logo

أيها الداعية لا تغضب


بتاريخ : الخميس ، 29 رمضان ، 1436 الموافق 16 يوليو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
أيها الداعية لا تغضب

كثير هي المواقف التي تثير الإنسان، وتهيج مشاعره، وتثير انفعالاته، وتكون النتيجة مما لا تحمد عقباه.

يغضب فيكسر، أو يغضب فيهرب، أو يغضب فيضرب، أو يغضب فينتقم؛ يقتل أو يتوعد، هكذا يكون رد فعله، فإن لم يتدارك نفسه ضيعها، وإن لم يضبط أخلاقه دمرها.

يقول الإمام أبو حامد الغزالي: «الغضب شعلة نار، اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، وإنها المستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد»(1).

وسيئات الغضب كثيرة، ونتائجه الوخيمة أكثر، وخطورة الغضب ليس على الفرد فحسب؛ بل هي على الفرد والأسرة والمجتمع، والمضار المترتبة على الغضب على مستوى الفرد كثيرة؛ لأن الغضب يبعد المرء عن طبيعته البشرية، ويشل تفكيره، ويحرك في نفسه نوازع البغي والشر، ويفقده رشده، فيتصرف من غير اتزان بعيدًا عن مواطن الحكمة والعقل؛ لأن الشيطان حينئذ هو الذي يسيطر عليه ويحركه، فيخرجه عن صوابه.

لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغضب، وذلك كما جاء في الحديث الشريف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: «لا تغضب»، فردد مرارًا، قال: «لا تغضب»(2).

والغضب انفعال فطري طبيعي يشعر به الكبار والصغار، ولا يعتبر الغضب في حد ذاته مشكلة، ولكن الخطورة في هذا الانفعال عندما يخرج عن السيطرة، وينجم عنه عواقب غير محمودة، تختلف حدتها من موقف لآخر .

فالغضب عندما يتملك الفرد فإنه يؤثر على جوانب عديدة في شخصيته، مثل الجانب الأخلاقي؛ وذلك من خلال أقواله وأفعاله؛ فيقوم بشتم أو ضرب من أمامه، كما يؤثر على الجانب الصحي؛ فيصاب ببعض الأمراض؛ مثل: الضغط، أو السكري، أو القولون العصبي، أو رعشة في اليدين، أو أمراض القلب.

أما عن الجانب النفسي؛ فسيشعر دائمًا بالإحباط وعدم الرضا عن نفسه وعمن حوله، وفي الجانب الاجتماعي؛ تنشأ الخلافات في الأسرة بين أفرادها، وقد تؤدي إلى الطلاق وتفكك الأسرة؛ وفي العمل تجد أن الشخصَ كثيرَ الغضب في مشاحنات دائمة مع زملائه ورؤسائه، كما أنه يؤثر على علاقات الجيران ببعضهم البعض، وتحدث فجوة اجتماعية، وتفكك بين الجيران، وليس هذا وحسب؛ بل كل ما يحيط بالفرد في الحياة الاجتماعية.

عن أنس بن مالك قال: كانت عند أم سليم يتيمة، وهي أم أنس، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة، فقال: «آنت هيه؟ لقد كبرت، لا كبر سنك»، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم، أن لا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أبدًا، أو قالت قرني، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها، حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لك يا أم سليم؟»، فقالت: يا نبي الله، أدعوت على يتيمتي؟ قال: «وما ذاك يا أم سليم؟»، قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها، ولا يكبر قرنها، قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «يا أم سليم، أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه، من أمتي، بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورًا وزكاة، وقربة يقربه بها منه يوم القيامة»(3).

عن عمر بن عبيد الله أنه قال: ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله: من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له(4)، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: «لا يغرنك خلق امرئ حتى يغضب، ولا دينه حتى يطمع، فانظر على أي جنبيه يقع»(5).

وقد حكي أنه جاء غلام لأبي ذر بشاة له قد كسر رجلها، فقال له أبو ذر: من كسر رجل هذه الشاة؟ قال: أنا، قال: ولم فعلت ذلك؟ قال: عمدًا لأغضبك فتضربني فتأثم، قال أبو ذر: لأغيظن من حضك على غيظي فأعتقه.

موسى عليه السلام يعيش مع قوم لا يفعلون إلا ما يغضبه، فيصبر ويتحمل منهم الاستهزاء والسخرية، والتباطؤ في تنفيذ أوامر ربه، ومعاندته في دخول الأرض المقدسة، وتبجحهم في مطالبته برؤية الله، كل ذلك يتحمله على مضض، ولكن أن يعبدوا عجلًا من دون الله هذا أمر لا يتحمله عاقل، قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)} [الأعراف:150-151].

لقد عاد موسى إلى قومه غضبان أشد الغضب، يبدو انفعال الغضب في قوله وفعله، يبدو في قوله لقومه: {بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}، ويبدو في فعله إذ يأخذ برأس أخيه يجره إليه ويعنفه {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}.

وحق لموسى عليه السلام أن يغضب؛ فالمفاجأة قاسية، والنقلة بعيدة: {بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي}، تركتكم على الهدى فخلفتموني بالضلال، وتركتكم على عبادة الله فخلفتموني بعبادة عجل جسد له خوار!... {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}، وهي حركة تدل على شدة الانفعال، فهذه الألواح هي التي كانت تحمل كلمات ربه، وهو لا يلقيها إلا وقد أفقده الغضب زمام نفسه، وكذلك أخذه برأس أخيه يجره إليه، وأخوه هو هارون، العبد الصالح الطيب! فأما هارون فيستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة، ليسكن من غضبه، ويكشف له عن طبيعة موقفه، وأنه لم يقصر في نصح القوم ومحاولة هدايتهم: {قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي}.

{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} .

والتعبير القرآني يشخص الغضب، فكأنما هو حي، وكأنما هو مسلط على موسى، يدفعه ويحركه حتى إذا «سكت» عنه، وتركه لشأنه! عاد موسى إلى نفسه، فأخذ الألواح التي كان قد ألقاها بسبب دفع الغضب له وسيطرته عليه.

إن الغضب له حينه ووقته للداعية، وكذلك العفو والصفح له زمانه، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون (201)} [الأعراف:199-201].

خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب إليهم الكمال، ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق، واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم، كل أولئك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية، ولا في الواجبات الشرعية، فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة الله يكون التغاضي والتسامح.

ولكن في الأخذ والعطاء، والصحبة والجوار، وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة، فالإغضاء عن الضعف البشري، والعطف عليه، والسماحة معه، واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راع وهاد ومعلم ومرب، فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم، لم يغضب لنفسه قط، فإذا كان في دين الله لم يقم لغضبه شيء، وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر، وسماحة طبع، ويسرًا وتيسيرًا في غير تهاون ولا تفريط في دين الله.

{وَأْمُرْ بِالعُرْفِ} وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال، والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة، والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك، وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف، وما يصد النفسَ عن الخير شيءٌ مثلما يصدها التعقيد والمشقة، والشد في أول معرفتها بالتكاليف! ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف حتى يسلس قيادها، وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين.

{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} من الجهالة ضد الرشد، والجهالة ضد العلم، وهما قريب من قريب.

والإعراض يكون بالترك والإهمال، والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال، والمرور بها مر الكرام، وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد.

وقد ينتهي السكوت عنهم، والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها، بدلًا من الفحش في الرد، واللجاج في العناد، فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير؛ إذ يرون صاحب الدعوة محتملًا معرضًا عن اللغو، ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويُعزلون! وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وقد يثور غضبه على جهالة الجهال، وسفاهة السفهاء، وحمق الحمقى، وإذا قدر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة.

وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس، وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام؛ لذا، يأمره ربه أن يستعيذ بالله لِيَنْفَثِئَ غضبه، ويأخذ على الشيطان طريقه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

وهذا التعقيب: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقرر أن الله سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم، عليم بما تحمله نفسك من أذاهم، وفي هذا ترضية وتسرية للنفس، فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم، وماذا تبتغي نفس بعد ما يسمع الله ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين؟!

إن القلب البشري هو أقرب ما يكون إلى جهاز الاستقبال، وأصحاب الدعوات لا بد أن يحاولوا تحريك المشير ليتلقى القلب من وراء الأفق، ولمسة واحدة بعد ألف لمسة قد تصله بمصدر الإرسال! إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته، فيهجر الناس، إنه عمل مريح، قد يفثأ الغضب، ويهدئ الأعصاب، ولكن أين هي الدعوة؟ وما الذي عاد عليها من هجران المكذبين المعارضين؟! إن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية! فليضق صدره، ولكن ليكظم ويمض، وخير له أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقولون.

إن الداعية أداة في يد القدرة، والله أرعى لدعوته وأحفظ، فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله، والهدى هدى الله(6).

وإن في قصة ذي النون لدرسًا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه، وقصة ذلك أنه أُرسِل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه، فضاق بهم صدرًا، وغادرهم مغاضًبا، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم، ظانًا أن الله لن يضيق عليه الأرض، فهي فسيحة، والقرى كثيرة، والأقوام متعددون، وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة، فسيوجهه الله إلى قوم آخرين.

إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة، فضاق صدرًا بالقوم، وألقى عبء الدعوة، وذهب مغاضبًا، ضيق الصدر، حرج النفس، فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين، ولولا أن ثاب إلى ربه، واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه، لما فرج الله عنه هذا الضيق، ولكنها القدرة، حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه.

وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها، وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقًا، ولكنه بعض تكاليف الرسالة، فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا، ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا.

إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، ومن عتو وجحود، فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة، وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف، ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب! إن طريق الدعوات ليس هينًا لينًا، واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة، فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات، والنظم والأوضاع، يجثم على القلوب، ولا بد من إزالة هذا الركام.

ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة، ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة، ومن محاولة العثور على العصب الموصل، وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء، ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلًا تامًا في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها، وإن الإنسان ليدهش أحيانًا وهو يحاول ألف محاولة، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود، وقد أعيا من قبل على كل الجهود!

عرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يغضب لنفسه قط، إنما كان يغضب لله، فإذا غضب لله لم يقم لغضبه شيء.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار وجهه، حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ فقال: «في النار»، فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: «أبوك حذافة»، فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وبالقرآن إمامًا، إنا، يا رسول الله، حديثو عهد بجاهلية وشرك، والله أعلم من آباؤنا، قال: فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101](9).

درجات الناس في الغضب:

1-التفريط: فيفقد هذه القوة أو ضعفها، وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه: لا حمية له، ولذلك قال الشافعي رحمه الله: «من استغضب فلم يغضب فهو حمار»، فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلًا فهو ناقص جدًا .

2- الإفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار؛ بل يصير في صورة المضطر .

3- الاعتدال: وهو المحمود؛ وذلك بأن ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعث حيث تجب الحمية، وينطفئ حيث يحسن الحلم .

فمن آثار الغضب في الظاهر: تغير اللون، وشدة الرعدة في الأطراف، وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام، واضطراب الحركة والكلام، حتى يظهر الزبد على الأشداق، وتحمر الأحداق .

أما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام، الذي يستحي منه ذو العقل، ويستحي منه قائله عند فتور الغضب، وذلك مع تخبط النظم، واضطراب اللفظ .

أما أثره على الأعضاء: فالضرب، والتهجم، والتمزيق، والقتل، والجرح عند التمكن من غير مبالاة، فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته، وعجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوب نفسه ولطم خده .

وأما أثره في القلب مع المغضوب عليه: فالحقد، والحسد، وإضمار السوء، والشماتة بالمساءات، والحزن بالسرور، والعزم على إفشاء السر، وهتك الستر، والاستهزاء، وغير ذلك من القبائح(10).

علاج الغضب في المنهج الاسلامي :

1- الوقاية :

يوصي الرسول صلى الله عليه وسلم بدرء الغضب من بدايته، وتعويد النفس على منعه أو تخفيفه، ومن ذلك أيضًا إزالة مسببات الغضب .

2- العلاج بالكظم :

وهي مقاومة داخلية لإضعاف انفعال الغضب وتهدئته، وتعويد النفس على امتصاص الغضب، وإمساك النفس على ما فيها من الغيظ، روى ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من جرعة أعظم أجرًا عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله»(11).

3-العلاج المعرفي :

هو تعويد النفس على الاستجابة والخضوع للحق، وتذكر النماذج الحليمة الصابرة المتواضعة، وإقناع النفس بما يقتضيه العقل والمنطق، ومعرفة المخاطر الصحية لكثرة الغضب، ومناقشة الافكار غير المنطقية وتصحيحها.

4- العلاج السلوكي: ويكون ذلك باتباع الطرق التالية :

أ‌- تغيير الهيئة: أو الوضعية التي هو عليها في جلسة أو وجهة، أو الانشغال عن الأعمال بمهنة، أو قراءة، أو لعب، وغير ذلك، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع»(12).

ب- الإطفاء: إطفاء الغضب بالماء؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ»(13).

ج- السكوت: أي قطع الكلام من الشتم والسب ونحوه، فأشد ما يجره الغضب عند حدوثه هو الرغبة الشديدة في الكلام والتعدي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علموا، ويسروا ولا تعسروا، وإذا غضبت فاسكت، وإذا غضبت فاسكت، وإذا غضبت فاسكت»(14).

العلاج اللفظي :

وهو التلفظ بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، فهو مصدر الغضب، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200](15).

____________________

(1) إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي (3/155).

(2)أخرجه البخاري (6116).

(3) أخرجه مسلم (2603).

(4) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للأصفهاني (5/312).

(5) أنساب الأشراف، للبلاذري (10/331).

(6) في ظلال القرآن، سيد قطب (سورة الأعراف).

(7) في ظلال القرآن (سورة الأنبياء).

(8) تفسير السعدي (سورة القلم).

(9) أخرجه البخاري (7089).

(10) إحياء علوم الدين (3/167-168).

(11) أخرجه ابن ماجه (4189).

(12) أخرجه أبو داود (4782).

(13) المصدر السابق(4784).

(14) أخرجه أحمد (2556).

(15) الغضب.. مسبباته، وطرق علاجه في المنهج الاسلامي.