logo

التكامل التربوي


بتاريخ : الخميس ، 2 محرّم ، 1437 الموافق 15 أكتوبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
التكامل التربوي

خلق الله عز وجل الإنسان بتكوين يشمل ثلاثة جوانب رئيسية؛ هي: العقل، والنفس، والجسد.

وعندما يبدأ الإنسان رحلته على الأرض منذ نزوله من بطن أمه، فإنما يبدأها بهذه المكونات الثلاثة وهي غير مكتملة النمو، فقد جعلها سبحانه تبدأ صغيرة محدودة الإمكانات، وأودع فيها خاصية النماء: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].

هذه الجوانب تحتاج إلى دوام تعاهد وإمداد، يترك فيها أثره الدائم في اتجاه تحقيق الهدف من وجود الإنسان على الأرض، ألا وهو: تحقيق العبودية الصحيحة لله عز وجل.

ومن الضوابط الحاكمة للعملية التربوية كذلك ضرورة أن تشمل التربية الجوانب الثلاثة للشخصية، فأي إهمال لجانب منها يؤدي إلى عدم ظهور ثمرة التربية الصحيحة، فعندما يحصل اهتمام بتحصيل العلم دون الاهتمام بزيادة الإيمان فستكون النتيجة المتوقعة شخصًا كثير التنظير، حافظًا للنصوص، كثير الحديث عن القيم والمبادئ والمعاني العظيمة، لكنك قد تجد في المقابل واقعًا يختلف عن الأقوال، فهو يتحدث عن العدل والمساواة بينما لا يتعامل مع الآخرين بهذه القيم، وبخاصة مع من يرأسهم، يتحدث عن الزهد في الدنيا وأهمية العمل للآخرة، في حين تجده يحرص على جمع المال، وينفق منه بحساب شديد، ويدقق في كل شيء مهما كان صغيرًا .

إن الإسلام منهاج كامل ونظام شامل، غايته شريفة، ووسائله نظيفة، يهدي الناس إلى سعادتهم في دنياهم وأخراهم، يوضح العقيدة الصافية والعبادة الهادية، ويرشدهم إلى المعاملات الكريمة والأخلاق العظيمة، ويدلهم على أسس الحكم التي تصلح بها البلاد والعباد، ويبين لهم كل ما فيه صلاح الفرد والجماعة ونهضة الأمة ورفعتها، متكفلًا بكل مطالب الخلائق في كل نواحي الحياة.

أولًا: التربية العقلية:

العقل آلة تقوم بعدد من الوظائف الهامة؛ من إدراك، وذاكرة، وخيال، وحفظ، واستنتاج، وتخيُّل، وغيرها من القوى العقلية التي تحتاج إلى صقل وتدريب، بالإضافة إلى الميول العقلية؛ كالميل إلى البحث والاطّلاع، والتنقيب والابتكار، وتقوية مهارات القراءة والكتابة، والتفكير المنطقي المنظم.

ولقد حدد الإسلام في تربيته للعقل الجوانب والمجالات التي يستطيع العمل فيها، والمجالات التي لا قدرة له على اختراق أجوائها، فقال صلى الله عليه وسلم: «تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله عز وجل»(1).

وحرص الإسلام على العقل من الانحراف أو الفساد والدمار بمنع الوسائل المؤدية للانحراف، سواء الأخلاقي أو الثقافي أو الفكري، وحرص على توجيهه وتغذيته بما يحتاجه في إنجاح وظيفته التي خُلِق من أجلها، فالعقل الصالح عقل مثمر ومنتج، والعقل الآخر مفسد ومدمر.

ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذّر من الجدال والمراء فيما لا طائل فيه، وذم القرآنُ من يوجهون قواهم العقلية وقدراتهم في الاتجاهات غير المرغوب فيها.

إنّ من أهم المشكلات التي تواجهها المجتمعات العربية تتمثل في قصور المناهج التربوية في إعداد الناس عامة، والشباب خاصة؛ إعدادًا عقليًا يساعد على تفتح أذهانهم، وتنمية قدراتهم العقلية، وصقل مواهبهم، ورعاية ميولهم العلمية والعقلية؛ ليكونوا في مستوى التحدي العلمي والحضاري في عصرهم، ولتكون لهم القدرة على المشاركة والإضافة في توجيه ثمار العلم لخير البشرية.

وقد عاب القرآن على الذين يعطِّلون عقولهم، ويعتمدون على غيرهم ويقلدونهم، ودعا إلى التحرر في الفكر؛ حتى يكون المسلم قادرًا على التخلص من ربقة التقليد، وقيود التقاليد، والمعارف والخبرات التي لا يؤيّدها علم ولا عقل، ودعا إلى تنمية الاتجاه العلمي السليم في احترام آراء الآخرين، والأمانة في إصدار الأحكام، بعد جمع الأدلة، والبحث والتقصي: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].

{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].

ولا يتحقق ذلك كله إلَّا بتوجيه الإعداد العقلي للشباب إلى الربط بين العلم النظري، والاتجاهات السليمة في التطبيق، وإصدار الأحكام، والوصول إلى الحقائق.

والإعداد العقلي في الإسلام مختلف عن مفهوم الإعداد في الفكر غير الإسلامي؛ لأن الإسلام يعتبر العقل وسيلة من وسائل المعرفة وليس الوسيلة الوحيدة؛ لعجز العقل وحده عن تفسير كل شيء، ولذلك اهتم المسلمون بالدليل العقلي والدليل النقلي؛ لأنّ للعقل حدًا لا يدرك ما بعده، وليس العلم كله مما يدرك بالعقل؛ لأن المرء حتى ولو لم يكن مسلمًا يؤمن بكثير من الأشياء الخارجة عن إدراك العقل والحواسّ، وإذا كان الإنسان مطالبًا بمعرفة الله والتفكير في ملكوته عن طريق العقل، فإن الدين هو الذي يوجه هذا العقل، ويحدد مساره الصحيح، وعلمُ الدين علم غيبي، يصل عن طريق الوحي من الله وليس غير ذلك؛ ولذلك فإن تكامل المنهج في الإعداد العقلي للشباب إنما يبنى على وسيلتي الوصول إلى الحق، هما: العقل، والوحي.

فالأول فيما يتعلق بالمظاهر الكونية، والأمور الحسيّة، وما هو خاضع للتجربة المادية.

والثاني لمعرفة ما هو خارج عن نطاق العقل وقدراته ووظائفه، وما اتصل بالغيب فيما جاء عن الله من رسله وكتبه.

أهمية التربية العقلية:

التربية العقلية هي التي تهتم بالعقل، وتغذيه، وتمده بأسباب نشاطه وحيويته، وتعطيه القدرة على النظر والتأمل والتدبر والتحليل والاستنتاج؛ أي تنمية قدراته واستعداداته، والعقل هو القوة المتهيئة لقبول العلم، أو العلم نفسه الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة.

نجد أن المنهج التربوي في القرآن الكريم والسنة النبوية يقوم على دعائم أساسية، وهي:

1- تنقية العقل من الخرافات والأوهام وادعاءات علم الغيب، حيث قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن:26-27].

2- تنقية العقل من الأحكام المبنية على الظنون والتخمينات والأهواء؛ لأن ذلك يضر بالعقل، ويعوده أن يأخذ بما يباعد بينه وبين الحق والحقيقة؛ بل يحول بينه وبين العلم، وكل ذلك يؤدي إلى فساد في الأرض، {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36].

  وقال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71].

3- تعويد العقل الاستدلال بعد النظر والتأمل، {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)} [الأنعام:75-80].

4- المباعدة بين العقل والتبعية وتعويده رفض التقليد، وذلك أن كل إنسان يستعمل عقله في التفكير فيما يحيط به من أمور، ولا يتبع في ذلك أحدًا، ولا يقلد فيه سواه دون تعقل وتدبر {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة:170-171].

5- تنمية العقل بالعلم والمعرفة، والعلم والمعرفة يزودان العقل وينميانه، ولكن ليس كل علم ولا كل معرفة، فإن بعض هذه العلوم والمعارف قد يصيب العقل بالجمود والتحجر وإنما العبرة بمصادر هذا العلم وتلك المعرفة، فكلما كانت هذه المصادر أمينة صحيحة، كلما أسهمت في تنمية العقل.

 ويقول الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].

ثانيًا: التربية الجسدية:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»(2).

ويقول النووي: «والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبًا لها، ومحافظة عليها، ونحو ذلك»(3) .

يقول ابن قيم الجوزية: «فارجع الآن إلى نفسك، وكرر النظر فيك فهو يكفيك، وتأمل أعضاءك وتقدير كل عضو منها للأرب والمنفعة المهيأ لها، فاليدان للعلاج والبطش والأخذ والإعطاء والمحاربة والدفع، والِرجلان لحمل البدن والسعي والركوب وانتصاب القامة، والعينان للاهتداء والجمال والزينة والمَلاحة، ورؤية ما في السماوات والأرض وآياتهما وعجائبهما، والفم للغذاء والكلام والجمال وغير ذلك، والأنف للنفس وإخراج فضلات الدماغ وزينة للوجه، واللسان للبيان والترجمة عنك، والأُذُنان صاحبتا الأخبار تؤديانها إليك، واللسان يبلغ عنك، والمعدة خزانة يستقر فيها الغذاء فتُنضِجه وتطبخه وتُصلحه إصلاحًا آخر وطبخًا آخر غير الإصلاح والطبخ الذي توليته من خارج، ثم رتّب منها مجاري وطرقًا يسوق بها الغذاء إلى كل عضو وعظم وعصب ولحم وشعر وظفر، وجعل المنازل والأبواب لإدخال ما ينفعك وإخراج ما يضرك، وجعل الأوعية المختلفة خزائن تحفظ مادة حياتك، فانظر إلى بعض ما خصك به وفضلك به على البهائم المهملة؛ إذ خلقك على هيئة تنتصب قائمًا، وتستوي جالسًا، وتستقبل الأشياء ببدنك، وتقبل عليها بجملتك؛ فيمكنك العمل والصلاح والتدبير، ولو كنت كذوات الأربع المكبوبة على وجهها لم يظهر لك فضيلة تمييز واختصاص، ولم يتهيأ منك ما تهيأ من هذه النسبة»(4).

حين نتحدث عن الجسم في مجال التربية فليس المقصود هو عضلاته وحواسه ووشائجه فحسب، وإنما نقصد كذلك الطاقة الحيوية المنبثقة من الجسم، والمتمثلة في مشاعر النفس، طاقة الدوافع الفطرية والنزوعات والانفعالات، طاقة الحياة الحسية على أوسع نطاق.

والإسلام في تربيته للجسم والطاقة الحيوية يراعي الأمرين معًا، يراعي الجسم من حيث هو جسم، ليصل منه إلى الغاية النفسية المرتبطة به، فحين يقول الرسول الكريم: «إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه»(5): من إطعام وإراحة وتنظيف وتقويم، فهو يدعو إلى هذه العناية الشاملة بالجسم كله، ليأخذ الإنسان بنصيب من المتاع الحسي الطيب الحلال الذي أمر الله به في توجيهاته الكثيرة: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]؛ أي: لغاية نفسية مقامة على قاعدة جسمية؛ ثم ليوفر الطاقة الحيوية اللازمة لتحقيق أهداف الحياة، وهي أهداف تشمل كل كيان الإنسان.

وكذلك توجيهات الإسلام المختلفة في هذا الباب، فالرماية والفروسية، أو الرياضة البدنية عامة، هي جزء من منهج التربية الإسلامية، تنص عليه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقصد بها تقوية الجسم ورياضته على احتمال المشاق وبذل الجهد، كما يقصد بها قوة الأخذ بنصيب الإنسان من الحياة، والاستمتاع به، فالجسد الهزيل المريض لا يأخذ نصيبه الحق من المتاع؛ فوق أنه لا يوصل شحنة الحياة إلى النفس توصيلًا صحيحًا تقوم عن طريقه بمهمتها المفروضة عليها؛ وفوق أن جهاد الحياة، والحياة كلها جهاد، في حاجة إلى جسم وثيق متين البنيان.

كما أن الإسلام يحرص على المظاهر الجسمية النفسية في مجال الجنس، إنه يحب أن يكون الرجل واضح الرجولة، والأنثى واضحة الأنوثة، يكره التخنث والميوعة، ويكره المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال؛ لأنه يحترم الطاقة الجنسية على فطرتها السليمة، يحترمها احترامًا جادًّا، لا على أنها وسيلة للفحش، ولا على أنها وسيلة للتميع والانحلال.

ولكن الإسلام وهو يحترم الطاقة الجسمية احترامًا كاملًا، لا يتركها على حالها، ولا يطلق لها العنان، إنه ينظمها ويضبط منصرفاتها؛ لأنها، هكذا طبيعتها، إذا تركت وشأنها لا تقف عند حد، وتدمر الكيان.

فالجوع والعطش ضمان لإعطاء الجسم حاجته الدائمة من الطعام والشراب، والألم اللاذع من البرد والحر وتقلبات الجو ضمان لإعطاء الجسم وقايته من كساء ومأوى وما إليه، والرغبة العنيفة في الجنس ضمان لتحقيق التوالد المستمر الذي يحفظ النوع على ظهر الأرض، والرغبة الشديدة في إمتاع النفس ضمان لاستمرار تزويد الإنسان بضروراته من كل نوع، وهكذا كل مطلب من مطالب الحياة يحمل ضماناته في يديه، فطرة لا تحتاج في الإحساس بها إلى تفكير.

وليس الألم وحده هو الدافع، فذلك رباط من جانب واحد، وفي الجانب الآخر رباط اللذة، فكل دفعة فطرية، أو كل مطلب من مطالب الحياة مزود بضمانين في وقت واحد، ضمان يدفع من الخلف، وضمان يجذب من الأمام، أحد الضمانين هو الألم الناشئ عن عدم تحقيق الرغبة، والآخر هو اللذة الكامنة في التحقيق(6).

أهمية التربية الجسمية:

تنطلق أهمية التربية الجسمية من كونها لازمة وضرورية للإنسان المسلم، حتى يتمكن من أداء رسالته العظيمة التي خلق لها، والمتمثلة في عبادة الله تعالى، والامتثال لأوامره، والقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض، وعمارتها على النحو الذي يريده الله تعالى، وهذا لن يتحقق للإنسان إلا بجسم صحيح، وتربية سليمة تجعل هذا الجسم قادرًا على أداء رسالته، والقيام بواجباته خير قيام؛ حيث إن الرقي الجسمي يستهدف تنمية الجسد، وقوة الأعضاء؛ لكي يصبح الفرد قادرًا على أداء الوظيفة التي خلقه الله من أجلها في هذا الكون(7).

ثالثًا: التربية النفسية:

طاقة الجسم محدودة بكيانه المادي وبما تدركه الحواس.

وطاقة العقل أكثر طلاقة، ولكنها محدودة بما يعقل، محدودة بالزمان والمكان، بالبدء والنهاية، ومحكومة بالفناء.

وطاقة الروح وحدها، في كيان الإنسان، هي التي لا تعرف الحدود والقيود، لا تعرف الزمان والمكان، لا تعرف البدء والنهاية، لا تعرف الفناء، هي وحدها التي تملك الاتصال بما لا يدركه الحس ولا يدركه العقل، هي وحدها التي تملك الاتصال بالخلود الأبدي والوجود الأزلي، تملك الاتصال بالله، كما أنها هي التي تملك الاتصال بالوجود كله من وراء حواجز الزمان والمكان.

وطريقة الإسلام في تربية الروح هي أن يعقد صلة دائمة بينها وبين الله، في كل لحظة، وكل عمل، وكل فكرة، وكل شعور.

إن الإنسان، بطبيعته، قد تشرق روحه لحظة، قد تأخذه روعة الصبح الوليد مرة، وهو يتنفس كمن يصحو من سباته، قد تأخذ بلبه الليلة المقمرة، فينتشي بشعرها المهموس، وأطيافها الراقصة، وظلالها المسحورة، قد تأخذه ضخامة الكون وانتظام سننه ودقة نظامه، قد تروعه حادثة مفاجئة فتهز نفسه وتوقظه لعالم الغيب ومدبر الأمور، وكل ذلك جميل؛ ولكنها لحظات منقطعة لا دوام لها ولا استقرار، لحظات خاطفة لا تلبث، بزوال مؤثرها، أن تزول، والإسلام لا يريد ذلك، لا يريد لهذه الإشراقة الروحية أن تنطفئ، لا يريد لها أن تخنس وتخبو، لا يريد أن يغشي صفاءها شيء أو يحجبها عن انطلاقها في الآفاق، ومن ثم لا يكتفي بتلك اللحظات الفائقة التي تجيء عرضًا ولا تلبث أن تزول، لا تكاد تترك لها أثرًا في النفس، ولا تسيرها على منهج واضح أصيل.

إنما يريد الإسلام أن يجعل هذه الإشراقة منهج حياة! يريد أن يذكي الشعلة المقدسة فتظل على الدوام مضيئة، يريد أن تظل القبسة التي يشتمل عليها الإنسان من روح الله، مشعشعة واصلة لنبعها الأصيل(8).

والنفس تعرف بأنها مجمع الشهوات والغرائز داخل الإنسان، وهي بهذا تطلب حظها بإلحاح شديد دون نظر إلى العواقب، مثلها في ذلك مثل الطفل الصغير؛ يريد أن يحصل شهوته بأي طريقة ولا يبالي في ذلك بضرر قد يحدث أو بكارثة قد تقع،فهي تهوى الراحة وتكره التكليف وتتلذذ بالشهوات المباح منها والمحظور، وهذه كلها شهوات واضحة جلية.

لكن أعظم وأخطر شهوة للنفس هي تلك الشهوة الخفية، والتي قد تخفى على صاحبها، وهي شهوة الـ(أنا)، شهوة الإعجاب بالنفس، والشعور بالتميز عن الآخرين «أنا خير منه»!!

هذه الشهوة يمكنها أن تذهب بالمرء وبأعماله كلها إلى النار والعياذ بالله، حتى ولو أفنى عمره كله في قيام الليل وصيام النهار... لماذا؟ لأن المعجب بعمله لا يستعين بالله؛ إذ إنه يشعر بأن له فضل ذاتي، وأن له قدرة ذاتية هي السبب في نجاح العمل.

حتى ولو قال بلسانه أن الله هو المستعان فإنه بلسان حاله يشعر بأن له قيمة وفضلًا ذاتيًا في تحقق العمل، وإلا فكيف يعجب بعمل ليس له فيه فضل، وليس له فيه يد ولا حيلة؟!

إنه في ذاته يقول: أنا عندي موهبة كذا وكذا، وأستطيع أن أفعل كذا وكذا، فمن أين له هذه الثقة؟ والله عز وجل قائم على كل نفس يمدها لحظة بلحظة وآنًا بآن!! وأنّى للمعجب بنفسه أن يعرف أنه يستطيع فعل كذا {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:78].

تخيل لو أن الحاسب الآلي قد منح الشعور كالإنسان فهل له أن يعجب بإمكاناته وبما له من قدرة على معالجة المعلومات وتخزينها وكل مفاتحه في يد صاحبه؟ هو الذي يمده بالبيانات؛ بل هو الذي يمده بالتيار الكهربي الذي لو قطعه عنه ما استطاع أن يفعل شيئًا مهما كانت إمكاناته أو سعة تخزينه.

ألا ترى أنه لو حمد نفسه ونسب الفضل لها دون صاحبه فهو مجحف وهاضم لحق صاحبه؟ بل إنه لو نسب الفضل له ولصاحبه فهو ظالم أيضًا؛ إذ إنه ليس له من الأمر شيء، فهو بدون صاحبه لا شيء سوى قطعة من الحديد.

فكذلك الإنسان ليس عنده ما يعجب به؛ لأنه بدون المدد الإلهي لا شيء.

فإن تركت النفس بدون تزكية فإن هذا المعنى يغيب عنها، ويسيطر عليها، شيئًا فشيئًا، الشعور بالتميز وبالفضل الذاتي.

إن الشعور الذي يجب أن يسيطر على الإنسان هو أنه عبد لله، والعبد ليس عنده ما يختال به أو يعجب به؛ بل إنه كسير مسكين لمولاه، لا يرى أن له فضلًا؛ بل يرى نفسه صغيرًا وفقيرًا، وهذه حالته مع نفسه ومع غيره من العبيد، فكلٌ عبد لله تعالى، وهو وحده السيد والمولى، وهو وحده الذي له الكبرياء والعظمة.

أخرج ابن المبارك في الزهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُتي له بطعام، فقالت له عائشة: لو أكلت يا نبي الله وأنت متكئ كان أهون عليك، فأصغى بجبهته حتى كاد يمس الأرض بها، قال: «بل آكل كما يأكل العبد، وأنا جالس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد»(9).

هكذا يرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وهكذا كانت حالته في حياته كلها، فهو يسلم على الأطفال ولا يرى في ذلك حرجًا، وتأتي الهرة فيصغي لها الإناء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلة شربها، لم يأكل على خوان، يجلس كالعبد ويأكل كالعبد، فهو يرى نفسه عبدًا، ولذلك فقد رفعه الله عز وجل، وجعله خير عبد له تبارك وتعالى.

وهذا هو مستهدف التربية النفسية، أو ما يسمى في القرآن الكريم بالتزكية: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]: وهو أن يصل المرء إلى حقيقة أنه بنفسه لا شيء، وأنه بالله لا بنفسه.

أهمية التربية النفسية:

تستمد التربية النفسية أهميتها من نفس الإنسان بذاته؛ لأن بصلاح النفس يصلح الإنسان، وبفساد النفس يفسد الإنسان؛ حيث إن التربية هي التنشئة والإصلاح في تشكيل الشخصية السوية بجميع جوانبها، والجانب النفسي يرتبط بجميع جوانب الشخصية، فالجانب العقلي مث