التربية القرآنية للعقل
عناية الإسلام بالعقل:
ينوه الإسلام تنويهًا كبيرًا بالعقل، ويعلي من مكانته وقيمته، ويحفل به وبوسائل الإدراك، ونجد شاهدًا على ذلك في الآيات القرآنية الكريمة التي تواردت بشأنه، وينبئك عن هذا أن مشتقات كلمة (العقل) تكررت في القرآن الكريم حوالي سبعين مرة، وأما الآيات التي تتصل بالعمليات العقلية، وتحث على النظر والتفكر والتدبر والتبصر في آيات الله في الأنفس والآفاق، وفي حوادث التاريخ، وأحكام التشريع، وتتوجه بالخطاب لأولي الألباب، فقد بلغت من الكثرة حدًا أعطى الإسلام ميزة بين كل المذاهب والشرائع.
قال تعالى:{إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَاب}[الرعد:19]، قال ابن كثير: «أي: إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة، جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.
وقوله: {إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألبَاب}، يقول تعالى ذكره: إنما يعتبر حجج الله، فيتعظ، ويتفكر فيها، ويتدبرها أهل العقول والحجى، لا أهل الجهل والنقص في العقول»(1).
عن أبي العلاء قال: «ما أعطي عبد بعد الإسلام أفضل من عقل صالح يرزقه»(2).
وقال مطرف: «ما أوتي أحد من الناس أفضل من العقل»(3).
وعن يوسف بن أسباط قال: «العقل سراج ما بطن، وملاك ما علن، وسائس الجسد، وزينة كل أحد، ولا تصلح الحياة إلا به، ولا تدور الأمور إلا عليه»(4).
ويخصهم الوحي بطلب التقوى منهم، فيقول تعالى: {وَاتَّقُون يَا أُولي الأَلبَاب} [البقرة:197]، ويخصهم بالخطاب عند التشريع، وبيان الأحكام تقديمًا لهم، فيقول سبحانه: {وَلَكُم في القصَاص حَيَاةٌ يَا أُولي الأَلبَاب لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
وترجع أهمية العقل في القرآن الكريم إلى الآتي:
(أ) العقل ميزة الإنسان التي خصه بها الله تعالى؛ لأنه منشأ الفكر الذي جعله مبدأ كمال الإنسان، وما أودعه فيه من قدرة على الإدراك والتدبر، فالعقل الإنساني:
أداة الإدراك والفهم.
أداة النظر والتأمل.
أداة التلقي والمعرفة.
أداة التميز والموازنة بين الخير والشر.
(ب) العقل أداة اجتهاد وتجديد بما يملك من قدرات إدراكية، يقوم بدور مهم إلى يوم القيامة، وذلك بالنظر إلى انقطاع الوحي، فالعقل له دور في الاستقرار، وربط الواقع المتجدد بالدين.
(ج) العقل مناط التكليف؛ لأن التكليف خطاب من الله، ومن لا عقل له محال عليه الفهم، فالمجنون والصبي يتعذر تكليفه، فمناط التكليف هو العقل(5).
يقول الأستاذ العقاد: «والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية؛ بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي، التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه».
فالعقل هو هبة الله العظمى ومنحته لهذا الإنسان، به أكرمه وميزه على سائر المخلوقات، فأعطاه المفتاح الذي يفتح به أبواب الملكوت، ويدخل ساحة الإيمان بالله الذي سخر للإنسان كل ما في السماوات والأرض، ولذلك امتن الله تعالى على الناس بهذا العقل، وجعله موضوع المسئولية، فقال سبحانه:{قُل هُوَ الَّذي أَنشَأَكُم وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئدَةَ قَليلًا مَا تَشكُرُونَ} [الملك:23]، {إنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولًا} [الإسراء:36].
ولذلك جعل الله تعالى العقل مناط التكليف وسببًا له، فالخطاب الشرعي لا يتوجه إلا للعاقل؛ لأن العقل أداة الفهم والإدراك، وبه تتوجه الإرادة إلى الامتثال؛ ولذلك قال بعض السلف: «العقل حجة الله على جميع الخلق»(6).
ومن هنا جاءت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ترفع القلم، أي: التكليف والمؤاخذة،عمن فقدوا مناط التكليف، وهو العقل؛ بسبب الجنون أو ما يأخذ حكمه، فقال صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم»(7).
مهمة العقل:
إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة (الوحي)، ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول، ومهمة الرسول أن يبلغ ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام، وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح ومنهج النظر الصحيح، وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة، وليس دور العقل أن يكون حاكمًا على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض، بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله، وبعد أن يفهم المقصود بها، أي:المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص.
إن العقل البشري ليس هو الذي يصنع مقومات التصور الإسلامي، كما هو الحال في الفلسفة، إنما هو الذي يتلقاها، من مصدرها الرباني، ويدركهاصحيحة، حين يتلقاها وهو متجرد من أية مقررات سابقة في هذا الباب، سواء من مقولاته الذاتية، أو من مقولات العقائد المحرفة، ولو كان لها أصل رباني، وعليه أن يتقيد، فيما يتلقاه من ذلك المصدر الصحيح، بالمدلول اللغوي أو الاصطلاحي للنص الذي وردت فيه هذه المقومات، بدون تأويل، ما دام النص محكمًا، وأن يصوغ من هذا المدلول مقرراته هو ومنهجه في النظر أيضًا، فليس له أن يرفض هذا المدلول أو يؤوله، متى كان متعينًا من النص، بحجة أنه غريب عليه، أو صعب التصور عنده، أو أن منطقه لا يقره! فهو، أي العقل البشري، ليس حكمًا في صحة هذا المدلول أو عدم صحته في عالم الحقيقة والواقع؛ إنما هو حكم فقط في دلالة النص على مدلوله، وفق المفهوم اللغوي أو الاصطلاحي للنص، وما دل عليه النص فهو صحيح، وهو الحقيقة، سواء كان من مألوفات هذا العقل ومسلماته أم لم يكن، ويستوي في هذه القاعدة العقيدة والشريعة.
وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه»(8).
منهج القرآن في تربية العقل:
التفكير:
التفكير أمر مألوف لدى الناس، يمارسه كثير منهم، ومع ذلك فهو من أكثر المفاهيم غموضًا، وأشدّها استعصاءً على التعريف، ولعل مردَّ ذلك إلى أن التفكير لا يقتصر أمرُه على مجرد فهم الآلية التي يحصل بها؛ بل هو عملية معقدة متعددة الخطوات، تتداخل فيها عوامل كثيرة تتأثر بها وتؤثر فيها، فهو نشاط يحصل في الدماغ بعد الإحساس بواقع معين؛ مما يؤدي إلى تفاعل ذهنيٍّ ما بين قدرات الذكاء وهذا الإحساس والخبرات الموجودة لدى الشخص المفكر، ويحصل ذلك بناءً على دافع لتحقيق هدف معين، بعيدًا عن تأثير المعوقات(9).
لقد دعا القرآن الكريم الإنسانَ إلى النظر في آفاق الكون من حوله، والتفكُّر في آلاء الله، وقراءة صفحة الكون المفتوحة أمامه، "في القرآن الكريم ما يزيد على ألف آية تتحدَّث عن معالم هذا الكون، وتذكر مفرداته من:السماوات والأرض، والشمس والقمر، والكواكب والنجوم، والجبال والبحار والأنهار، والمطر والرعد والبرق... إلى آخره، وإذا كانت هذه الآيات قد ذَكَرت تلك المفردات في سياق لفت الأنظار إلى مظاهر قدرة الله عز وجل في الخلق، دلالة على وحدانية الخالق جل وعلا، وتثبت قضية البعث الذي أنكره الكفار، فإنها مع ذلك قد جاءت في أسلوب وعبارة تفتح أمام العقل البشري آفاقًا واسعة للتفكير في دلالاتها، عبر عصوره المتعاقبة من بعد نزول القرآن، فيقوم لديه من هذه الدلالات في كل عصر ما يشهد بالحق الذي جاءت به"(10).
التفكير عملية نشطة وفاعلة، ولكن تنمية مهارات التفكير بطيئة، وتحتاج إلى الصبر والمصابرة، وينبغي الحرص على أن تجري بطريقة متكاملة، تسهّل اكتساب المعرفة والمهارات الأخرى.
ويُفضَّل أن يكون ذلك عن طريق العمل الجماعي، وذلك بتنظيم المتربين في مجموعات صغيرة، وإعطائهم الفرصة لإجراء التجارب بأنفسهم ليكتسبوا الثقة والجرأة، وبتدريبهم على حل المشاكل بأنفسهم، وعلى ممارسة أدوار إدارية وقيادية، ثم التنويع في المشاريع المعطاة لهم، بحيث تتراوح ما بين ما هو متوفر فيه المعلومات، وآخر يحتاج إلى معلومات، وآخر يحتاج إلى طريقة العمل، وهكذا(11).
تحرير العقل من سائر القيود والأغلال:
يقول تعالى: {فَليَأتُوا بحَديثٍ مثله إن كانُوا صادقينَ}[الطور:34]، إن في هذا القرآن سرًا خاصًا، يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداءً، قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها، إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن، يشعر أن هنالك شيئًا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير، وأن هنالك عنصرًا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن، يدركه بعض الناس واضحًا، ويدركه بعض الناس غامضًا، ولكنه على كل حال موجود.
هذا العنصر الذي ينسكب في الحس، يصعب تحديد مصدره: أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الصور والظلال التي تشعها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟ أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ أم إنها هي وشيء آخر وراءها غير محدود؟! ذلك سر مودع في كل نص قرآني، يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداءً...، ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله، في التصور الكامل الصحيح، الذي ينشئه في الحس والقلب والعقل، التصور لحقيقة الوجود الإنساني، وحقيقة الوجود كله، وللحقيقة الأولى التي تنبع منها كل حقيقة، حقيقة الله سبحانه.
وفي الطريقة التي يتبعها القرآن لبناء هذا التصور الكامل الصحيح في الإدراك البشري، وهو يخاطب الفطرة، خطابًا خاصًا، غير معهود مثله في كلام البشر أجمعين، وهو يقلب القلب من جميع جوانبه، ومن جميع مداخله، ويعالجه علاج الخبير بكل زاوية وكل سر فيه(12).
عن عمران بن حصين قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم لأبي: «يا حصين، كم تعبد اليوم إلهًا؟»، قال أبي:سبعة؛ ستة في الأرض، وواحدًا في السماء، قال: «فأيَّهم تعد لرغبتك ورهبتك؟»، قال: الذي في السماء، قال: «يا حصين، أمَا إنك لو أسلمت علَّمتُك كلمتين ينفعانك»، قال: فلما أسلم حصين، قال: يا رسول الله، علمني الكلمتين اللتين وعدتني، قال: «قل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي»(13).
وعندما سمع العرب عن دين الإسلام، وما دار من حديث حول النبي الذي بعث بمكة، بدأَت عقولهم تتفكر وتتدبر وتستنكر ما هي فيه من كفر وضلال، فها هو أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: "كان يعبد صنمًا، لا يفارقه حضَرًا ولا سفرًا، فخرج يومًا إلى السفر، فذهب لحاجته فقال: أيها الصنم، احفظ متاعي، فلما ذهب جاء الثعلب وبال عليه، فلما رجع أبو ذر وجده مبلولًا، فقال: واعجبًا!، السماء لم تمطر، فوجد أثر الثعلب، فرمق بطرفه نحو السماء، وقال:
أَرَبٌّ يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
فلو كان ربًا كان يمنع نفسه فلا خير في رب نأته المطالب
برئت من الأصنام يا رب كلها وآمنت بالله الذي هو غالب(14).
إثارة الحواس والوجدان:
يثير القرآن الكريم نظر الإنسان للتأمل في آيات الله المتنوعة، وإزالة التبلد والجمود الذي يقع في حس الإنسان من كثرة تكرار المشاهد، فالكون بضخامته الهائلة، ودقة معجزاته، وظاهرة الحياة والموت،… كل هذا يجعل الإنسان يستقبل هذه الأمور كلها كأنه يراها ويلاحظها لأول مرة، فينفعل وجدانه، ويستيقظ لحقيقة الألوهية.
المحافظة على العقل:
حرم الإسلام كل ما من شأنه أن يؤثر على العقل ويضر به، أو يعطل طاقته؛ كالخمر والحشيش وغيرها، قال تعالى: {يَاأَيهَا الذينَ آمَنُوا إنمَا الخَمرُ وَالمَيسرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلَامُ رجسٌ من عَمَل الشيطَان فَاجتَنبُوهُ لَعَلكُم تُفلحُونَ}[المائدة:90].
إن الإسلام منهج حياة، يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات، ثم يقيم له الأسس، ويضع له القواعد، التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة، كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها، وفق شريعة الله، فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك! والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير، وبترك وحي الله وهداه أعمى، واقتران الحديث عن تلقي الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي وحده، بالإشارة إلى العمى والبصر، بالسؤال التحضيضي على التفكير: {إن أَتبعُ إلا ما يُوحى إلَي قُل هَل يَستَوي الأَعمى وَالبَصيرُ أَفَلا تَتَفَكرُونَ} [الأنعام:50](15).
الاستقلال في الفهم وإتباع البرهان:
ربى الإسلام العقل على روح الاستقلال في الفهم والنظر واتباع البرهان، ونبذ التقليد غير القائم على الحجة؛ كما في قوله تعالى: {أَم اتخَذُوا من دُونه آلهَةً قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم}[الأنبياء:24]، {وَمَن يَدعُ مَعَ الله إلَهًا آخَرَ لَا بُرهَانَ لَهُ به فَإنمَا حسَابُهُ عندَ رَبه}[المؤمنون:117]، {قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إن كُنتُم صَادقينَ} [البقرة:111].
تنمية العقل ماديًا ومعنويًا:
كما دعا الإسلام إلى تنمية العقل ماديًا ومعنويًا؛ ماديًا بالغذاء الجيد الذي يقوي الجسم وينشط الذهن، ومن هنا كره للقاضي أن يقضي وهو جائع، وفضل تقديم الطعام على الصلاة إذا حضرا معًا.
أما معنويًا: فبالتأكيد على طلب العلم واعتباره أساس الإيمان، قال تعالى: {إنمَا يَخشَى اللهَ من عبَاده العُلَمَاءُ}[فاطر:28]، {وَقُل رَب زدني علمًا}[طه:114]، كما أتاح فرصة التعليم للجميع، وجعله حقًا مشاعًا بين أفراد المجتمع؛ بل جعل حدًا أدنى منه واجبًا على كل مسلم ومسلمة.
تحرير العقل من سلطان الخرافة، وإطلاقه من إسار الأوهام:
ومن هنا حرم الإسلام السحر والكهانة والشعوذة، وغيرها من أساليب الدجل والخرافة، كما أنه منع على العقل الخوض في الغيبيات من غير سلطان أو علم يأتيه من الوحي المنزل على الأنبياء، واعتبر ذلك مسببًا في هدر طاقته من غير طائل، قال تعالى: {إن الذينَ يُجَادلُونَ في آيَات الله بغَير سُلطَانٍ أَتَاهُم إن في صُدُورهم إلا كبرٌ مَا هُم ببَالغيه فَاستَعذ بالله إنهُ هُوَ السميعُ البَصيرُ} [غافر:56](16).
أخيرًا: أقوال هامة عن سلف الأمة في تربية العقل:
عن وهب بن منبه قال: «مكتوب في حكمة آل داود عليه السلام: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدق عن نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات، وإجمامًا للقلوب، وحق على العاقل ألا يرى ظاعنًا في غير ثلاث: زاد لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم، وحق على العاقل أن يكون عارفًا بزمانه، حافظًا للسانه، مقبلًا على شأنه».
قال أيوب القرية: «الرجال ثلاثة: عاقل، وأحمق، وفاجر؛ فالعاقل إن كُلِّمَ أجاب، وإن نطق أصاب، وإن سمع وعى، والأحمق إن تكلم عجل، وإن تحدث وهل، وإن حُمِل على القبيح فعل، والفاجر إن ائتمنته خانك، وإن حادثته شانك، وزادني غيره: وإن استكتمته سرًا لم يكتمه عليك».
قال لقمان لابنه: «يا بني، اعلم أن غاية السؤدد والشرف في الدنيا والآخرة حسن العقل، وأن العبد إذا حسن عقله غطى ذلك عيوبه وأصلح مساوئه».
عن الشعبي قال: «إنما كان يطلب هذا العلم ممن اجتمعت فيه خصلتان: العقل، والنسك، فإن كان ناسكًا، ولم يكن عاقلًا، وإن كان عاقلًا ولم يكن ناسكًا لم تطلبه؛ فإن هذا الأمر لا يناله إلا النساك العقلاء»، قال الشعبي: «فقد رهبت أن يكون يطلبه اليوم من ليس فيه واحدة منهما، لا عقل ولا نسك».
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «الرجال ثلاثة: فرجل عاقل؛ إذا أقبلت الأمور واشتبهت يأمر فيها أمره وينزل عند رأيه، وآخر ينزل به الأمر فلا يعرفه، فيأتي ذوي الرأي فينزل عند رأيهم، وآخر حائر؛ لا يأتمر رشدًا، ولا يطيع مرشدًا».
قال الخليل بن أحمد: «الناس أربعة: فكلم ثلاثة وواحدًا لا تكلمه، قال: رجل يعلم وهو يعلم أنه يعلم فكلمه، ورجل لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم فكلمه، ورجل لا يعلم وهو يعلم أنه لا يعلم فكلمه، ورجل لا يعلم وهو يرى أنه يعلم فلا تكلمه»(17).
_______________________________________________________
(1) تفسير الطبري (الرعد:19).
(2) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (25942).
(3) المصدر السابق (35139).
(4) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (2/39).
(5) موقف القرآن من العقل، مدونة دروس البكالوريا لمادة العلوم الإسلامية.
(6) عناية الإسلام بالعقل، مجلة البحوث الإسلامية، العدد:46.
(7) رواه أبو داود (4399).
(8) عناية الإسلام بالعقل.
(9) التفكير ومهارات التفكير، عزيز محمد أبو خلف، موقع طريق الإسلام.
(10) منهج القرآن والسنة في بناء العقلية العلمية، موقع الألوكة.
(11) التفكير ومهارات التفكير.
(12) في ظلال القرآن، سيد قطب (الطور:34).
(13) رواه الترمذي (3483).
(14) نزهة المجالس ومنتخب النفائس، لعبد الرحمن الصفوري (1/22).
(15) في ظلال القرآن (الأنعام: 50).
(16) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص21.
(17) العقل وفضله، لابن أبي الدنيا، ص38.