم ارتحلنا فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: «السلام عليك أبا عبد الله ما فعل شراد ذلك الجمل؟»، فلما رأيت ذلك تعجلت إلى المدينة، واجتنبت المسجد والمجالسة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طال ذلك تحينت ساعة خلوة المسجد، فأتيت المسجد فقمت أصلي، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره فجأة فصلى ركعتين خفيفتين وطولت رجاء أن يذهب ويدعني فقال: «طول أبا عبد الله ما شئت أن تطول فلست قائما حتى تنصرف»، فقلت في نفسي: والله لأعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبرئن صدره، فلما قال: «السلام عليك أبا عبد الله ما فعل شراد ذلك الجمل؟» فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلم، فقال: «رحمك الله» ثلاثًا ثم لم يعد لشيء مما كان (3).
وعن صفوان بن محرز المازني، قال: بينما أنا أمشي، مع ابن عمر رضي الله عنهما آخذ بيده، إذ عرض رجل، فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون، فيقول الأشهاد: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] (4).
الرحيم الرحمن غفار الذنوب وستار العيوب، يستر على العبد في الدنيا ويستره في الآخرة، بل ويغفرها له ويعفو عنه، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر» (5).
والستر صفة الأنبياء، فهذا كما كان موسى عليه السلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن موسى كان رجلًا حييًا ستيرًا، لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر، إلا من عيب بجلده: إما برص وإما أدرة: وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه» (6).
عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: «إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يرينها»، قال: قلت: يا رسول الله إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: «الله أحق أن يستحيا منه من الناس» (7).
أي فاستر طاعة له وطلبًا لما يحبه منك ويرضيه، وليس المراد فاستتر منه إذ لا يمكن الاستتار منه جل ذكره وثناؤه (8).
وستر عورات الناس واجب شرعي وأدب خلقي وفضل إيماني وإحسان بشري، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته، حتى يفضحه بها في بيته» (9).
من أسباب الفوز بستر الله:
- من أسباب ستر الله عليك الإخلاص واجتناب الرياء؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمِعَ سمِّعَ الله به، ومن يُرائي يُرائي الله به» (10).
معناه من سمع بعمله الناس وقصد به اتخاذ الجاه والمنزلة عندهم، ولم يرد به وجه الله، فإن الله تعالى يسمع به خلقه، أي يجعله حديثًا عند الناس الذي أراد نيل المنزلة عندهم بعمله، ولا ثواب له في الآخرة عليه، وكذلك من راءى بعمله الناس راءى الله به، أي أطلعهم على أنه فعل ذلك لهم ولم يفعله لوجهه، فاستحق على ذلك سخط الله وأليم عقابه (11).
- من أسباب ستر الله عليك أن تستر على نفسك، وألا تجاهر بالمعصية: طوبى لمن شُغِل بعيوبه عن عيوب الناس، إذا أذنبت فلا تحدِّث بذنبك أحدًا، الأحبُّ إلى الله لمن ابتُلي بالمعصية ألا يفضح نفسه، وليستتر بستر الله، والأولى ألَّا يذهب إلى الحاكم ويقول: فعلت وفعلت؛ ولذا كان من أبغض الناس إلى الله تعالى هؤلاء المجاهرون؛ في الصحيحين عن أبي هريرة يقول: سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» (12).
والمجاهرون هم الذين يجاهرون بمعصية الله عز وجل، وهم ينقسمون إلى قسمين:
الأول: أن يعمل المعصية وهو مجاهر بها، فيعملها أمام الناس، وهم ينظرون إليه، هذا لا شك أنه ليس بعافية؛ لأنه جر على نفسه الويل، وجره على غيره أيضًا.
أما جره على نفسه: فلأنه ظلم نفسه حيث عصى الله ورسوله، وكل إنسان يعصي الله ورسوله؛ فإنه ظالم لنفسه، قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، والنفس أمانة عندك يجب عليك أن ترعاها حق رعايتها، وكما أنه لو كان لك ماشية فإنك تتخير لها المراعي الطيبة، وتبعدها عن المراعي الخبيثة الضارة، فكذلك نفسك، يجب عليك أن تتحرى لها المراتع الطيبة، وهي الأعمال الصالحة، وأن تبعدها عن المراتع الخبيثة، وهي الأعمال السيئة.
وأما جره على غيره: فلأن الناس إذا رأوه قد عمل المعصية؛ هانت في نفوسهم، وفعلوا مثله، وصار -والعياذ بالله- من الأئمة الذين يدعون إلى النار، كما قال الله تعالى عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41].
وهذا الذي يفعله بعض الناس أيضًا يكون له سببان:
السبب الأول: أن يكون الإنسان غافلًا سليمًا لا يهتم بشيء، فتجده يعمل السيئة ثم يتحدث بها عن طهارة قلب.
والسبب الثاني: أن يتحدث بالمعاصي تبجحًا واستهتارًا بعظمة الخالق، -والعياذ بالله- فيصبحون يتحدثون بالمعاصي متبجحين بها كأنما نالوا غنيمة، فهؤلاء والعياذ بالله شر الأقسام.
ويوجد من الناس من يفعل هذا مع أصحابه، يعني أنه يتحدث به مع أصحابه فيحدثهم بأمر خفي لا ينبغي أن يذكر لأحد، لكنه لا يهتم بهذا الأمر فهذا ليس من المعافين؛ لأنه من المجاهرين (13).
قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تذل أهلها، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير إن لم يوجب حدًّا، وإذا تمحض حق الله، فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه؛ فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك (14).
وعن أبي الشعثاء قال: كان شرحبيل بن السمط على جيش، فقال لجيشه: إنكم نزلتم أرضًا كثيرة النساء والشراب –يعني: الخمر- فمن أصاب منكم حدًّا فليأتنا، فنطهره، فأتاه ناس، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فكتب إليه: أنت -لا أُمَّ لك- الذي يأمر الناس أن يهتكوا ستر الله الذي سترهم به؟ (15).
عن الشعبي قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين، إني وأدت ابنة لي في الجاهلية فأدركتها قبل أن تموت فاستخرجتها، ثم إنها أدركت الإسلام معنا فحسن إسلامها، وإنها أصابت حدًا من حدود الإسلام، فلم نفجأها إلا وقد أخذت السكين تذبح نفسها، فاستنقذتها، وقد خرجت نفسها فداويتها حتى برأ كلمها، فأقبلت إقبالًا حسنًا، وإنها خطبت إلي فأذكر ما كان منها، فقال عمر: «هاه، لئن فعلت لأعاقبنك عقوبة»، قال أبو فروة: «يسمع بها أهل الوبر، وأهل الودم»، قال إسماعيل، يتحدث بها أهل الأمصار، أنكحها نكاح العفيفة المسلمة (16).
- من أسباب الستر التوبة الصادقة: ذكر ابن قدامة في كتابه التوَّابين: لحق بني إسرائيل قحط على عهد موسى عليه السلام فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا كليم الله، ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث فقام معهم وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفًا أو يزيدون، فقال موسى عليه السلام: إلهي، اسقنا غيثك: وانشر علينا رحمتك وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع والمشايخ الركع فما زادت السماء إلا تقشعًا والشمس إلا حرارة.
فقال موسى: إلهي، إن كان قد خلق جاهي عندك فبجاه النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم الذي تبعثه في آخر الزمان، فأوحى الله إليه: ما خلق جاهك عندي وإنك عندي وجيه ولكن فيكم عبد يبارزني منذ أربعين سنة بالمعاصي فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم فبه منعتكم.
فقال: موسى: إلهي وسيدي؛ أنا عبد ضعيف وصوتي ضعيف فأين يبلغ وهم سبعون ألفًا أو يزيدون؟ فأوحى الله إليه: منك النداء ومني البلاغ.
فقام مناديا وقال: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة، اخرج من بين أظهرنا فبك منعنا المطر.
فقام العبد العاصي فنظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحدًا خرج فعلم أنه المطلوب فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل وإن قعدت معهم منعوا لأجلي فأدخل رأسه في ثيابه نادما على فعاله وقال: إلهي وسيدي، عصيتك أربعين سنة وأمهلتني وقد أتيتك طائعًا فاقبلني فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب.
فقال موسى: إلهي وسيدي، بماذا سقيتنا وما خرج من بين أظهرنا أحد؟ فقال: يا موسى، سقيتكم بالذي به منعتكم.
فقال موسى: إلهي، أرني هذا العبد الطائع فقال: يا موسى، إني لم أفضحه وهو يعصيني أأفضحه وهو يطيعني؟ (17).
- ومن أسباب ستر الله عليك ألا تهتك ستر أحد من المسلمين: ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة» (18)، سأل رجل الحسن، فقال: يا أبا سعيد، رجل عَلِمَ من رجلٍ شيئًا، أيفشي عليه؟ قال: يا سبحان الله! لا (19).
- ومن أسباب الستر عدم تتبُّع عورات المسلمين: عن البراء بن عازب، رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها، أو قال في خدورها، فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عوراتهم، فإن من تتبَّع عورة أخيه تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضحه في جوف بيته» (20).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال عليه الصلاة والسلام: «من ستر عورة أخيه؛ ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته» (21).
يقول ابن حجر: قوله: «ومن ستر مسلمًا»؛ أي: رآه على قبيح، فلم يظهره؛ أي: للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه، وقال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم، وقد روي عن بعض السلف أنه قال: أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس، فذكر الناس لهم عيوبًا، وأدركت أقوامًا كانت لهم عيوب، فكفُّوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم (22).
والعباد مع الستر صنفان:
من يستر، ومن يفضح؛ كما قال الفضيل بن عياض: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّر (23).
الأول: من كان مستورًا لا يعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو زلة، فإنه لا يجوز كشفها، ولا هتكها، ولا التحدُّث بها؛ لأن ذلك غيبةٌ محرمةٌ، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص، وفي ذلك قد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]، والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن المستتر فيما وقع منه، أو اتُّهِم به وهو بريء منه، كما في قصة الإفك.
والثاني: من كان مشتهرًا بالمعاصي، معلنًا بها لا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المعلن، وليس له غيبة، كما نصَّ على ذلك الحسن البصري وغيره، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره؛ لتقام عليه الحدود، ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ، ولو لم يبلغ السلطان؛ بل يترك حتى يُقام عليه الحد، لينكف شرُّه، ويرتدع به أمثاله.
قال مالك: من لم يعرف منه أذى للناس؛ وإنما كانت منه زلة، فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأما من عرف بشرٍّ أو فسادٍ، فلا أحب أن يشفع له أحد؛ ولكن يترك حتى يُقام عليه الحد (24).
- ومن أسباب الستر ألَّا تنعت المرأة امرأة أخرى لزوجها: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» (25)، وهذا للأسف ينتشر بين المسلمات حتى المتدينات منهن، وينبغي ألَّا تصف المرأة امرأة أخرى لزوجها.
- من أسباب الستر عدم إفشاء أسرار الزوجين: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى فلما سلَّم أقبل عليهم بوجهه، فقال: «مجالسكم، هل منكم الرجل إذا أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره، ثم يخرج فيحدث، فيقول: فعلت بأهلي كذا، وفعلت بأهلي كذا؟»، فسكتوا، فأقبل على النساء، فقال: «هل منكن من تحدث؟» فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتيها وتطاولت؛ ليراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليسمع كلامها، فقالت: إي والله، إنهم يتحدثون وإنهن ليتحدثن، فقال: «هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟ إن مثل من فعل ذلك، مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه بالسكة، فقضى حاجته منها، والناس ينظرون إليه» (26).
- من أسباب الستر حجاب المرأة: عن أبي المليح قال: دخل نسوة من أهل الشام على عائشة، فقالت: ممن أنتن؟ قلن: من أهل الشام، قالت: لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات، قلن: نعم، قالت: أما إني سمعت رسول الله يقول: «ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى» (27).
فالتي تخلع ثيابها في غير بيت أهلها، تهتك الستر الذي أسدله الله تعالى عليها.
- من أسباب الستر غض البصر: عن أبي سعيد الخُدْري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة» (28).
- من أسباب الستر الصدقة: وأن يحجبك الله تعالى عن النار، عن عدي بن حاتم قال: سمِعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل» (29).
- من أسباب الستر ستر المسلم عند تغسيله: قال رسول الله: «من غسل ميتًا فستره، ستره الله من الذنوب، ومن كفَّنه، كساه الله من السندس» (30).
- من أسباب الستر الإحسـان إلى البنات: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة، فأعطيتها إيَّاها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته، فقال: «من ابتُلي من هذه البنات بشيء كنَّ له سترًا من النار» (31).
- من أسباب الستر تأدية حق الله في المال: فإذا أدَّيت حق الله في مالك، سترك الله؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة؛ هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما التي هي له وزر، فرجل ربطها رياءً وفخرًا ونواءً على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر، وأما التي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات» (32).
- من أسباب الستر كظم الغيظ والغضب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن كف غضبه ستر الله عورته» (33).
- من أسباب الستر حسن الظن بالله: فمن جملة الخير أن يحسن العبد ظنه بربِّه، ويحسن الظن بأنه سيستره في الدنيا والآخرة، فالله جل في علاه هو الستِّيـــر يحب الستر على عباده، ويسترهم في الدنيا والآخرة؛ يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرٌّ» (34).
- من أسباب الستر الاستتار وعدم التعرِّي: عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدخل الحمام بغير إزار» (35)، والحمامات المقصود بها حمامات البخار وصالات الألعاب الرياضية في عصرنا، فالأصل أن يستتر.
- عدم التسميع بالفواحش: فلا يجوز إشاعة الفاحشة بين المؤمنين؛ عن شبيل بن عوف قال: كان يقال: من سمع بفاحشة فأفشاها، فهو فيها كالذي أبداها (36).
فالذي ينشر أخبار المعاصي ويُفشيها، سينال وِزْر كل من يقع فيها بسببه حتى وإن لم يقع هو في تلك المعصية، وعن عبد الله بن المبارك، قال: كان الرجل إذا رأى من أخيه ما يكره، أمره في ستر، ونهاه في ستر، فيؤجر في ستره، ويؤجر في نهيه، فأما اليوم فإذا رأى أحد من أحد ما يكره؛ استغضب أخاه، وهتك ستره، وعن عبيد الله بن عبد الكريم الجيلي، قال: من رأيته يطلب العثرات على الناس، فاعلم أنه معيوب، ومن ذكر عورات المؤمنين؛ فقد هتك ستر الله المرخي على عباده.
- ستر أسرار أهله: فالمسلم يستر ما يدور بينه وبين أهله فلا يتحدث به أمرنا الإسلام بذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها» (37).
- من أسباب ستر الله دعاء وسؤال الله تعالى الستر: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَع (يترك) هذه الدعوات حين يمسي وحين يصبح: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، وديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدَي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي» (38).
ضوابط وحدود الستر على العصاة:
الستر على العصاة في الإسلام له حدوده وضوابطه، فالشخص الذي يجاهر بالمعصية، والذي يستخف بحدود الله وبالناس، فليس لهذا الشخص ستر وليس أهلًا له، فالستر لا يتناول من كان منكره يلحق الضرر بالمجتمع عامة، ومن أمثلة ذلك ما يتصل بالنواحي العقدية، أو فيه ضرر على المسلمين في دينهم أو ما يتعلق بالنواحي الأمنية كزعزعة الأمن، وتهريب المخدرات، أو يتعاطى السحر والكهانة، ومن أراد التفريق بين المسلمين وتشتيت كلمتهم.
وقد رُوِي عن بعض السلف أنه قال: أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس، فذكر الناس عيوبهم، وأدركت قومًا كانت لهم عيوب، فكفُّوا عن عيوب الناس فنُسِيت عيوبهم (39).
فلطالما لم يجاهر العاصي بالمعصية ويتجرأ بها على الله ويحاول إفساد المجتمع بها، فإنه يعذر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأى عيسى ابن مريم عليه السلام رجلا يسرق، فقال له: أسرقت؟ قال: لا والله الذي لا إله إلا هو، قال عيسى عليه السلام: آمنت بالله، وكذبت بصري» (40).
الاشتغال بعيوب الناس سببٌ في فضح عيوب المشتغِل، والسكوت عن عيوب الناس سببٌ في ستر الله للعبد، ومَن نظَر لعيوب نفسه شغلتْه عن عيوب الناس؛ قال صلى الله عليْه وسلم: «يبصر أحدكم القَذَى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه» (41).
قال المباركفوري: وأما الستر المندوب إليه فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم، ممن ليس هو معروفًا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب ألا يستر عليه؛ بل يرفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يُطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله؛ هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت.
أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قدر على ذلك؛ ولا يحل تأخيرها؛ فإن عجز لزم رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة (42).
ولقد استثنى الإسلام من جملة الستر على العصاة:
1- الحدود فإنها تستر على صاحبها وفق الضوابط، ما لم تبلغ السلطان فإنها لا تستر حينئذ، ودليله ما روي عن عائشة رضي الله عنها، أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (43).
قال محمد بن داود الحدائى، قلت لسفيان بن عيينة: إن هذا يتكلم في القدر –يعنى إبراهيم بن يحيى فقال سفيان: عرفوا الناس أمره، وسلوا الله لي العافية (44).
____________
(1) أخرجه مسلم (2759).
(2) مكارم الأخلاق للخرائطي (ص: 503).
(3) أخرجه الطبراني (4146).
(4) أخرجه البخاري (2441).
(5) أخرجه أبو داود (4012).
(6) أخرجه البخاري (3404).
(7) أخرجه أبو داود (4017).
(8) حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 593).
(9) أخرجه ابن ماجة (2546).
(10) أخرجه البخاري (6499)، ومسلم (2987).
(11) شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 208).
(12) أخرجه البخاري (6069).
(13) شرح رياض الصالحين (3/ 16- 17).
(14) فتح الباري (10/ 487).
(15) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/ 197).
(16) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10690).
(17) التوابين لابن قدامة (ص: 56).
(18) أخرجه مسلم (2590).
(19) مكارم الأخلاق (ص: 489).
(20) أخرجه أبو داود (4880).
(21) صحيح الترغيب (2338).
(22) جامع العلوم والحكم (2/ 291).
(23) فيض القدير (2/ 328).
(24) جامع العلوم والحكم (2/ 293).
(25) أخرجه البخاري (5240).
(26) صحيح الجامع (7037).
(27) أخرجه أبو داود (4010).
(28) أخرجه مسلم (338).
(29) أخرجه مسلم (1016).
(30) صحيح الجامع (6403).
(31) أخرجه البخاري (1418)، ومسلم (2629).
(32) أخرجه مسلم (987).
(33) صحيح الجامع (176).
(34) صحيح الجامع (1905).
(35) أخرجه الترمذي (4477).
(36) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (325).
(37) أخرجه مسلم (1437).
(38) أخرجه أبو داود (5074).
(39) حياة السلف بين القول والعمل (ص: 783).
(40) أخرجه النسائي (5427).
(41) صحيح الجامع (8013).
(42) انظر: تحفة الأحوذي (8/ 215).
(43) أخرجه البخاري (3475).
(44) تلبيس إبليس (ص: 83).