المخرج من الفتنة
عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصفاء، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادًا؛ كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه»(1).
الفتن تحيط بالقلب فتصيره كالمحصور المحبوس، وقال الليث: حصير الجنب: عرق يمتد معترضًا على الجنب إلى ناحية البطن، فشبه إحاطتها بالقلب بإحاطة هذا العرق بالبطن.
ومعنى أشربها دخلت فيه دخولًا تامًا، وألزمها، وحلت منه محل الشراب، ومنه قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93]، أي: حب العجل، ومنه قولهم: ثوب مشرب بحمرة، أي خالطته الحمرة مخالطة لا انفكاك لها.
قال القاضي عياض رحمه الله: ليس تشبيهه بالصفا بيانًا لبياضه، لكن صفة أخرى لشدته على عقد الإيمان، وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه، كالصفا؛ وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء.
وقال أيضًا رحمه الله: شبه القلب الذي لا يعي خيرًا بالكوز المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه، وقال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الرجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز فإذا انكب انصب ما فيه، ولم يدخله شيء بعد ذلك(2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأً أو معاذًا فليعذ به»(3)، وقوله من تشرف لها تستشرفه، أي: من انتصب إليها وخاض فيها قابلته بشرها، وأهلكته وصرعته.
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن»(4).
وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وهو يذكر الفتن التي تصيب الأمة من بعده: «منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئًا، ومنهن فتن كرياح الصيف، منها صغار ومنها كبار»(5).
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن»(6) .
وقد بيَّن سبحانه وتعالى أن من سننه أنه يبتلي بالفتن، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، أي: نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَنَبْلُوكُمْ}، يقول: نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال(7).
والابتلاء بالشر مفهوم أمره؛ ليتكشف مدى احتمال المبتلى، ومدى صبره على الضر، ومدى ثقته في ربه، ورجائه في رحمته، فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان.
إن الابتلاء بالخير أشد وطأة، وإن خيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر.
إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر، ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير، كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة، ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم، الجامحة في أوصالهم.
كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان، فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان، وما يغريان به من متاع، وما يثيرانه من شهوات وأطماع!
كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء! كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح، ثم لا يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال، وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويذلل الأرواح! إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء، ويستحث المقاومة، ويجند الأعصاب، فتكون القوى كلها معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها، أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينيمها، ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة! لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء! وذلك شأن البشر، إلا من عصم الله، فكانوا ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»(8)، وهم قليل! فاليقظة للنفس في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر، والصلة بالله في الحالين هي وحدها الضمان(9).
عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول: «اللهم مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك»، قالت: فقلت يا رسول الله أو إن القلوب لتقلب؟ قال: «نعم، ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب» قالت: فقلت يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: «بلى، قولي اللهم رب النبي محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني»(10).
قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}[الأنفال:24].
ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة، «يحول بين المرء وقلبه» فيفصل بينه وبين قلبه، ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه، ويصرفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد، وصاحبه لا يملك منه شيئًا، وهو قلبه الذي بين جنبيه! إنها صورة رهيبة حقًا يتمثلها القلب في النص القرآني، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس! إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم، اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته، والحذر من كل هاجسة فيه، وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقًا، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس، والتعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته، أو غفلة من غفلاته، أو دفعة من دفعاته.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله المعصوم، يكثر من دعاء ربه: «اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك»(11)، فكيف بالناس، وهم غير مرسلين ولا معصومين؟! إنها صورة تهز القلب حقًا، ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات، ناظرًا إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة القاهر الجبار، وهو لا يملك منه شيئًا، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير! صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ}[الفرقان:24](12).
وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}[النور:63].
وإنه لتحذير مرهوب، وتهديد رعيب، فليحذر الذين يخالفون عن أمره، ويتبعون نهجًا غير نهجه، ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة، ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس، وتختل فيها الموازين، وينتكث فيها النظام، فيختلط الحق بالباطل، والطيب بالخبيث، وتفسد أمور الجماعة وحياتها فلا يأمن على نفسه أحد، ولا يقف عند حده أحد، ولا يتميز فيها خير من شر، وهي فترة شقاء للجميع(13).
من أسباب الفتن:
أ- الابتلاء والتمحيص، كما قال الحق جل ثناؤه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران:179]، وذلك ليحيا من حيّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.
ب- ازدياد الشر بمرور الزمن من ذهاب الصالحين، وفقد العلماء الربانيين، ورفع العِلْم، وظهور البدع، ففي حديث الزبير بن عدي عندما شكوا إلى أنس بن مالك رضي الله عنه ما يلقون من الحجاج، قال أنس رضي الله عنه: ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم(14)، وعن الحسن قال: كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.
فهذه الفتنة إذا وقعت، اصطلى بنارها الجميع، ويعمهم عقاب الله سبحانه، ويبعثون على نياتهم، ألم يقل سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}[الأنفال:25]؟
وتأكيد لدلالة الآية الكريمة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)}[المائدة:78-79].
ج- التزلف والتودد للأمراء: فمنهم منتسبون إلى العلم والدين، ممن اتخذوا الدين مطية للظفر بحظوظ الدنيا: من رئاسات، ومناصب، وجاه، ومال، حتى إنهم ليتنافسون فيها، ويحصل منهم من الحسد والبغي ما لا تكاد تجد مثله عند جهال العوام.
وتجد منهم من يسارع في التزلف للأمراء على حساب دينه؛ ليبلغ عندهم منزلة، ويصيب عرضًا من الدنيا.
وقد جاء ذكر الفتنة من قبل هذين الصنفين، الأمراء والعلماء، في حديث عمر مرفوعًا: «أتاني جبريل فقال: إن أمتك مفتتنة من بعدك، فقلت: من أين؟ قال: من قبل أمرائهم وقرائهم، يمنع الأمراء الناس الحقوق فيطلبون حقوقهم فيفتنون، ويتبع القراء هؤلاء الأمراء فيفتنون، قلت: فكيف يسلم من سلم منهم؟ قال: بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم أخذوه، وإن منعوه تركوه»(15).
د- كما أن الفتنة لغير المؤمنين إنذار وامتحان؛ لكي يعودوا إلى دين الله الحق، ومن لم يستفد من أثر الفتنة، فإنما لتقوم عليه الحجة، وحتى يزداد في غوايته بإصراره، يقول تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[آل عمران:178].
وفي نزول أول آيات سورة العنكبوت يقول سبحانه: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)} [العنكبوت:1-3].
والله سبحانه يمتحن قلوب أهل الإيمان بالصبر على الفتن، وحسن التحمل في مقابلتها، دون أن تمس جوهر العقيدة، أو يكون لديه ميل للفتنة ودعاتها، يقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}[الفرقان:20].
أنواع الفتن:
منها فتنة المال، وفتنة النساء، وفتنة الهوى وحب التسلي، وفتنة الشهوات، وفتنة الشبهات، وفتنة الولد والأهل، وفتنة الجور والبغي، وغيرها من الفتن التي تتلبس بأزياء مختلفة، وتحت مسميات متباينة، كما أوضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كقطع الليل المظلم» تتلاحق بعضها وراء بعض.
وكل محرك لنوع من أنواع الفتن قد أضمر مصالح يريدها، ومفاسد يبثها لتحقق غرضه، وأشد هذه الفتن فتنة الدين، الذي هو أعز ما يجب أن يحرص عليه المسلم.
والناس في تأثرهم بالفتن يختلفون بحسب منزلة الإيمان من قلوبهم، سواء بالفتنة الخاصة في النفس والولد والأهل، أو الفتنة العامة في المجتمع وبالآفات والنوازل، ووفرة المال والتكاثر به وغير ذلك.
ذلك أن الفتنة التي تمر بالمؤمن يستفيد منها بقدر إيمانه، صبرًا وتحملًا يؤجر عليه، وتفقدًا لجوانب الضعف في نفسه ليعالج ذلك، ويصلح ما اعوج من أعمال نحو أسرته، أو ما بدر في مجتمعه؛ ليكون ساعيًا مع غيره في إزالة ما يقدر عليه بيده أو بلسانه، أو مساهمة بجاهه وماله، أو بقلبه، وهو أضعف الإيمان؛ لأن المؤمنين يسعى بذمتهم أدناهم، فيكون ذلك بالنصح وحسن التوجيه، والتعليم والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا تأمل المسلم ما جاء في كتاب الله من آيات الفتن، فإن المستقرئ لها، بتمعن وعمق، يجد أغلبها يرتبط بأصحاب الأهواء، من أهل الكتاب المعادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الحق من ربه جل وعلا، رغبة في صرف أمر الله وتشريعه إلى ما تهوى القلوب، وتصف الألسن، والحق لا يتبع الهوى، يقول سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}[المؤمنون:71].
كما يرتبط الجزء الآخر بالباطنيين من المنافقين، ومن ارتبط بهم ممن يُظهِر الإسلام ويُبطِن الكفر، فهم على منهج واحد مع أهل الكتاب في نظرتهم للفتن، من حيث معاندة الحق، والرغبة في زعزعة الأمة، وفتح ثغرة ينفذ منها العدو للتشكيك في تعاليم الإسلام، محبة في تخفيف ثقله على بعض النفوس، يقول سبحانه في السحر، الذي هو فتنة من الفتن، وشر يفسد المجتمعات، ويفكك الأسر المترابطة: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}[البقرة:102].
المستفيدون من الفتنة:
إن الفتن عندما يشتعل فتيلها، بسبب أو بدون سبب ظاهر، تبدأ دائرة هذا السعير تتسع شيئًا فشيئًا، كالحريق في الهشيم، الذي يأكل الأخضر واليابس، ويدمر ما امتدت إليه نار هذا الحريق.
فإن شياطين الإنس، وأهل الأهواء، ومن في قلبه مرض، سواء كان بالنفاق: مرض الشهوة والهوى، أو مرض التقليد والسير بغير هدف، أو المرض الأشد وهو الحسد والكراهية، بدون أن يفكر إلا فيما يتضمنه الحسد المذموم ممن يلتئم جمعهم، «كما تداعى الأكلة على قصعتها»(16)، كل واحد من هذه الفئات يزيد نار الفتنة اشتعالًا، ليعود بثمرة ظاهرة أو محسوسة؛ لأن القلوب لم تحصن بالإيمان الصادق، فكانت مرتعًا للأفكار الرديئة التي تضر بالأمة، ولم يكن العقل محصنًا بنور الثبات على الحق، ليتبصر ويسترشد، ولا بنور الإرشاد وحسن العقيدة، فلا يستفيد من ذلك الوضع غير الأعداء المتربصين بالأمة الإسلامية، لإفسادها وخلخلة صفوفها، بما أصاب أمنها من جراء هذه الفتنة الموجهة من الأعداء للإساءة والإضرار، حسدًا وحبًا في النفاذ للمجتمع الإسلامي، وتسييره كيفما يريدون، خلف شعارات مختلفة.
المخرج من الفتن:
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روى الإمام أحمد بسنده إلى أبي سعيد الخدري، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، ذات نهار، ثم قام خطيبًا إلى أن غابت الشمس، فلم يدع شيئًا مما يكون إلى يوم القيامة إلا حدثناه: حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه، فكان مما قال: «إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء»(17) إلى آخر الحديث المطول.
1- الانعزال عن الدخول فيها:
أورد البخاري في باب الفتن عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»(18).
فإذا اتسع لهيب الفتنة تأثر بلظاها المحسن قبل المسيء، ويحتار فيها الحليم، سببًا ومسببًا، ولا يظهر للحليم والمتابع من هو المستفيد حسب معاييره، أما عند الله فإنها خسارة وليست بفائدة المخالفة الساعي فيها، والمحرك لها بأي طريقة كانت، ولو كانت كلمة منه لا يلقي لها بالًا ضد شرع الله، ألم يقل سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}[الفرقان:25].
ولا شك أن الفتن بأنواعها وتعددها، في أي عصر ومكان، بحسب الأوضاع الاجتماعية للناس، وما وراء هذه الفتن من نتائج وظواهر، وما يستعمل في سبيلها من وسائل تبليغية، سواء كانت إعلامية بالأكاذيب، أو عملية بالتخريب والتخويف والقتل، أو غير ذلك من أسلوب خفي، وخلف أي غاية كانت، تراهم يظهرون غير ما يبطنون.
فكلها شر وفساد، والله لا يحب الفساد، والشر عمل شيطاني؛ لأن أول من قاد إليه عدو الله إبليس، وأخذ على نفسه عهدًا أن يضل بني آدم، ويعدهم ويمنيهم، وأن يأتيهم من كل جهة حتى لا يشكروا نعم الله عليهم: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}[النساء:120].
وقد أخبر الله تعالى عن فتية الكهف أنهم اعتزلوا قومهم لما رأوهم على الكفر، فقال: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلى الْكَهْفِ}[الكهف:16].