وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا
إن ما نسمعه ونشاهده من تتابع آيات الله الكونية في هذه الأيام، حيث الفيضانات المدمرة، والأعاصير المهلكة، والخسوفات المتتابعة، والأمراض المرعبة، والأوبئة الفتاكة، وكثرة الحرائق وانتشارها؛ لَنُذُرُ تخويفٍ من الله لعباده، ورسل إنذار من الله لخلقه؛ إنها والله آيات باهرات على عظيم قدرة الخالق عز وجل، ففي أقل من دقيقة تهتز الأرض، وترجف بمن عليها، وتخلف وراءها القتلى والجرحى، ألا ما أعظم قدرة الله وأشد بأسه ونكاله.
قال المهلب: ظهور الزلازل والآيات أيضًا وعيد من الله تعالى لأهل الأرض، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] (1).
والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة بالمعاصي والإعلان بها؛ ألا ترى قول عمر حين زلزلت المدينة في أيامه: يا أهل المدينة، ما أسرع ما أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم (2).
فخشى أن تصيبه العقوبة معهم، كما قالت عائشة: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث»، وإذا هلكت العامة بذنوب الخاصة، بعث الله الصالحين على نياتهم (3).
قال القرطبي في قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا}: فيه خمسة أقوال:
الأول: العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفًا للمكذبين.
الثاني: أنها آيات الانتقام تخويفًا من المعاصي.
الثالث: أنها تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى مشيب، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك، وهذا قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
الرابع: القرآن.
الخامس: الموت الذريع، قال الحسن (4).
إن أريد بالآيات ما يقترحه الكافرون يكون المعنى: لا نرسلها إلا تخويفًا بين يدي نزول العذاب العاجل، كالطليعة والمقدمة، فإن لم يتعظوا وقع عليهم، وإن أريد بالآيات ما يحدثه الله عزّ وجل من حوادث كالزلازل وغيرها يكون المعنى: أنه تعالى يفعل ما يتعظ به الآخرون وينزجرون (5).
وقال ابن كثير: يقول تعالى: إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا، فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة.
ولهذا لما خير رسول الله عليه الصلاة والسلام بين أن يعطى ما سألوا، فإن أجابوا وإلا عوجلوا، وبين أن يتركهم وينظرهم، اختار إنظارهم، كما حلم عنهم غير مرة، صلوات الله عليه؛ ولهذا قال تعالى إرشادًا لنبيه إلى الجواب عما سألوا: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ} أي: الأمر كله لله، وهو يعلم العواقب في الأمور، {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 20]، أي: إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله في وفيكم.
هذا مع أنهم قد شاهدوا من معجزاته عليه السلام أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره، فانشق باثنتين فرقة من وراء الجبل، وفرقة من دونه.
وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا، ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادًا وتثبتًا لأجابهم، ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادًا وتعنتًا، فتركهم فيما رابهم، وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96- 97]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111] (6).
عن سعيد بن جبير، قال: قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سخرت له الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإن سرك أن نؤمن بك ونصدقك، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبًا، فأوحى الله إليه: «إني قد سمعت الذي قالوا، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئت أن تستأني قومك استأنيت بها»، قال: «يا رب أستأني» (7).
عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم، قال: «لا، بل استأن بهم» وأنزل الله تعالى {وَمَا مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} الآية (8).
عن ابن عباس: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا، ونؤمن بك قال: «وتفعلون؟» قالوا: نعم: فدعا، فأتاه جبريل فقال: «إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة»، فقال: «بل باب التوبة والرحمة» (9).
عن أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت: سمعت الزبير يقول: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قبيس: «يا آل عبد مناف، إني نذير»، فجاءته قريش فحذرهم، فقالوا: تزعم أنك نبي يوحى إليك، وأن سليمان سخر له الريح والجبال، وأن موسى سخر له البحر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال، ويفجر لنا الأرض أنهارًا، فنتخذها محارث، فنزرع ونأكل، وإلا فادع الله أن يحيي لنا موتانا لنكلمهم ويكلموننا، وإلا فادع الله أن يصير لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهبًا، فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك كهيئتهم.
قال: فبينا نحن حوله، إذ نزل عليه الوحي، فلما سري عنه قال: «والذي نفسي بيده، لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكنه خيّرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم؛ فتضلوا عن باب الرحمة، فلا يؤمن منكم أحد، فاخترت باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم، وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك، ثم كفرتم، أنه يعذبكم عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين»، ونزلت: {وَمَا مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}، حتى قرأ ثلاث آيات ونزلت: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى الآية} [الرعد: 31]، ولهذا قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ} (10).
وقوله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا}، قال قتادة: إن الله خوف الناس بما يشاء من آياته لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال: يا أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.
وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب مرات، فقال عمر: أحدثتم، والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن.
وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله، عز وجل، يرسلهما يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره»، ثم قال: «يا أمة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا» (11).
قال المراغي: إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات، لعلهم يعتبرون ويذّكّرون فيرجعوا (12).
وقوله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} أي: لم يكن القصد بها أن تكون داعية وموجبة للإيمان الذي لا يحصل إلا بها، بل المقصود منها التخويف والترهيب ليرتدعوا عما هم عليه (13).
كتب بعضهم عن زلزلة حدثت يصفها وأسبابها، فكان مما قال: فكان ما حدث منها عبرة للبيب العاقل، وحسرة على المصر الغافل، وإزعاجًا للمتباطئ عن الطاعة والمتثاقل، وما ظلم الله عباده بإهلاك النسل والناسل، ولكنهم تعاموا عن الحق وتمادوا في الباطل، وأضاعوا الصلوات وعكفوا على الشهوات والشواغل، وأهدروا دم المقتول وبذلوا الرشوة في ترك القاتل، وارتكبوا الفجور وشربوا الخمور وانتشر فسقهم في القبائل، وأكلوا الربا والرشا وأموال اليتامى وهي شر المآكل، وزهدوا فيما رغبوا فيه وطمعوا في الحاصل، ومن بقي منهم إنما يستدرج في أيام قلائل، وما جرى على العباد فعبرة وموعظة للخارج والداخل، والله يمن على الإسلام وأهله بفرج عاجل.
لقد كان السلف الصالح عند حدوث الزلازل والآيات يخافون خوفًا عظيمًا، يخافون أن يكون ذلك بسبب ذنب أحدثوه، فيرجعون إلى أنفسهم بالمحاسبة والتوبة والإنابة والاستغفار للرحيم الغفار.
عن صفية بنت أبي عبيد قالت: زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السُّرُر، فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم؟ لقد عجلتم، لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم (14).
إن للمعاصي والمنكرات أيها الأحبة تبعات وخيمة وأخطار جسيمة، تلحق بأهلها إذا لم يبادروا بالتوبة والرجوع إلى الله جل وعلا، فهذه الذنوب قد أفسدت النفوس وأعمت القلوب، وأهلكت الديار، وأذلت أممًا قد سبقت في الأمصار، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن آثار الذنوب والمعاصي: أنها تحدث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء، والزرع والثمار والمساكن (15).
لأن أصحابها لم يمتثلوا لأوامر ربهم سبحانه الذي نهاهم عن فعلها، وحذرهم من الاجتراء عليها، فاقترفوا السيئات وجاهروا بالمحرمات، وأفسدوا في البر والبحر والجو بالمنكرات، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: أي: استعلن الفساد في البر والبحر، أي: فساد معايشهم ونقصها، وحلول الآفات بها، وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك، وذلك بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها (16)، مع أن خالقهم جل جلاله ذكَّرهم بحال من قبلهم، حيث حلَّ عليهم العقاب ونزل بهم العذاب، فتبدلت عليهم الأحوال وصاروا مضربًا للأمثال، بعد أن بدلوا الأمن والاطمئنان بالكفر والطغيان، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: وعلى كل حال، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان، لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكورة، ولكن الأمثال لا يعقلها عن الله إلا من أعطاه الله علمًا (17).
إن من لطف رب العزة وتمام قدرته وكمال حلمه وكرمه بخلقه أنه لا يعاجلهم بالعقوبة؛ بل يمهلهم ليتوبوا ويرجعوا عما قدمت أيديهم، يقول الشيخ السعدي رحمه الله: وسبحان الحليم الذي لا يعاجل العاصين بالعقوبة، بل يعافيهم ويرزقهم، كأنهم ما عَصَوه مع قدرته عليهم (18).
فيرسل لهم سبحانه النذر، ويذكرهم جل وعلا بالآيات، فيبعث عليهم الفيضانات المهلكة والرياح المروعة والزلازل المدمرة؛ لعلها تُحيي قلوبًا مرضت بالذنوب والمحرمات، فيتوب أصحابها لرب البريات، ويتركوا المعاصي والمنكرات، فيقبلوا على فعل الطاعات والتزود من الخيرات.
فهذه الآيات التي يرسلها الواحد الجبار كالزلازل والبراكين، ليست للتسلية وإنما للعظة والاعتبار، والرجوع للواحد القهار، ولكن بعض الجهلة من المسلمين ممن قلَّ فيهم الوازع الديني، وطغى عليهم الجانب العقلي؛ وتأثر بالكفار؛ وبمساعدة وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو المقروءة، أردوا قلب الحقائق والتلبيس على الناس، وإبعادهم عن دينهم، فزعموا أن ما يحدث من هذه الآيات كالزلازل والفيضانات ما هي إلا كوارث طبيعية وظواهر جغرافية عادية؛ وأن هناك بلدانًا أمنع من أن تحل بهم هذه الآيات الربانية والنذر السماوية! لأنهم ليسوا على خطها أو لاستعدادهم لها.
أيها الأفاضل الكرام أنصدق هؤلاء الكذبة؟ أم نصدق أصدق القائلين الذي أخبرنا أنه يرسل هذه الآيات للناس من باب التهديد والوعيد الشديد، لعلهم إليه سبحانه يرجعون، ويرتدعوا عما هم عليه متجرئون، فقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
قال قتادة رحمه الله: إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون (19).
فعلينا ألا نلتفت لهؤلاء الجهلة؛ وأن نبادر إلى التوبة النصوح، ونسارع في الأوبة والغفران قبل فوات الأوان، فإن في ذلك النجاح والفلاح، ونحذر أشد الحذر من التسويف والتأخير فإن هذا من تلبيس الشيطان وهو من الخسران والحرمان.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: فالواجب عند الزلازل وغيرها من الآيات والكسوف والرياح الشديدة والفيضانات، البدار بالتوبة إلى الله سبحانه، والضراعة إليه وسؤاله العافية، والإكثار من ذكره واستغفاره (20).
وعلينا كذلك أيها الأفاضل أن نعلم أن من حكمة ربنا سبحانه أن العذاب إذا نزل بقوم قد فشت بينهم المنكرات، وجاهروا بالمحرمات، وعصوا رب الأرض والسماوات فإنه يعم، لكنه لطائعهم وأهل الصلاح فيهم بإذن الله رحمة ومطهرة، ولعاصيهم وأهل الفساد عذابًا وعبرة.
فعلينا جميعًا أيها الأحبة أن نبذل الوسع في نصح المسلمين وحثهم على الرجوع إلى الدين القويم، وسنة أفضل المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ونُذكِّرهم دائمًا بفضل الطاعات، ونحذرهم من شؤم المحرمات، ونقص عليهم أنباء من عصى رب العالمين وكذب المرسلين لعلهم بها يتعظون، وعن المحرمات يبتعدون، وإلى الخيرات يقبلون، والهداية والتوفيق من عند العزيز الوهاب (21).
ومع وضوح هذا المعنى الذي دلت عليه هذه القاعدة القرآنية: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}، ومع ظهوره، إلا أن من المؤسف جدًا أن يقرأ الإنسان أو يسمع بعض كتاب الصحف، أو المتحدثين على بعض المنابر الإعلامية من يسخرون أو يهوّنون من هذه المعاني الشرعية الظاهرة، ويريدون أن يختصروا الأسباب في وقوع الزلازل أو الفيضانات، أو الأعاصير ونحوها من الآيات العظام في أسباب مادة محضة، وهذا غلط عظيم.
ونحن لا ننكر أن لزلزلة الأرض أسبابًا جيولوجية معروفة، وللفضيانات أسبابها، وللأعاصير أسبابها المادية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: من الذي أمر الأرض أن تتحرك وتضطرب؟ ومن الذي أذن للماء أن يزيد عن قدره المعتاد في بعض المناطق؟ ومن الذي أمر الرياح أن تتحرك بتلك السرعة العظيمة؟ أليس الله؟ أليس الذي أرسلها يريد من عباده أن يتضرعوا له، ويستكينوا له لعله يصرف عنهم هذه الآيات؟!
ألم يتأمل هؤلاء دلالة هذه القاعدة من الناحية اللغوية؟ فإنها جاءت بأسلوب الحصر: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}، فهي في قوة الحصر الذي دل عليه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ} [آل عمران: 62]، وهي فقوة الحصر الذي دل عليه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، ونحوها من الآيات.
ثم ماذا يصنع هؤلاء الذين يهوّنون من شأن هذه الآيات، شعروا أم لم يشعروا، قصدوا أم لم يقصدوا، بمثل تلك التفسيرات المادية الباردة، ماذا يصنعون بما رواه البخاري ومسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح، قال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشرما فيها وشر ما أرسلت به» قالت: وإذا تخيلت السماء -وهي سحابة فيها رعد وبرق يخيل إليه أنها ماطرة- تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت عائشة: فسألته؟ فقال: «لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] (22).
ولا أدري كيف يجيب هؤلاء عن قوله تعالى في حق قوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25].
يقول ابن كثير: في بيان معنى قوله عز وجل: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ}: أي: من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} أي: نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار (23).
إن سنة الله لا تحابي أحدًا، وليس لفرد ولا لمجتمع حصانة ذاتية، وحين تقصر أمة في توقي أسباب المصائب العامة فإن عليها أن تتقبل نتيجة التقصير، والسعيد من اتعظ بغيره، وليست أمة بمنأى عن العذاب إذا عقدت أسبابه، ولا في مأمن من العقابِ إن سلكت سبيله وفتحت للذنب أبوابه، ولذلك أكثر الله تعالى من وعظ هذه الأمة بمصارع الأمم الغابرة، وحذر الآمنين من مكره الذين لا يقدرون الله حق قدره، ولا يقفون عند نهيه وأمره، فقال عز وجل: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيم (47)} [النحل: 45- 47]، وقال عز وجل: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُون (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون (100)} [الأعراف: 97- 100].
***
________________
(1) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/ 26).
(2) الفتن لنعيم بن حماد (2/ 620).
(3) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/ 26).
(4) تفسير القرطبي (10/ 281).
(5) الأساس في التفسير (6/ 3086).
(6) تفسير ابن كثير (4/ 257).
(7) تفسير الطبري (14/ 636).
(8) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 50).
(9) أخرجه أحمد (2166).
(10) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 85).
(11) تفسير ابن كثير (5/ 91).
(12) تفسير المراغي (15/ 65).
(13) تفسير السعدي (ص: 461).
(14) السنن الكبرى للبيهقي (3/ 476).
(15) الجواب الكافي (ص: 42).
(16) تفسير السعدي (ص: 643).
(17) أضواء البيان (2/ 459).
(18) تفسير السعدي (ص: 790).
(19) تفسير البغوي (3/ 121).
(20) مجموع الفتاوى (9/ 151).
(21) وما نرسل بالآيات إلا تخويفا/ ملتقى أهل الحديث.
(22) أخرجه مسلم (899).
(23) القاعدة الخامسة والعشرون {وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا}/ موقع المسلم.